المعلم عبد الهادي يعرض بضاعته
تعيش مهنة صناعة البرادع أيامها الأخيرة، ويعيش من بقي من حرفيّي هذه المهنة على ذكريات أيام العزّ التي شهدتها حرفتهم في زمن كانت فيه الحيوانات وسيلة النقل الأساسية. عبد الهادي عبد الهادي أحد هؤلاء، بل قد يكون آخرهم، كما يقول أبناء بلدته
شبعا ــ
عندما قصدنا المعلّم عبد الهادي في دكانه في بلدة شبعا لم يكن موجوداً فيها، كذلك لم نجده في منزله. لكنّ جيرانه أفادوا بأنه قد يكون موجوداً في البساتين القريبة من منطقة نبع الجوز التي تبعد مسيرة نصف ساعة سيراً على الأقدام.
هناك نجد «الجلالاتي» الأشهر في المنطقة، بل قد يكون الوحيد، عاملاً في البستان في محاولة لملء أوقات فراغه بعدما تدهورت أوضاع مهنته. بل إن عبد الهادي لا يتردد في القول إن المهنة التي أعالت عائلته المؤلفة من تسعة أفراد، تعيش أيامها الأخيرة: «قد تستغرق فترة الاحتضار أسابيع أو سنوات، لكنها بالتأكيد لن تعيش طويلاً». لذلك يضحك طويلاً عندما نخبره أن سبب زيارتنا له تعلّم مهنة صناعة البرادع، قبل أن يقول: «وجهكم مش هالوجه».
فهذه المهنة لم تعد تغري أحداً، وخصوصاً أنها باتت تفتقر إلى أسباب وجودها. ويؤرّخ عبد الهادي ثلاث مراحل في مسيرة الانقراض المتوقع، بدءاً من الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا في الستينيات من القرن الماضي، والذي أدى إلى وقف التجارة مع سوريا وفلسطين، مروراً بتوقيف أعمال تهريب البضائع عبر الجرد إلى سوريا، وصولاً إلى تراجع أعداد مقتني البغال مع انتشار وسائل النقل الحديثة من سيارات وشاحنات وآلات زراعية حلّت محل الدواب، وغيرها... كل هذه العوامل أدّت إلى تراجع المهنة التي بات العمل فيها يقتصر على ترميم البرادع القديمة: «الزبائن الذين كانوا يقصدوننا لابتياع برادع لبغالهم لم نعد نراهم، فيما بقي عدد قليل جداً من الزبائن يزوروننا من قرى الجوار».
لا يخفي المعلم عبد الهادي حسرته على زمان كانت فيه حرفته مزدهرة ودكانه في بلدة شبعا يعجّ بالزبائن من البقاعين والجنوب. يعبّر عن ذلك بالقول: «الله يرحم أيام زمان حين كانت مجموعات المكارية تعمل في نقل القمح على ظهور البغال من سوريا إلى لبنان، يومها لم نكن نلحّق شغل، والزعلانين أكثر من الراضين». لكن ذلك كان قبل احتلال مزارع شبعا «حين كانت حركة التجارة نشيطة بين الجولان السوري المحتل وجنوب لبنان، وكانت البغال وسيلة النقل المعتمدة، الأمر الذي أنعش هذه المهنة، وخصوصاً مع كثرة الزبائن (المكارية) الذين كانوا يتوزّعون على فلسطين والجولان ولبنان».
في ذلك الوقت، كان تعلّم هذه المهنة أفضل ما يمكن أن يختاره شاب يرغب في تأسيس عائلة. هذه كانت حالة عبد الهادي قبل 60 عاماً، حيث تعلّم الحرفة في دكان الحاج سليم: «كنا نعمل طيلة النهار لصنع خمس برادع، تباع للمزارعين في الجنوب أو المكارية الذين يقصدون فلسطين والجولان للتجارة. وازدهرت المهنة كثيراً في الستينيات، وخصوصاً في موسم شكّ الدخان، حيث كان أصحاب المحال الصغيرة يبتاعون البرادع بالجملة، لأن الجنوب والبقاع مجتمعان زراعيان ووسيلة النقل الوحيدة كانت الدواب، والمكاري كان يجدّد بردعة حماره كل عام بسبب المسافات الطويلة التي كانت تتخلّلها أيام ماطرة ومثلجة».
يتيح هذا الحديث العودة بالذاكرة بعيداً، حيث يقلّب عبد الهادي صفحات من بعض المحطات التي يسمّيها تاريخية في حياته، وخصوصاً أن استعادتها لا تخلو من متعة بالنسبة إليه: «كنا نشتري بعض المعدات التي نحتاج إليها في هذه المهنة من فلسطين، وخصوصاً القش «البوط» الموجود بكثرة على جوانب مستنقعات الحولة، وهو من النوع الجيد، كما كنا نشتري أحياناً من القنيطرة أو الشام».
وفي هذا الإطار، يستطرد عبد الهادي بالقول إن عدّة الشغل كانت بسيطة وغير مكلفة، كما أنها متوافرة لكلّ من كان يرغب في تعلّم هذه الحرفة «الممتعة والسهلة» كما يصفها. ويعدّد الأدوات المستخدمة: «قرن الغزال لشد الخيط قبل التطريز، كف نحاسي يثبت بواسطة أحزمة جلدية صغيرة في باطن كف اليد «لدفش» المسلة بطريقة مريحة، والدقماقة وهي مطرقة خشبية، و«قضيب مدك» وهو عبارة عن قضيب حديد قطره 6 ملّيمترات يستخدم لدكّ الحشوة الداخلية، سواء كانت من القش أو السجاد، إضافة إلى لوازم متنوعة تستعمل في أعمال الخياطة».
ومن حسنات هذه المهنة أن المواد الأولية المستخدمة فيها متوافرة وكلفتها محدودة، «وهي تتألف من أكياس من الخيش، قصب نهري، أعشاب متنوعة، سجاد مستعمل، لبادة صوف، جلد أصلي وجلد اصطناعي، حبل نايلون، خيطان متنوعة الأحجام والطول، منها المعروف باسم المصّيص».
ولدى السؤال عن العصر الذهبي لهذه الحرفة، يستعيد المعلم محطات من أيام كان الطلب فيها لا يقتصر على البرادع العادية. يقول: «الناس مقامات، ومن يقتني جحشاً ليس كمن يقتني بغلاً أصيلاً، فكيف بصاحب الفرس؟». يتذكر أن «أصحاب الشأن من وجهاء القوم كانوا يطلبون جلالات مزركشة ومزوزقة، عليها القدر والقيمة، تميّزهم وتميّز دوابهم عن دواب العامة، وبطبيعة الحال كل شيء بثمنه».
وقال: «الزينة كانت توضع بعد الانتهاء من صنع البردعة، واختيار السجاد المناسب الذي يغطّيها، ليصار بعد ذلك إلى إنجاز التطريز والزوزقة التي كنا نبتاع لوازمها من الشام، وتشتمل هذه العملية على تطريز جوانب البردعة، وتثبيت شراشيب متعددة الأشكال والألوان و«كبسنة» الإطار الجلدي الذي يلفها من الأمام إلى الخلف. غالباً ما يكون اختيار «الحياصة» و«الصدرية» من الجلد الأصلي لأنهما يشدان البردعة إلى ظهر الحمار.
هذه الزوائد لم يكن يطلبها المكاري العادي بل «المفنكر»، أي المتطلّب، كما يصفه عبد الهادي، لأن سعرها يبلغ ثلاثة أضعاف ثمن البردعة العادية. ويمكن تشبيه أصحاب هذا المزاج «بأصحاب سيارات آخر موديل الذين يغالون في تزيين سياراتهم».
رغم هذا الوضع، لا ينكر المعلم عبد الهادي فضل هذه المهنة التي يفاخر بها، لأنها أطعمت عائلة من تسعة أفراد، ووفرّت أموالاً لتعليم سبعة أولاد، أحدهم مهندس كمبيوتر، وآخر مدير فرع أحد البنوك. وفي كل حال، فإن الرجل الذي أصيبت حرفته بانتكاسة كبيرة لم يستسلم للبطالة. تراه يعمل في الزراعة، وخصوصاً أن ثمانية عقود من الزمن لم تستطع أن تلوي ذراعه، حيث يكشف معوله ذو الأصابع الثلاث الهمة والنشاط اللذين يتمتع بهما الرجل. ويتفرغ أحياناً لزيارة الأقارب والأصدقاء من رعيله، يتحادثون ويتسامرون بعيداً عن السياسة وهمومها.
سعر البردعة
لم تتغير المواد الأولية التي تستخدم في صناعة البرادع، لكن بات من الصعب إيجاد بعضها. ويوضح عبد الهادي أن ثمنها لا يتجاوز 50 ألف ليرة، يضاف إليها أجرة يوم عمل متواصل، فيصبح سعرها 100 ألف ليرة. أما كلفة صناعة بردعة كبيرة فتبلغ 100 ألف ليرة وتباع بـ300 ألف ليرة، لأن صنعها يحتاج إلى ثلاثة أيام من العمل المتواصل
تعليقات: