انتشار مشروب المتة
من الأرجنتين والبرازيل والأوروغواي إلى جبال الساحل السوري والقلمون وجبل العرب..
قبل نحو 100 عام شهدت العديد من المناطق السورية هجرة لسكانها إلى دول أميركا الجنوبية بسبب الفقر والحروب وسفر برلك الشهير، واستقر هناك عشرات الآلاف من السوريين، وفي منتصف القرن العشرين المنصرم وبعد استقلال سورية من عهد الانتداب الفرنسي عاد بعض هؤلاء المهاجرين إلى سورية في زيارات لمشاهدة الأهل والأصدقاء وجلبوا معهم مشروبا ساخنا جديدا لم يألفه السوريون من قبل وهو «المتة»، الذي تشتهر به دول أميركا الجنوبية وبخاصة الأرجنتين والبرازيل والأرغواي، ومع تذوق السوريين لهذا المشروب الغريب عنهم بدأوا يحبونه وبدأ ينافس الشاي والقوة لينتشر بكثافة بين الناس خصوصا في المناطق التي عرفت هجرة كثيفة لأبنائها إلى أميركا الجنوبية أي في منطقة جبل القلمون بالقرب من العاصمة دمشق ومنطقة جبال الساحل السوري شمال غرب دمشق وفي منطقة جبل العرب جنوب دمشق، وبدأ السوريون هناك يوصون أقرباءهم المهاجرين بإرسال علب المتة لهم بأي وسيلة، ومع الوقت وبعد سنين قليلة وفي ستينيات القرن العشرين المنصرم انتشر مشروب المتة بشكل واسع ومتسارع، ليس في مناطق الجبال السورية، بل في دمشق والمدن الداخلية، وأحبه الكثيرون بنوع من الهوس وتعلقوا به وأسسوا لشربه تقاليد وأعرافا ما زالت قائمة، وأوجدوا له أدوات خاصة لتذوقه وشربه وأدخله بعض أصحاب المقاهي ضمن قائمة المشاريب الساخنة التي يقدمها رغم حاجته إلى مستلزمات خاصة، وتأسست قبل أربعين عاما العديد من الشركات السورية خصوصا في منطقتَي يبرود والنبك بجبال القلمون والتي تخصصت في استيراد المتة من الأرجنتين وتعبئته في سورية، ولتبدأ مرحلة جديدة من مسيرة المتة لدى المتذوق السوري، حيث جاءت هذه الشركات بأنواع عديدة من أشهر ماركات المتة في أميركا الجنوبية، ولتبدأ منافسة جديدة بين هذه الماركات والمستوردين، وليتفوق المتة فيما بعد على الشاي والقهوة في العديد من المناطق السورية، حيث أصبح المشروب الساخن رقم واحد في القلمون والسويداء وريف اللاذقية وطرطوس وريف حمص والسلمية وسط سورية، وأصبح رفيق السهرات والنزهات والسيران في البساتين والبراري وفي محطات السفر على الطرقات الطويلة...! ويبرر العديد من المهتمين بهذا المشروب (الساحر) كما يصفونه يبررون تفوقه على الشاي والقهوة في هذه المناطق بعدة أسباب، ومنها: أنه ـ إضافة إلى فوائده الكثيرة ومذاقه اللذيذ ـ مشروب مسلٍّ في جلسات السمر بين الأصدقاء وفي لقاء أفراد العائلة، فهو مشروب (جماعي واجتماعي)، كما يصفه الذواقة والمهتمون به، فبعكس فنجان الشاي والقهوة اللذين يُشربان بسرعة وفي دقائق قليلة، فإن كأس المتة يستغرق شربه وحسب نوع الجلسة ساعة أو أكثر من الزمن، والسبب في ذلك هو طريقة شربه من قِبل الناس، حيث لشربه تقاليد وطريقة خاصة متعارف عليها حيث يقوم المضيف بتسخين الماء في إبريق كبير نوعا ما، ولدرجة ما قبل الغليان، ومن ثم يقوم بوضع عدة كؤوس صغيرة حسب عدد ضيوفه، وبها المتة، حتى منتصف الكأس تقريبا، ويتم نقع المتة بقليل من الماء البارد قبل شربها، ومن ثم تصفَّى للتخلص من السائل الأول الذي يكون لونه مائلا إلى الاسوداد بينما لون مشروب المتة أصفر، وهذا ما يحصل عليه الشارب بعد الكأس الثانية، والطريف في شرب المتة أنه ـ بعكس الشاي والقهوة ـ لا يُشرب إلا من خلال أداة خاصة يطلق عليها «المصاصة»، وعادة لكل شارب مصاصة خاصة به لا يشرب سواه بها، إلا إذا رغب البعض في أن يشربوا من نفس المصاصة، وهذه عادة غير مستحَبّة في جلسات شرب المتة، لسبب رئيسي وهو صحّي، ووقايةً من انتقال أمراض الأنفلونزا والرشح في حال شرب المتة من نفس المصاصة، التي عادة ما تكون مصنوعة من المعدن وذات لون أصفر أو أبيض، وتتألف من أنبوب رفيع بقياسين: طويل (نحو 20 سم) يستخدمه الهواة وهو نادر نوعا ما، والقياس العادي (نحو 10 سم). ويوجد في طرفَي الأنبوب مصفاة إهليلية الشكل مثقبة بعدة ثقوب صغيرة وهي التي تُغرس في نبات المتة الجاف والمضاف إليه الماء الساخن حيث تعمل المصفاة على منع دخول الأجزاء الصغيرة من أوراق المتة إلى الأنبوب وبالتالي وصولها إلى شاربها حيث يكون طرف الأنبوب (المصاصة) من الجهة الثانية مفتوحا، وهو الذي يدخل في فم الشارب ليرتشف من خلاله منقوع المتة الساخن الذي يرشفه من كأس المتة بعد أن يضيف إليها قليلا من السكر للتحلية، وحسب رغبة الشارب وعبر المصفاة إلى ساعد الأنبوب ومن ثم يستقر في فم الشارب وهكذا يطل يرتشف كأس المتة حتى ينتهي الماء منها فيعود ليصب من الإبريق ماء ساخنا جديدا، وفي حال برد الماء في الإبريق يقوم المضيف بتسخينه مرة ثانية وتزويده بالماء من جديد حتى يرتوي ضيوفه من شرب المتة، ويتوقف ذلك على المرحلة النهائية من انتهاء مفعول منقوع نبات المتة، ويسميه العامة «قطعت»، وبالتالي إما أن يقوم الشارب برمي بقايا المتة «المقطوعة» التي تتحول دون لون وطعم المتة المعروف من الـكأس، ويجدد وضع متة جديدة من العلبة، أو أن ينهي شربها بعد أن يكون شرب نحو 5 كؤوس منها، ولذلك يستغرق شرب المتة ساعات عديدة، وتحتاج إلى جلسات طويلة، ويرافقها عادة تناول بعض الموالح (المكسرات) لزيادة مفعولها المسلّي.
ومع انتشار مشروب المتة وشركات استيراده وتعبئته بأنواعه المختلفة بدأ في السنوات الأخيرة العديد من المصنعين والحرفيين السوريين بتصنيع مستلزمات شرب المتة بأشكال وأنواع مختلفة، وتفننوا في زخرفتها حتى إنهم صنعوا مجموعة كاملة منها أطلقوا عليها مجموعة المتة والتي تعتبر من الهدايا الجيدة التي يتبادلها في المناسبات السعيدة ذوّاقو المتة وهواة شربها الكثر، وضمت هذه المجموعة الإبريق بأشكال متنوعة منه والكؤوس الخاصة بالمتة والتي أطلقوا عليها اسم «جوزة»، حيث أخذت شكل ثمرة الجوزة الكبيرة، وصنعوا المصاصات بأشكال عديدة أيضا مع زخارف وخطوط هندسية جميلة، ومن المجموعة أيضا علبتا المتة والسكّر، وهما متشابهتان منفصلتان أو متصلتان بشكل فني جميل حيث حرص المصنعون لها أن يتركوا في جانبَي العلبة مكانا لوضع المصاصة، ولم ينسَ مصنعو مجموعة المتة أن يخصصوا لهذه المستلزمات «صينية» واسعة تنسجم زخرفتها وألوانها مع الجوزة والعلب والإبريق، وصنعوها من النحاس أو الخشب المزخرفان أو من المعدن غير القابل للصدأ، كما أنهم أيضا حضّروا موقدا خاصا له صغير الحجم يعمل على الغاز يتناسب وحجم إبريق المتة للتسخين، ويمكن حمله مع «عدّة» المتة في السيران ورحلات التنزه.
وتختلف أسعار هذه المجموعة حسب المادة المصنعة منها، حيث تُصنع من السيراميك مع الألمنيوم، وهي الأثمن، وهناك الزجاج والنحاس والخشب، أو من البلاستيك، وهي الأرخص ثمنا.
والمتة ـ كما يعرّفه الباحثون ـ هو نبات شجري دائم الخضرة ينمو في المناطق الحارة والمعتدلة وموطنه الأصلي جبال الأرجنتين والبرازيل والأرغواي، أوراقه بيضوية رمحية، ويزهر في فصل الربيع ويُعرف باسم بهشية أميركية أو شاي برغواي وقد قدسه الهنود الحمر ودعوه هواراني حيث اعتبروه مقوّيا للجسم واستهلكوه كنبات طبي، وفي الأرجنتين يسمونه شراب الرجال أو الهاوتشو الأرجنتيني، وكانوا يشربونه مع تناولهم اللحم الأحمر ولم يصابوا بأعراض نقص الفيتامينات، كما يذكر الباحثان ميشيل ولودميلا نقولا.
وينمو هذا النبات في البراري، ويمكن زرعه، ولونه أخضر وطعمه مر، ويتم تحضيره في أميركا الجنوبية من قطع الفروع الصغيرة من شجرة المتة التي يصل ارتفاعها إلى 8 أمتار وتجفيفها تحت أشعة الشمس، ومن ثم تُضرب بالعصا للتساقط الأوراق ويتم تجفيفها ودرسها وتنخيلها لتكون جاهزة فيما بعد للتعليب، حيث تغلف بورق مقوى وبأوزان محددة متعارَف عليها، وهي 250 غراما للعلبة الواحدة.
وعن حكاية المتة وفوائدها يقول الدكتوران ميشيل ولودميلا نقولا إن اسمه اللاتيني هو Ilexparguariensis، وأوراق شجرة المتة بيضوية مسننة الحافة جلدية القوام طعمها مر ورائحتها عطرة والأزهار بيضاء اللون والثمرة صغيرة حمراء اللون ومن أوراقها تعطي النتاج المطلوب الذي يقطف بعدد من الأشجار بعمر أربع سنوات على الأقل، وتضم عددا من المواد الفعالة، ومنها قلويد الكافئين والثيوبرومين والثيوفلين ومواد عفصية بشكل حمضي ومكونات أخرى. وعن خواص شرب منقوع المتة مع الماء الساخن وقليل من السكر يقول الباحثان: «يعطي مشروب المتة شاربه عدم الشعور بالعطش ويزيد من الحركات التقلصية للأمعاء ويشابه القهوة والشاي في تأثير المتة المنبه للجملة العصبية، وهو مدر للبول حيث يفيد في التخلص من الرمال البولية والحصاة الكلسية والوقاية من الالتهابات البولية، ويحتوي المتة على مغذيات وفيتامينات، منها A, E, B, C، ويضم عناصر معدنية، منها الحديد والمغنسيوم والبوتاسيوم والكالسيوم».
تعليقات: