قلعة دوبيه في شقرا: مركز السياحة المحلية

القلعة الصليبية والآبار الرومانية المحيطة بها
القلعة الصليبية والآبار الرومانية المحيطة بها


قلعة دوبيه شبه مدمّرة بسبب القصف والإهمال المحدق بها. أحد أهم معالم جنوب لبنان الأثرية، ومركز سياحي مشرعة أبوابه لعشّاقه تتصدّع جدرانه تصدّعاً يهدد سلامة الزائرين وقيام القلعة الصليبية

هالة الربيع الخضراء حوّلت قلعة دوبيه وتخومها أيقونة ومقصداً للمتنزّهين والباحثين عن استجمام طبيعي. فمن الآن حتى انتهاء موسم الخريف، ستصبح القلعة الصليبية مركز «السياحة المحلية» من شقرا وقرى الجوار والجنوب. وهذه الحركة التي بدأت ما بعد التحرير في عام 2000 تكاد لا تنقطع باتجاه القلعة رغم الدمار الواسع الذي حل بجدرانها، حيث إنّ القصف الإسرائيلي استهدف هذا البناء الأثري التاريخي مرتين. ففي حزيران 1969، تلقّت القلعة ضربة مؤلمة، إذ أغارت عليها طائرات «سكايهوك» إسرائيلية فدمرت مدخلها الغربي الرئيسي، ثم دك القصف المدفعي في آب 1973 بعضاً من سقوف غرفها وأحدث فجوات واسعة في جدرانها، ما تسببت لاحقاً بانهيارها. وإضافةً إلى هذا الدمار، فإن الإهمال والتصدع الذي خلفته العهود السابقة ونموّ الأعشاب والأشجار البرية بين الجدران أتت لتنهي سقوف الغرف وتجعل القلعة غير آمنة. ولكن لا يزال الفن الهندسي الجميل والمتقن في بناء هذه القلعة بارزاً رغم الوضع المأساوي الذي حل بها. صنّفت دوبيه في كتاب «خطط جبل عامل» للسيد محسن الأمين، في باب قلاع وحصون، وكتب عنها «دوبيه قلعة قديمة لها ربض من غربها يسمّى الزنّار، ومن أرضها قطعة تسمى مرج السّت، إلى اليوم، من جهة حولا. يبلغ طولها 125 متراً وعرضهما 80 متراً. فيها ثلاث طبقات، الثالثة مهدمة؛ وفي الطبقتين الباقيتين 32 حجرة وغرفة، وفي داخلها وخارجها صهاريج كثيرة. وكان لقلعة دوبيه استعمال في تاريخ لبنان المعاصر، فهي كانت ملجأ الأمير يونس المعني وولديه ملحم وحمدان من وجه الكجك أحمد باشا والي صيدا، لما زحف بعساكره لمحاربة أخيه فخر الدين الذي فرّ إلى قلعة شقيف تيرون».

تقع قلعة دوبيه في نقطة مهمة جغرافياً واستراتيجية عسكرياً. فهي ترتفع على تل تحوطه الأودية من ثلاث جهات، وتتصل بالطريق العام من جهة الجنوب. وتحيط بها الكتل الصخرية التي حفرت في بعض منها نواويس وأجراناً يرجّح أنها تعود إلى الفترة الرومانية ــــ البيزنطية، وفي بعضها الآخر حفرت آبار تُستخدم في تخزين مياه الشتاء. ويطلق الأهالي على إحداها تسمية «الصهريج»، وهي بئر كبيرة محفورة في الصخر الأصمّ، من غير سقف، يتم النزول إليها عبر درج صخري.

القلعة بقيت مأهولة حتى مطلع ستينيات القرن الماضي. ويؤكد المختار السابق لبلدة شقرا عدنان الأمين أن أحد أقاربه المعروف بأحمد المختار، ظل يسكنها مع عائلته حتى سنة 1963، وغادروها بعدما أصبحت خطرة وترميمها ضروريّ. ولكن بعدما تركها أهلها، أصبحت القلعة ولسنين طويلة مركزاً للفدائيّين «الفلسطينيين» الذين تنامى عملهم في تلك الفترة.

أما عن تسميتها الغريبة اللفظ بالعربية، فهناك نظريات كثيرة. منهم من يعتبر دوبيه، تحريفاً لـ«دوبو» أو «دوبي» وقد يكون اسماً لأحد القوّاد الفرنسيين الصليبيين الذين حكموا المنطقة في القرن الثاني عشر، وأقام القلعة. فيما الدكتور عبد الله سليمان يرجّح ويدعمه المؤرخ الراحل حسن الأمين أن هذه التسمية عائدة إلى لفظة آرامية من كلمتين «دو ـــ بيّه» وتعني بيت الخوابي أو مستودع خوابي الزيت، يبرّران التسمية بوجود معاصر أثرية في المنطقة والجوار كانت تُستخدم لاستخراج الزيت من أشجار البطم العملاقة التي لا تزال تنتشر بكثافة في المنطقة.

ويدور نزاع معنوي هادئ بين بلديتي شقرا (بنت جبيل) وحولا (مرجعيون) على «نسب» قلعة «دوبيه» الأثرية؛ إذ لا تخلو نصوص حولا الإعلامية من ذكر القلعة ككيان جغرافي يتعلق بها؛ فيما تجزم النصوص القانونية والتاريخية بأن دوبيه جزء لا يتجزأ من قرية شقرا؛ وملكيتها تعود إلى آل الأمين، إحدى أهم عائلات تلك القرية. ومطالبة بلدية حولا بأحقية الإشراف على قلعة دوبيه تبررها بعض المصادر القائلة بأن «مرج الست» المذكور في المراجع التاريخية من توابع قلعة دوبيه، ويقع ضمن الحدود العقارية والجغرافية للبلدة. هذا النزاع نحو وضع اليد على القلعة لم يحمها من الإهمال المحيط بها، الذي جعلها في مهب الخراب.

تزيد الملكية الخاصة للقلعة الملف تعقيداً، فالدولة لا تحبذ تمويل الترميمات في المواقع ذات الملكية الخاصة، لأسباب واضحة. ولكن المؤسف أن محاولات البلدية لإدراج القلعة على الخريطة السياحية في لبنان لم تجنِ ثمراً رغم أهمية الصرح. وكان الهدف من الإدراج أن تتنبّه الدول المانحة لأهمية الموقع مما يساعد على ترميم القلعة وتأهيلها، وخاصة أنه في السنوات الماضية انهار العديد من الجدران والعقود. وربما لو توافرت جهود جدية متضامنة من البلديات المحيطة بالقلعة، من شقرا وحولا وميس الجبل، لرسم خطة تحمي القلعة وتعيد إليها هيبتها وتصنّفها قبلة سياحية، لكانت قد أتت بعض أكلها؛ غير أن تحركاً جدياً في هذا الإطار وخارج الصالونات الاجتماعية أو السياسية لم يجرِ حتى اليوم، بعد تسع سنوات من التحرير.

جرن وراقصة تتمايل

يمثّل الدخول إلى قلعة دوبيه بهجة للزائر؛ تبدأ من لحظات العبور من محاذاة جرن عند مدخلها الأسهل، الجنوبي الشرقي، إذ غمرت مياه الشتاء هذا الجرن لتتراءى على صفحته القلعة راقصة تتمايل مع نسائم الهواء كيفما هبّت؛ أما المحطة الأولى في زيارة القلعة من الداخل، فعند القاعة الجنوبية الشرقية المقبّبة، التي نجت تقريباً من الخراب أو الدمار، وتبدو أكثر اتساعاً من رفيقاتها؛ ومن جهتها الشمالية بابان ضيقان يفضي أحدهما إلى ساحتها الوسطى. أما الثاني، الواقع إلى يمينه من الداخل فمفتوح نحو الأعلى، على سلّم مظلم، يسمّيه أبناء الجوار، درج «العبيد»، يتجه بدرجات قليلة برّاقة ضيقة، نحو الشرق، ثم ينحرف جنوباً، فيصل إلى سطح الطابق الأول الذي لم تبقَ منه، غير قنطرتين تطلان على الساحة الداخلية للقلعة.

من زاوية السطح الغربية يمكن تسلق إحدى القنطرتين، إلى سطح القلعة الذي دكّت الأيام والحروب مجمله، ما مكّن الزائر، من فوق من أن يرصد التقطيع الهندسي الداخلي، للقلعة وتصميمها البنائي. وكذلك التلال والأودية المحيطة بها. فتظهر العقود والقناطر وكوّات السهام وثقوب الرصد وفتحات المراقبة، التي صمدت وبقيت على حالها، بينما انهارت معظم سقوف الغرف، لتفتح القلعة من أعلاها، إلى أسفلها، بعضها على بعض؛ وتظهر بوضوح الأبواب والشبابيك والعتبات الضخمة، والعقود والقناطر والممرات. كلّ هذه الجدران العالية، الصامدة أو المتهاوية، تطل من الداخل على ساحة القلعة الوسطى، التي كانت تُستخدم للاحتفالات والمبارزة.

أما من الخارج، فيمكن رؤية شكل القلعة المستطيل، المقطوع ببرجين مربعين يتقدمان عن المقطع الغربي للقلعة. بيد أن الجهة الشمالية من القلعة، يتوسطها برج وحيد، مستطيل في الطابق الأول، مستدير أو نصف دائري في الطابق الثاني. أما في الجهة الشرقية، فثمة برجان مستطيلان يخرجان عن الجدران الأسياسة التي لم تأت بشكل مستقيم، بل تتكوّن من خمس زوايا متدرجة. وقد تهدّمت أجزاء البرج الثاني الأيسر، بفعل القصف الإسرائيلي وتبدّت قناطره وثناياه الداخلية إلى الخارج. إن أجمل غرف القلعة، هي الشمالية. لكن سقوفها انهارت وانفتحت بعضها على بعض. لم تبقَ منتصبةً فيها، إلا أعمدة العقود المهددة بالانهيار بفعل التآكل وانكشافها على السماء. أما سور القلعة الخارجي، فإن أجزاءً كثيرة منه ظلت صامدة، متفاوتة الارتفاع والاستقامة. ويبدو جلياً في الأجزاء الجنوبية منه، المتصل بانسياب صخري متقطع نحو الجنوب، وفيه تتموضع الآبار، أو تنتشر وهي عديدة منحوتة في الصخر الصلد.


تعليقات: