المنطقة الحدودية رهينة الانتظار...

تبنين عاشت مناخاً اقتصادياً منتعشاً مقارنة بالبلدات الأخرى
تبنين عاشت مناخاً اقتصادياً منتعشاً مقارنة بالبلدات الأخرى


لم تستطع السنوات التسع التي تعاقبت بعد التحرير إحداث نقلة نوعية أو جزئية في نمط الحياة الذي ساد المنطقة الحدودية الجنوبية، فبقيت تعيش كأنها رهينة الانتظار. تراجع زخم العودة «المفترضة» للعائلات التي كانت تنزح إلى بيروت والمناطق هرباً من جحيم الاحتلال. البلديات التي يفترض بها أن تضخ الحياة في نبض المنطقة، تبدو كأنها تنتظر ما يهلّ عليها «بالقطارة» لتؤدي خدمات لا تغني من جوع

لا تتشابه أنماط الحياة اليومية في البلدات والقرى الحدودية، الممتدة من تحت جبل الشيخ، عند مرتفعات حرمون، إلى آخر النقاط الساحلية في الناقورة، عند أقصى الحدود الجنوبية. إحدى ميزات المنطقة تتأتّى من تنوّع طائفي ومذهبي داخل القرية الواحدة أو من تداخل البلدات والقرى في ما بينها، ويمكن للعابر على طول الطريق الدولية بين الناقورة ومرجعيون مروراً ببنت جبيل أن يرصد هذا التداخل «الإيجابي» بوضوح، لكنه يتلمّس في الوقت عينه أن لكل بلدة أو قرية أو طائفة نمطها المعيشي الخاص وعاداتها أو تقاليدها.

«القرى النائمة» عبارة تلتقي تحت مظلتها قرى المنطقة ومدنها اقتصادياً واجتماعياً، وفي حراك أهلها اليومي، بعد تسع سنوات من التحرير. وهي في بعض ساعات النهار، وخصوصاً في فترة المساء، وفي عدد من أيام الأسبوع، قبل «الويك إند» الذي قد يحمل بعض الأهل والأقارب من أماكن سكناهم أو «اغترابهم» إلى بيوت الأجداد والآباء، وكذلك طوال فترة الليل، تشبه حياة القرى الجردية النائية، إذ تخلو ساحاتها وأحياؤها مما يشير إلى وجود حياة فيها، فيما يشبّه القاطنون هذا النمط، من خلو الطرقات وانكفاء الناس إلى بيوتهم، بسريان قرار «منع التجول» غير المفروض من مراجع أمنية، بل من الركود والروتين والقلق من المجهول التي باتت جميعها مع «ملحقات» أخرى، فضلاً عن عدم وجود استقرار أمني «مضمون»، تلقي بظلالها الثقيلة على حياة الناس.

وحدهم جنود القبعات الزرق من قوات «اليونيفيل» وآلياتهم البيضاء لا يغيبون طويلاً عن الطرقات الموصلة بين المدن والقرى في دوريات «أمنية» لا تنقطع ليلاً أو نهاراً، تنفيذاً لمهمات «حفظ السلام» التي أوكلت إليهم منذ الاجتياح الأول لجنوب لبنان عام 1978، ثم بتقليصها بعد التحرير في أيار عام 2000، إلى زيادة عديدها ومهماتها وأماكن انتشارها بعد عدوان تموز 2006. ولتمتين أواصر العلاقات مع أهالي القرى، دخلت هذه القوات إلى حياتهم من باب الخدمات والمساعدات الاجتماعية والمدرسية والزراعية وتأهيل بعض البنى التحتية، حتى صار جنودها جزءاً لا يتجزأ من معيشة الناس ومبعث اطمئنان لهم، ولو كان شكلياً في بعض الأحيان.

ولمدّ جسور التفاهم والارتياح أكثر مع الناس والفاعليات الاجتماعية والسياسية، أسهمت هذه القوات بعد وصول أعدادها الكبيرة التي تجاوزت 13 ألف جندي من جنسيات مختلفة، إلى المناطق الجنوبية الحدودية وانتشارها بين الناقورة ساحلاً وحاصبيا جبلاً، في أعقاب تفاهم وقف إطلاق النار في صيف 2006، في بثّ الروح التجارية في مختلف المتاجر وبعض المرابع السياحية والأسواق الشعبية، تنفيذاً لسياسة اعتمدتها قيادة «اليونيفيل» من أجل تفعيل الحياة الاقتصادية، ودفع جنودها لإنفاق بعض مدخولهم أو أكثره في هذه المنطقة، في خطوة من شأنها تقريب المسافات وإيجاد علاقات روحية واجتماعية بين جنودها وأهل هذه المناطق، تسهيلاً لمهماتها. وعلى هامش هذه السياسة نشأت عشرات المطاعم والمراكز التجارية والأسواق الرديفة وأماكن اللهو ومرابع الرقص الليلية في بعض القرى. بيد أنها سرعان ما أصيبت بنكسة انكفاء جنود اليونيفيل وانقطاعهم عن هذه الأسواق والمرابع، بسبب التفجير الذي استهدف دورية للوحدة الإسبانية العاملة في منطقة مرجعيون، في مرج الخيام في حزيران 2007.

لم تمر أشهر قليلة بعد الحادثة، حتى أقفل العديد من المرابع التجارية والسياحية، وأصيب أصحابها بخسارة مادية فادحة، وخصوصاً أن البعض أتى من خارج المنطقة للاستثمار التجاري فيها. فبين القليعة وجديدة مرجعيون، عاصمة القضاء، نشأت العشرات من المحال والدكاكين التي أحدثت بعض الحراك المعيشي، إذ إن القاطنين، وخصوصاً في بعض القرى الشيعية والسنّية، يكادون لا يأبهون لغير الأمور المعيشية، بعيداً عن الترفيه واللهو التي تحتاج إلى تكاليف استثنائية، وهم أصحاب مداخيل غير ثابتة لا تكاد تكفي للطعام والشراب. ومن أجل ذلك تتفشى حالات الفقر والعوز في معظم هذه البلدات والقرى. «لكنّ أصحاب هذه المتاجر اليوم إما أنهم يرزحون تحت انكسار مادي، وإما هم في مواجهات قضائية أمام المحاكم بسبب الديون وعدم تسديدها. لقد غيّرت حادثة الإسبان مجرى الحياة كلها هنا في منطقة مرجعيون». يقول طوني ونّا من الخيام، العائد من السويد ليستثمر في مطعم بناه من خشب وقرميد إلى جانب الطريق، في بلدة القليعة. تتراوح أحاديث الناس في منطقة مرجعيون بين انتقاد الإهمال الرسمي وتخلّي الدولة عن مهماتها تجاههم، ومصاعب الارتزاق والبحث عن فرص عمل، الأمر الذي صار يدفع الشباب أكثر فأكثر إلى المغادرة نحو بيروت بحثاً عن جامعات ومجالات عمل، في ظل محدودية أماكن التسلية أو أندية اللهو والرياضة. هذه الهجرة الداخلية أو نحو دول الاغتراب، عانت منها جديدة مرجعيون منذ عام 1976، تاريخ بدء الاحتلال المباشر للمنطقة، وأدّت لاحقاً إلى خروج أكثر من 80 % من أهلها.

أما السوق الأسبوعية التي كانت تقام في ساحة البلدة كل يوم جمعة، فقد توقفت منذ بدء الاحتلال، وجرت محاولات لإعادتها بعد التحرير ولم تفلح. وكذلك جرت محاولات لإقامة مهرجانات على هامش المعارض والأسواق، نجحت في السنوات القليلة التي تلت هذا التحرير، ثم تلاشت شيئاً فشيئاً، حتى انعدمت، وخصوصاً بعد عدوان 2006. ولولا بعض المطاعم والاستراحات «المتواضعة» التي فتحت أبوابها على الأوتوستراد الجنوبي بين القليعة ومرجعيون لغابت أماكن الترفيه تماماً عن عاصمة القضاء وجوارها التي تفتقد معظم شهور السنة الحراك السياسي والاجتماعي، مع تواضع الحركة الثقافية التي تجري في بعض مواسم الصيف من خلال «نادي شبيبة المرج» أو «جمعية التنمية للإنسان والبيئة»، أو ما يسبق بعض المحطات الانتخابية. ويعود أقل من ألفين من أصل 20 ألف نسمة (يمثّلون عديد أبناء جديدة مرجعيون) إلى ساحاتها الخالية من نبض الحياة، وإلى بيوت ينتظر العجزة والمسنّون فيها، وهم أكثر من 60 في المئة. عودة الغائبين في زيارة قد تتكرر كل شهر أو كل فصل، ولا سيما في فصل الصيف. إلى الشرق من جديدة مرجعيون، أكثر ما يفعله «الخياميون» من مسلمين ومسيحيين، كل بضع سنوات، هو إعادة بناء بلدتهم بعد تدمير شبه كلي. وقد اتسعت بلدة الخيام لتصير شبه مدينة تنافس المدن الجنوبية من حيث الانتشار والعمران. مدينة أكثر ما تحتاج إلى ساكنيها الغائبين طوال أيام السنة، في أماكن انتشارهم المفروضة من الاحتلال سابقاً، وإن عادوا ففي بعض الأعياد أو عطلة الصيف، في زيارات سريعة أو إقامة لا تدوم كثيراً.

وقد جعل «معتقل الخيام» الرابض على ظهر البلدة الجنوبي، طبعاً قبل تدميره المنهجي في حرب 2006، من البلدة قبلة الحجيج نحو المنطقة المحررة بعد أيار 2000، إذ زارته مئات الآلاف من الوفود المحلية والعربية والدولية، ما أنعش البلدة وشجّع قيام مشاريع استثمارية، لكن، ضمن الضوابط «الشرعية» بالمفهوم الديني. ومن صار يفكر في العودة النهائية إلى المسقط والاستقرار في السكن فيه، أتى عدوان 2006 ليُبدّد هذه الآمال وليقطن البلدة شتاءً نحو 10% من أصل ثلاثين أو أربعين ألفاً، قد يتضاعف عددهم مرة أو مرتين في شهر من شهور الصيف. وتُحدث سوق الخميس المقامة في ساحة البلدة حراكاً اقتصادياً سرعان ما يتبدد لتنغلق على تجارتها الداخلية واحتياجات أهلها أو بعض القرى المجاورة الذين يقصدونها بحثاً عن ضالتهم في البضائع واللحوم.

أسهمت الوحدة النروجية العاملة في إطار قوات الطوارئ الدولية، التي أقامت في بلدة إبل السقي المسيحية الدرزية قبل التحرير، أي قبل عام 2000 وقبل مغادرتها جنوب لبنان نهائياً، في ازدهار البلدة على مختلف الصعد، حتى سمّيت بالقرية النموذجية. فقد قامت فيها المؤسسات الاجتماعية والتجارية الضخمة والسياحية ونوادي اللهو والمرابع الليلية، وكانت بوصلة الجنود الذين كانوا ينفقون فيها رواتبهم البالغة ثلاثة أضعاف رواتب مختلف جنود الطوارئ. وتولّدت من العلاقات الحميمة بين الأهالي وجنود الوحدة علاقات مصاهرة وزواج امتدت إلى بعض قرى الجوار. وإذ جاء التحرير لتخلع معه القرية قميصها المزدهر وتذوي أهميتها وتعاني من هجرة الشباب وذويهم، فقد سبّب استهداف الوحدة الإسبانية ضرب بعض المؤسسات التي قامت بعد عام 2006 وإقفالها، لكن ذلك لم يمنع بقاء مراكز تجارية لافتة فيها، بدأت تستقبل أخيراً بعض الجنود والضباط من الوحدة الإسبانية المقيمة قرب البلدة، بعد السماح «الحذر» لهم بالتعاطي التجاري مع بعض قرى الجوار.

من جنوبي مرجعيون والقليعة وبرج الملوك نحو كفركلا والعديسة ومركبا وحولا، ثم باتجاه ميس الجبل وبليدا وعيترون وصولاً إلى عاصمة «التحرير» مدينة بنت جبيل، تتشابه الصور في تأرجح الكثافة السكانية وزخم حركة المواصلات أو العمل، الذي عاد ليميل نوعاً ما في اتجاه المنحى الزراعي، وتحديداً زراعة التبغ. لكن ثمة ملاحظة في هذه القرى الشيعية بامتياز، هي أن القاطنين فيها يتراوحون بين 40% و50 % من أبنائها، وهم من أعمار متفاوتة.

بنت جبيل أشبه بالمدينة النائمة، وهو تشبيه أطلقته بعثة «إرفد» منذ حوالى 50 عاماً على البلدة ومنطقتها، بعد بحث اجتماعي اكتشفت خلاله أن «المدينة نائمة لا تستيقظ إلا في يوم الخميس، يوم السوق». أما اليوم، ومع حلول ساعات العصر، يبدأ ليل المدينة باكراً، ويزيد من ظلمته انقطاع التيار الكهربائي المستمر في تقنين يرهق الناس المتوّجين بالقلق على المصير، وتتراجع فيها ظهراً الحركة الاقتصادية والإدارية من خلال مركز القائمقامية، وليلاً حركة المواصلات وسط إقفال تام يخيّم على جميع المتاجر. بدأ زخم الحياة يتراجع في مدينة بنت جبيل، ربما من عام 1948، من بدء تاريخ احتلال فلسطين وانقطاع أهل الشمال الفلسطيني عن سوق بنت جبيل الشهيرة، سوق الخميس، التي كانت تمثّل صلة الوصل بين تجار ومزارعي لبنان وفلسطين وجبل حوران في سوريا، فضلاً عن كونها محور حلقة سياسية مندفعة بين الشيوعية والقومية والبعثية، مع رجوح كفة الأخيرة. ويؤكد المؤرخ مصطفى بزي أن لا أحد من أبناء بنت جبيل أو عائلاتها كان خارج أي تنظيم حزبي. «كانت مدينة تنبض بالحياة وكل ما فيها يتحرك، حتى إنها في يوم السوق، كان الناس يمشون بالعرض من شدة الزحام، وتمثّل، عدا عن الاجتماع التجاري والزراعي، ملتقى سياسياً وثقافياً، ما يشجع على المصاهرة والتزاوج».

دفعت بنت جبيل سابقاً وحاضراً ثمن دفاعها عن القضية الفلسطينية وفي مواجهة سلطات الانتداب وشركة الريجي المحتكرة للتبغ، وهي تعرّضت للتدمير أكثر من مرة. لكن ثمة هجرة «مشبوهة» أو «مدبّرة» ـــــ يقول بزي ـــــ بدأت مطلع الستينيات، حين فتحت الولايات المتحدة الأميركية باب الهجرة لأبناء بنت جبيل والجوار نحوها في موازاة هجرة داخلية باتجاه بيروت وحزام البؤس فيها، وخصوصاً لمن كان يعمل حرفياً في صناعة الأحذية والأقمشة وغيرها في فلسطين، بعد انقطاع الطريق نحوها بفعل الاحتلال، ما سبّب تراجع الزراعة، حيث كانت المدينة تزرع نحو 800 رخصة تبغ، وكذلك تراجع العمل بالحرَف وصناعة الأحذية. وجاء اجتياح عام 1978 لينهب المدينة ويدمّر بيوتها، ولم يبق من أهلها فيها أكثر من 500 نسمة من أصل نحو أربعين ألفاً. ومع الاحتلال المباشر، توقف العمل الحزبي فيها، واستمر كذلك إلى ما بعد التحرير عام 2000، لتعود إليها حزبية دينية باتت مبادئها تنعكس على مختلف الشؤون الحياتية والاجتماعية المقرونة «بالحلال والحرام».

شهدت المدينة انتعاشاً ملحوظاً بعد التحرير، وعاشت أجواء المهرجانات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. لكن، مع إطلالة السنة الرابعة للتحرير، بدأت المناسبات تركن إلى الهدوء ثم التوقف شيئاً فشيئاً، مع بقاء نشاطات أكثرها ثقافية لكنها محدودة قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة طوال العام. وأتى عدوان 2006 ليدمر كل ما كان ينبض بالحياة فيها، من البيوت التراثية، إلى المدارس والأندية والسوق التجارية الدائمة والأعمال الحرفية. ومنذ ذاك الحين والناس يتلهّون في كيفية إعادة بناء ما تهدّم، وينتظرون استكمال التعويضات لتنهي عقود البيوت، التي فقدت هويتها التراثية بسبب الفوضى القائمة. ومن الطبيعي أن تؤدي حالة الدمار الهائلة إلى نزوح آخر، حتى في صفوف من عادوا بعد التحرير، جعل المدينة تعيش بقلة قليلة من أهلها، على مساعدات ومعونات يقدمها المهاجرون وما تدرّ بعض المتاجر من نسب ضئيلة أو متدنية.

تبنين مزدهرة

تبنين القريبة من بنت جبيل، عاشت مناخاً اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً أفضل بكثير مما عاشته عاصمة القضاء، ولو أنها كانت تتعرض بين الحين والآخر لاعتداءات سبّبت خسائر في الأرواح والممتلكات. لكنّ وجودها خارج الاحتلال الإسرائيلي المباشر، وتمركز قوات اليونيفيل فيها، وانتقال الدوائر الحكومية إليها، عوامل أساهمت في انتعاش الحركة الاقتصادية والتوسّع العمراني، فضلاً عن بقاء أكثر من ثلث الأهالي فيها، إذ إن ثلثهم الآخر في بلاد الاغتراب، والثلث الثالث من العاملين والموظفين في بيروت. تنتشر في البلدة المحال والمتاجر والدكاكين التي تفتح حتى منتصف الليل، وما شجّع على ذلك وجود كتائب الأمم المتحدة المختلفة فيها منذ 31 عاماً، ما دفع بالعديد من أبنائها إلى تعلّم عدة لغات، وهؤلاء يعملون مع اليونيفيل في الترجمة والوظائف الإدارية، وقد تلقّت البلدة العديد من المشاريع والمساعدات من اليونيفيل.

في البلدة سوق شعبية مزدهرة، تقام كل صباح جمعة قريباً من السرايا الحكومية وقلعة تبنين الأثرية.

عناصر من اليونيفيل في إبل السقي
عناصر من اليونيفيل في إبل السقي


بليدا قرية تنتعش فيها زراعة التبغ من جديد
بليدا قرية تنتعش فيها زراعة التبغ من جديد


تعليقات: