الثورة تنزح من التبغ إلى الأرز.. حسب الظروف

الأستاذ محمد العبد الله
الأستاذ محمد العبد الله


أستأنس إلى شجرة الأرز الفتيّة في المرجة المقابلة، وقد فتحتُ النافذة لشمس الساعة التاسعة وبدأت طقوس القهوة والتدخين، بعد بيضة مسلوقة وكوب صغير من عصير البرتقال.

استأنس إلى شجرة الأرز هذه، لأنها جميلة في حدّ ذاتها، ولأنها تردّني إلى شيء من الوطن بعد انقطاع أسبوع عن الاستماع إلى الأخبار أو قراءة الصحف (مباشرة أو عبر الأنترنيت)، التي تتعلق بأحوال الوطن. شجرة الأرز ليست مجرّد شجرة، بل رمز لبناني. وهي، كما هو معروف، تتوسط علم البلاد. يحرص الفرنسيون هنا على القول المتكرّر حين ذكر لبنان، وطن الأرز، ولا بأس.

ففرنسا ذات علاقة خاصة بلبنان حين كان صغيراً (الجبل) وحين أصبح كبيراً (لبنان الحالي)، بل إن فرنسا هي التي اتخذت قرار الانتقال من لبنان الصغير إلى لبنان الكبير (الجنرال غورو 1920)، وتلا ذلك مضاعفات مهمة ومُحرجة نشهد ذيولها في الوقت الحاضر.

وها هي فرنسا تحاول جاهدة أن تستوعب هذه المضاعفات التي ليس من السهل على أحد (حتى فرنسا) التحكّم فيها. الأرزة تتوسط العلم اللبناني، واللبنانيون (بعض اللبنانيين) ينعتون شجر الأرز "بأرز الربّ". ومردّ هذا النعت أنّ الملك سليمان بن داود، قد استخدم خشب أرز لبنان في تشييد هيكل الربّ، ربُّ سليمان وداود، وهو ربّ الجميع على كلّ حال، كما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن. ثم ذهب الفلكلور الوطنيّ والسياسيّ إلى اعتبار شجرة الأرز امتيازاً لبنانياً لا يعلو عليه أي امتياز فأصبح لبنان: "لبنان شو لبنان، هالكام أرزة العاجقين الكون، من قبل ما في كون كانو هونْ".

وللمصادفة، أنّ لبنان الآن (بأرز ومن دون أرز) عاجق الكون في الوقت الحاضر، وتتوالى الجيوش المختلفة على أرضه، ويتوالى السفراء والموفدون إلى زيارته، وتتوالى اجتماعات مجلس الأمن وقراراته لأجل مشكلاته وقضاياه، وتتوالى القمم الثنائية والعربية والإسلامية والدولية لمعالجة مآزقه ومشكلاته.

أما "من قبل ما في كون كانوا هون" فإنّه، على الرغم من المبالغة من المعروف أنّ شجرة الأرز شجرة معمّرة لمئات وآلاف السنين، فتصبح الجملة مطعّمة بمبالغة الشعر والحماسة. والمقصود بأرز الربّ أرز "جبل المكمل" شرقي بلدة بشريّ، بينما أرز الباروك في سفح جبل الباروك أكثر عدداً بكثير، لكنه أقلّ قِدماً من أرز الربّ. فالتوظيف السياسي للرمز قائم، ولا بأس بذلك. ولدينا مؤخراً نموذج عن هذا التوظيف، وهو تعبير "ثورة الأرز" والمقصود بها الانتفاضة التي أعقبت اغتيال الرئيس الحريري في 14 شباط 2005. وكانت، كما تعرف، في سالف الزمن، ثورة التبغ، فالثورة تنزح حسب الظروف، من التبغ إلى الأرز، وتعرف أن ثورة التبغ اشتعلت إلى أوجها بعد ثورة الصيادين في صيدا. فالثورات متعدّدة التسمية والأهداف والآليات في بلادنا. وقد تجد ثورة في قلب الثورة نفسها، ومنها انشقاقات كلّ ثورة داخل كلّ حزب وكلّ طائفة، إلى ثورات ذات أفكار واتجاهات مختلفة.

وأنت تعرف أن جميع هذه الثورات، مع الخسائر الفادحة التي أسفرت عنها، لم تُسفر، حتى الآن، عن انزياح البنية الطائفية للنظام اللبناني، ولو قيد أنملة واحدة، بل العكس، فإنّ جميع هذه الثورات أسفرت عن ترسيخ وتعميق هذه البنية الطائفية للنظام. والأرز لا ينفرد باعتباره رمزاً إيديولوجياً وسياسياً ووطنياً، بل عرفتْ أشجار أخرى مثل هذه الرمزيّة، ومنها شجر الزيتون الذي باركه القرآن الكريم مباركة استثنائية (سورة النّور) والذي تفيّأ السيد المسيح ظلاله في جبل الزيتون في فلسطين. ومنها شجر النخيل، الذي ذكره القرآن الكريم قائلاً لمريم "وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيّا...". وأمضى معك إلى بدر شاكر السّياب في قوله مطلع قصيدة "أنشودة المطر"

"عيناك، غابتا نخيل ساعة السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر"

وغابتا النخيل هاتان رأيتهما بأم العين، وهما عبارة عن أكثر من مليون شجرة نخيل على شط العرب في مدينة البصرة، حين التقاء الرافدين دجلة والفرات التقاءً يخلب الألباب والأنظار. وأما ساعة السحر فهي، كما تعرف، ساعة انشقاق الليل عن الفجر، حين يخلع هذا الانشقاق على تلك المليون شجرة نخيل غباراً من الفضّة، لا تملك حيال مشاهدتك إياه سوى التسبيح باسم الله في أقل تقدير. وأمّا الشجرة اللبنانية التي هي الرمز في الأصل، فهي شجرة السنديان (مدرسة تحت السنديانة)، وكان امتيازاً لبنانياً أن تكون للمرء اللبناني شجرة سنديان أمام بيته. فالشجرة، أنّى كان نوعها، تستطيع التحوّل إلى رمز، حسب الزمان والمكان والظروف، تتحوّل إلى رمز ديني أو سياسي أو ثقافي:

"تحت الشجر يا وهيبة ياما كلنا بردقان"

وعلى الرغم من أن خشب الأرز خشب متين وصلب يعصى على تقلّب العناصر، فإنّ شجر الأبنوس هو الشجر الذي يضاهي الأحجار الكريمة جودةً ومتانة وجمالاً بحيث يوجد حارس خاص، في بلاد الأبنوس، على كلّ شجرة.

ولعلّ من المفيد أن تعرف أنّ أرز الأطلس – الجزائر يسمّى الأرز الأزرق، وهو يستعمل لزينة الحدائق في أوروبا الشمالية، ويصل ارتفاعه إلى 36 متراً، وأنّ أرز الهملايا يُزرع في حدائق أوروبا وأميركا الشمالية للزينة ولأجل خشبه أيضاً، ويصل ارتفاعه إلى 75 متراً، وأنّ أرز قبرص يصل ارتفاعه إلى 12 متراً. أما أرز لبنان فيصل ارتفاعه بين 24 و36 متراً.

أستأنس إلى شجرة الأرز مقابلي، وأسكب فنجان قهوة آخر، وأمتنع عن قراءة الصحف اللبنانية على الأنترنيت إذ تكفيني هذه الجرعة الوطنية في الوقت الحاضر.

أقول لها: "بونجور أيتها الأرزة".

موضوع سابق للكاتب حول "الهريسة"

تعليقات: