«ملصق انتخابي» نفذه أبو محمد
«أم محمد، محمد، بلال، طلال، وياسين» هم نوابه وممثلوه الوحيدون..
السابع من حزيران المقبل هو موعد الانتخابات النيابية في لبنان. تنتظر شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني الموعد لاختيار مرشحيها المفضلين. سيتوجه اللبنانيون إلى أقلام دوائرهم الانتخابية لاختيار الأسماء واللوائح التي تعنيهم. لكن هناك من ينتظر الموعد نفسه، على أحرّ من الجمر، إنما ليس بدافع التعبير عن رأيه السياسي، بل لـ «إيصال صوت الظلم، ومحاولة استرداد حقّ هُدر...». إنه صوت اللبناني الوحيد، ربما، بين الملايين، الذي سيتميّز بأسلوبه الاقتراعي.
هو أبو محمد شكر، ابن البقاع، وتحديداً بلدة النبي شيت. لن تكتفي جدران هذه البلدة بصور مرشحيها، الذين يمثلون الأقطاب السياسية في البلد. ستحضر عليها أيضاً صور لطرف ثالث منافس، يضمن حتى الساعة صوتاً واحداً على الأقل، ولعله لا يريد سواه. يمثل هذا الطرف «كتلة» شهداء عائلة أبو محمد، التي دمّر العدو الإسرائيلي المنزل على رؤوس أفرادها خلال حرب تموز الأخيرة. فتحولت العائلة المؤلفة من أم وأربعة أولاد، اثنان منهم طفلان، إلى جثث هامدة، فارقت الحياة بعيداً من أحضان الأب الذي كان مسافراً إلى كندا خلال تلك الفترة...
يرفض ابو محمد الإفصاح عن اسمه، مكتفيا بكنيته، كي يظل قريباً من أولاده، كما يقول، هو الذي اعتاد العيش بعيداً عنهم، بحكم عمله في كندا. سافر إلى هناك بعدما استأمن لبنان عليهم، وكتب ذات مرة: «وصيتي لك يا لبنان يا كبير تخلي عيونك سهرانة على أولادي... مونتريال 12/6/2003». رغم ذلك لا يلقي أبو محمد بالملامة على لبنان الذي يعتبره مظلوماً مثله، بل يلوم كل سياسي وزعيم لم يكترث لقضيته الإنسانية، فأصبحت النخبة السياسية في نظره «أدعياء الوفاء».
يصعب إيجاد الكلام الذي يعبّر عن حالة أبو محمد. ثلاثة أعوام مرت على استشهاد عائلته التي لا يملك غيرها، عائلته كلها، بأمها وأولادها. هم الذين هاجر إلى كندا من أجلهم، لتأمين لقمة عيشهم. فكان القدر والعدوان أقوى وأبعد من طموحاته، فعاد من غربته إلى غربة جديدة، في وطنه، ليجلس بين أربعة جدران وحيداً كاليتيم. يحدق أبو محمد في صورة ابنه البكر، ينظر الى رسومات الابن الأصغر، ويحاكي صورة الزوجة...
لا يثق أبو محمد بسياسي أو زعيم واحد. لا تعني له الانتخابات شيئاً. خطرت بباله فكرة خوضها كـ «فشة خلق»، لكنه لا يطمح إلى كرسي البرلمان. سمع أن من حق المرشح إطلاق برنامج انتخابي، وفكّر أن هذه هي الوسيلة المناسبة لإحياء قضيته التي يعتبرها منسية: «كنت بدي اترشح وانسحب قبل الانتخابات، بس توصّل صوت أولادي، وبعدين بطّلت».
يضحك عندما نسأله عن إمكان اقتراعه لأحد المرشحين في دائرته. يخرج من جيبه ورقة بيضاء كتب عليها «أم محمد، محمد، بلال، طلال، ياسين». يقول: «هؤلاء هم نوابي الوحيدون، لن انتخب سواهم، الباقون كلهم نواب بالاسم».
يمتلئ قلب أبي محمد بالغضب مِن كل مَن لا يقدّر أن «دم أولادي شارك في انتصار لبنان على إسرائيل»، كما يرفض التمييز بين الشهداء جميعهم.
يتّخذ عائلته محوراً لمسيرة بحث متواصل. وقد اكتشف مؤخراً، من خلال البحث على الإنترنت، أن الجريمة الهمجية التي أودت بعائلته نفذتها امرأة كانت تقود الطائرة الحربية. يرى أن الأمر لن يفيده بشيء ما دام «لبنان لم يرفع دعوى ضد إسرائيل».
تحول فاجعة أبي محمد دون استرساله في سرد ذكريات العائلة. هناك غصّة في الحلق، تقف له دائماً بالمرصاد. وكلما تذكر قصة ويشرع في روايتها لنا، يضحك، ثم يشكر ربه أن أولاده قد استشهدوا وارتاحوا من الظلم في لبنان: «منيح اللي ماتوا، هيك بضمن إنو ما حدا منهم رح يصوّت للنواب».
لا يفوّت أبو محمد نشاطاً مدنياً في البلد إلا ويحضره... مع قضيته، صور أولاده وزوجته وحكايتهم. كان قد أطلق كتاباً، في الذكرى الأولى على استشهاد العائلة، بعنوان «عام على الزلزال». وها هو بصدد إطلاق كتاب في الذكرى الثالثة، لم يختر له اسماً بعد.
يخوض أبو محمد صراعاً مع الموت. يبحث عنه دائماً، ليلحقه بعائلته. يروي أنه كان من المفترض أن يبحر على متن «سفينة الأخوة» اللبنانية التي حملت مساعدات إنسانية إلى أهل غزة الرازحين تحت العدوان الإسرائيلي الأخير. لم يتحقق حلمه، ولم ينته الأمر هنا. ففي السابع من أيار 2008، انتقل أبو محمد للعيش في منطقة الشويفات: «اخترت هذه المنطقة بالذات لأني توقعت أن أصاب برصاصة طائشة واستشهد خلال أحداث أيار».
لن يتوسّل أبو محمد شفقة أحد. هو أبو الشهداء، يتابع قضيتهم ويحكي عنها، ولو لم تأت محاولاته بجدوى. لن يعود الى كندا التي قصدها من أجل أطفاله...
سيسقط الورقة التي تحمل أسماءهم في صندوق الاقتراع، دفاعاً عن دمائهم، انحيازاً إلى حيواتهم التي أهدرت بلا ذنب. لن ينتظر رد فعل ما، ولن يكترث لرأي أحد، ما دام ينتصر، على طريقته، لعائلـته التي فقدها على حين عدوان.
ستفوز لائحته بالتزكية، بصوت واحد، وإن لم يجلس أعضاؤها تحت قبة البرلمان. لكنها ستمثله خير تمثيل حتى آخر يوم في حياته.
تعليقات: