سهى بشارة ونبيه عواضة وأنور ياسين في مركز «الاتحاد»
تدخل الصبية الهادئة بابتسامة تملأ وجهها مقر «اتحاد الشباب الديموقراطي»، وتصرّ على مصافحة الجميع رفيقاً بعد رفيق. تسلّم على الكبير والصغير. وعندما تسمع بكاء طفل رضيع، تدخل إلى قاعة جانبية للاستعلام عن مصدر الصوت.
في هذا الوقت، يصل نبيه عواضة، ثم يتبعه أنور ياسين، فيتجاوران في الجلوس إلى كرسيين بلاستيكيين. كان مقدراً للنشاط أن ينعقد في مكان آخر، لكن شباب «الاتحاد» أصروا على أن يحشروا بعضهم البعض في بيتهم، حفاظاً على حميمية اللقاء.
تخرج سهى بشارة من الغرفة الجانبية. تصافح الرفيقين، نبيه وأنور، تقبلهما، تسأل عن أحوالهما، وتجلس قربهما.
يحاول نبيه أن ينسحب عن الكرسي ليترك المكان لسهى التي تصر عليه مع أنور لكي يبقى إلى جانبهما. الرفاق الثلاثة صاروا جالسين إلى الكرسيين بمشهد عائلي رقيق.
أنور عن اليمين، يلقي بذراعه فوق كتف نبيه الذي جلس بينه وبين سهى كمثل الجالس بين أبويه. ولاحقاً، عندما يصل عفيف حمود بقامته الضخمة، سيعرض أنور عليه أن يُجلسه في حضنه. فالكرسيان، كما القلوب، يتّسعان لكل أبناء العائلة مهما كبرت.
ومن العائلة أيضاً، أسرى الأمس، حضر كل من كايد بندر وسوسن خنافر ورباح شحرور وزياد غنوي.
لـ«زهرة الجنوب» كثير من الكلام تقوله، بين رفاقها، في آخر مكان خرجت منه لتنفذ عملية اغتيال قائد جيش لبنان الجنوبي السابق أنطوان لحد. توجه التحية لجميع الشهداء الذين كانوا البداية وللطريق التي رسموها بدمائهم. وهؤلاء كانوا طلاباً ورفاقاً في «الحزب الشيوعي اللبناني». وكانوا جميعاً أصحاب حلم. تقول سهى: «الحلم كان كبيراً وما زال. الحلم هو في بناء بلد نشعر فيه بأننا موجودون كمواطنين، كشيوعيين، كديموقراطيين، كعلمانيين، كطائفيين... بلد يجد كلٌّ مكانه فيه».
روت سهى عن تجربتها في «الاتحاد»، خلال السبعينيات. قالت إنه في تلك الفترة، لم يكن هناك من مكان آخر يستوعبها. في هذا المكان الوحيد، وجدت حلمها الكبير. ووجد فيه الطلاب والأطفال والتلاميذ الذين يبحثون عن فسحة للدراسة، مكانهم. التحرير كان جزءاً من القضية الكبيرة. والمختبر في المدرسة كان قضية أيضاً في ظل الحرب الأهلية. والعنوان الفلسطيني كان حاضراً.
تسأل سهى نفسها دائماً عما قدمته للقضية الفلسطينية. تقول لرفاقها، شبان وشابات «الاتحاد» وضيوفهم الذين حضروا من جميع الأعمار وجلسوا إلى الكراسي والأرض أو اكتفوا بسماع صوتها عبر المكبرات من الغرف الجانبية واقفين، أنه إلى حين اعتقالها لم ينظم مرة تحرك من أجل الحقوق المدنية للشعب الفلسطيني. فيفتح هذا العنوان نقاشاً عن النشاطات التي ينظمها «الاتحاد» اليوم نصرة لهذه القضية.
قالت لهم إن الاتحاد تعرّض للاهتزاز لأسباب عدة، لكنه قادر على الاستمرار ولو في ظروف أصعب، وقادر على فرض نفسه على الساحة. وتساءلت وأجابت نفسها: «هناك أخطاء؟ ممكن. الكل ضدنا؟ ممكن. هناك جزء ما زال عنده حلم أنه بالانقسام لا تبنى الأوطان. نحن حفنة بالنسبة إلى الملايين التي نزلت إلى الشارع. عددنا قليل، لكن هذا هو الأمل».
توقفت الأسئلة التي وجهت إليها أمام الرصاصتين اللتين أطلقتهما على لحد. أوضحت أنها توقفت عند هذا الرقم لأنها كانت «متفلسفة» وقتها. الرصاصة الأولى كانت رسالة موجهة للشعب اللبناني لتوفير طلقات الحرب الأهلية. الثانية كانت تحية لأطفال الحجارة. ونفت وجود عمل سياسي أو اجتماعي في لبنان، بل مجرد «شركة».
في قناعتها، ليس هناك من سلاح يحرر شعباً آخر: «الطلقة من أرض فلسطين هي التي تحرر فلسطين، وأنا أكون الصدى لهذه الطلقة». أما عن مزارع شبعا، «فمن المنطقي أن تكون هناك مقاومة مسلحة لتحريرها».
تحدثت عن اختلاف الظروف السياسية بين اليوم والأمس: «في الستينيات والسبعينيات، كانت هناك حركات تجتاح العالم كله. التظاهرات الطلابية كانت تملك القدرة على النزول إلى الشارع والتغيير. ظروف الثورة كانت موجودة في كل بقاع العالم. بعد الثمانينيات، اختلفت الأمور. الملايين نزلوا إلى الشارع اليوم من دون أن يملكوا القدرة على التأثير، أو دفع رئيس حكومة أو جمهورية إلى الاستقالة».
وأشارت إلى أن معارك كانت تخاض لأجل عناوين مثل الحقوق الطلابية والمدارس ونوعية التعليم وحق كل طالب بمقعد دراسي، وأن أحداً لا يستطيع أن يهمّش دور المقاومين: «لسنا بحاجة للتعريف عنا. تراب الجنوب يعرفنا». كما رأت أن هناك ضرورة لإعادة التعمق وتغيير معاني اليسار ودوره، ولقراءة معمقة لتغير اليسار في العالم وفي لبنان.
وقفت رفيقة وسألتها: «متى تعودين للنضال أنت وولديك في وطنك؟»، فأوضحت: «الولدان يقرران عن نفسيهما. إذا كانت الظروف جيدة والعودة أكثر أهمية من الدور الذي أؤديه في الخارج، أعود. الله لم يخلق لبنان ويكسر القالب، وأرزاته يوجد منها الكثير في بلدان أخرى».
سهى اعتبرت أن الرفاق في «الاتحاد» ليسوا بحاجة إليها: «لا احد يحتاج إلى شخص. زمن الشخصنة انتهى»، معتبرة أنه من الصعب اليوم تأطير حركات الشبيبة في العالم كله ضمن أحزاب وإيديولوجيات. لذلك، من المهم رفع عناوين تهمها لاستجلابها: «اليوم، إذا وجهت دعوة لمحاضرة عن ماركس لا يحضرها أحد». ودعت إلى التركيز على المواضيع التي تهم الشباب، مقدمة مثال نظام تعليم الـ«LMD« في الجامعة اللبنانية.
لم تفكر أبداً بقتل نفسها طوال فترة الأسر. الفكرة لم تراودها قط. التحدي الوحيد كان وقتها بالنسبة إليها هو إمكانية السقوط في العمالة. لم تر أن هناك فرقاً بين أسير وأسيرة، «لكنهم لا يستطيعون أن يقطعوا الفوط الصحية عن الشبان. عندما يعتقلونني بعد أن أكون قد أنجبت طفلاً قبل ساعتين وأنتبه أن عندي حليباً أين سأذهب به.. وعندما أكون محجبة وينزعون حجابي أمام مجموعة من الرجال.. في كل هذه المواقف، أنتبه إلى أنني امرأة». أما على مستوى التعذيب بين الرجال والنساء، «لا أعرف ماذا يحدث مع الجلاد. عندما يرى ذكراً، تفيض عنده أساليب التعذيب».
سئلت سهى عن رد فعلها في حال التقت اليوم بأنطوان لحد في إحدى الدول الأوروبية، فردت ممازحة مع ابتسامة: «بغطّ على قلبه. بيموت بسكتة قلبية. وهالمرة بتظبط معي».
أصر عفيف على أن يختم اللقاء على طريقته. وقف وتوجه نحو سهى والرفاق قائلاً إنه «ليس هناك أكثر من اليساريين والعلمانيين في الوطن، لكن يجب أن نجمعهم. الحمد الله عَ السلامة يا رفيقة. كلنا روافع لهذا الحزب».
وفي مكان آخر، كان الرفاق والرفيقات يفتحون نقاشاً وجدالاً في معظم المواضيع التي طرحت، وتطرح كل يوم، بحثاً عن الأجوبة المناسبة. ففي الوطن الصغير، ما زال هناك من يتمسك بالحلم... والتغيير.
تعليقات: