على عكازها في بريصا

جرود الهرمل :

عندما رغب الإمام موسى الصدر بالتأسيس لموطئ قدم لـ«حركة المحرومين» في الهرمل وجرودها، اختار البوابة العشائرية وبالتحديد بوابتي آل ناصر الدين وآل جعفر بالدرجة ألأولى. منذ ذلك الحين، ومع تعزيز رئيس حركة امل ورئيس المجلس النيابي الحالي نبيه بري، وعبر ممثلي الحركة في منطقة البقاع هذا الحضور، وخصوصاً بين آل ناصرالدين، سادت صبغة «الإفادة» من علاقة العشيرة بحركة امل والسلطة، وظلت سمة يطبع بها المحيطون العائلة الكبيرة التي لا تختلف حياة ابنائها، لناحية الحرمان، عن بقية أقرانهم من العشائر بشيء.

علاقة يصفها، محمد الحاج علي ناصر الدين، ابو مصباح، بتلك التي لم تدر الكثير على العشيرة الكبيرة التي يبحث ابناؤها، بـ«السراج والفتيلة»، عن وظيفة وفرصة عمل ترد عنهم شبح التورط بالإتجار بالمخدرات او بالخروج عن القانون، وهي الصفة السائدة في ظل وصول أعداد المطلوبين من ابناء المنطقة، ما بين بعلبك والهرمل، إلى نحو اربعين الف مطلوب.

يحدد ابو مصباح الإفادة من حركة امل بتوظيف حوالى 15 شخصاً بأعمال متواضعة من حاجب إلى بواب إلى عامل، من دون ان ينسى انه جرى تعيين مدير مستشفى الهرمل الحكومي من آل ناصر الدين «نتيجة توافق بين الحركة وحزب الله»، والإشارة إلى مساعدة الحركة في نجاح ضابط من شباب آل ناصر الدين في المدرسة الحربية.

تقديمات يغمز البعض من زاوية توسعها إلى طلبات ترميم وإسكان ايام كانت يد وزير الإسكان والتعاونيات من حركة امل تطال. مردود، وإن كان بالقروض، سيساهم في مد عائلات وشباب العشيرة ببعض الرأسمال الذي استعمل في تحسين الأراضي والتشجير، أو في شراء معدات زراعية أو فتح بعض المصالح المتواضعة. وساهمت جيرة العشيرة من القصر إلى البويضة وسهل المسطاح أو سهل الرجم، وهو جزء من سهل مدينة الهرمل، ومنطقة حوش السيد علي... في إفادة بعض الاشخاص من التجارة والتهريب مع سوريا. ظروف ساهمت في تحسين وضع إبن ناصر الدين وإقباله على التعليم، نسبة إلى المحيط، وكذلك ارتفاع نسبة المتخصصين في الجامعات وخصوصاً في روسيا واوكرانيا والجامعة اللبنانية.

ويسجل لسهل المسطاح او الرجم مساهمته في ابعاد آل ناصر الدين عن مذكرات التوقيف وبلاغات البحث والتحري الرائجة في المنطقة اليوم. يقول ابو مصباح، احد وجهاء العشيرة، ان ابناء العشيرة الأوائل، وعندما نزلوا من جرود المنطقة التي تهجروا إليها من كسروان وجبيل، بدأوا بشراء الأراضي في السهل حتى تعدت ملكيتهم نسبة الخمسين في المئة من مجمل مساحة السهل التي تفوق «الـ130 جوز»، والجوز يوازي 250 دونماً من ألأراضي. يمتد السهل من حدود الهرمل عند تلال الفار ليصل إلى منطقة القصر.

اليوم، ووفق ابو مصباح، يعيش ابناء العشيرة على إرث الجدود. يومها، وقد أدى رواج زراعة الحشيشة قبل الحرب ألأهلية وخلالها وما بعدها بفترة قصيرة، الى حماية اراضي السهل من البيع، بعدما شكلت مورد رزق رد العوز عن الكثيرين.

اليوم يعيش الأبناء والأحفاد على إرث الجدود «بعدما باعوا اراضي السهل ليكملوا حياتهم ويعلموا اولادهم»، وفق ابو مصباح: «لم يعد يملك آل ناصر الدين من السهل سوى عشرة في المئة من مساحته الإجمالية»، متسائلا عن مصير ابناء عشيرته بعدما تنضب ارزاقهم.

يقول ابو مصباح ان العشيرة وابناءها، شأنها شأن ابناء المنطقة كلها، مظلومون من الدولة اولاً ومن الأحزاب التي تمثلهم ثانياً:»نحن مقاومون بلا ثمن»،يقول مشيراً إلى شهداء سقطوا في صفوف المقاومة، وإلى «الظهر الحامي» الذي لعبه آل ناصر الدين مع حركة أمل في المنطقة: «كنا حماة الحركة في المنطقة، ولكنهم نسونا عندما وصلوا إلى السلطة»، يقول ابو مصباح مبدياً عتباً كبيراً على حزب الله وحركة امل الذين يمثلون المنطقة «الفرق بينهما هو في المقاومة، نحن نحترم المقاومة ولكننا لم نر مشاريعاً وإنماءً من الطرفين».

كان للّقاء بقاسم ناصر الدين ان يلّون صباح وادي الشربين، في نيسان، الشهر الذي حلّ قاسياً على جرود الهرمل. لوَّن قاسم، إبن الثماني سنوات، صباح الوادي، المزروع باللوز والمشمش وبعض التفاح والإجاص، ببعض الفرح واللهو. وعلى طريق تشق قعر وادي آل ناصر الدين، وفي عزّ «هجمة» الفلاحين على حقولهم،جلس قاسم على كومة صغيرة من الأغصان اليابسة، بعدما حزَّمها إلى بعضها البعض بحبل صغير موصول إلى سرج حمار يمتطيه علي، شقيقه الأكبر (13 عاماً). يسوق علي الحمار ساحباً قاسم على الطريق الإسفلتية المحفرة فيما يغمر الفرح الوجه الصغير كاشفاً عن فم قلَّت فيه الأسنان في ما يبدو نوبة «تفريم» متأخرة.

يلون قاسم صباح الوادي بما يبديه من سعادة بـ«اللعبة» التي يمارسها مع شقيقه بكل رضا، ويفضلها على اللّعب بـ«الفوتبول» و«الطقة والإبرة» وحتى على الـ«عسكر وحراميي». لا يبدي قاسم اي اسف او حزن على عدم امتلاكه العاباً الكترونية ولا جهاز كمبيوتر كما يفعل اطفال المدن. يبدي رغبته فقط بتمكنه من قراءة بعض القصص لأنه يحب «الحكايات» التي كانت ترويها جدته قبل وفاتها.

وبينما يروي قاسم بعضاً من هواياته، يعلو صوت نسائي من البيوت القريبة في سفح الوادي تستعجل عودته. إنها والدته التي تنتظر اغصان الحطب لتكمل طبخة اليوم «المعلقة» على موقد خارجي.

تغيرت صباحات وادي الشربين قبل سنوات وبالتحديد منذ اليوم الأول لإخراج مياه البئر الذي حفرته الدولة على عمق 450 متراً. ومع تدفق المياه ووصولها إلى منازل كثيرة، وفقاً لتمديدات شبكة المياه الشهابية (نسبة إلى العهد الشهابي)، صار لمنازل الشربين «جنيناتها»، وهي التسمية التي يطلقها الأهالي على الحدائق والبساتين القريبة من بيوتهم.

ومن الحدائق تفرعت صحارى الأشجار المثمرة إلى الحقول والأراضي التي تمكن ألأهالي، بجهودهم الشخصية، من استصلاحها، وأعملت سواعدهم في صخورها، فصار لهم مئات كعوب اللوز وبعض ألأشجار المثمرة وخصوصاً الكرز التي ترد عليهم ما يعينهم على ايام وحياة اقل ما يقال فيها انها صعبة، لكي لا نستعمل كلمتهم التوصيفية «معدمة».

في الشربين نفسها، تمد الحاجة ام كميل يديها المزينتين بنقوشات قديمة، من الأيام التي كانت النسوة فيها «تدق» (اي ترسم) على يديها، لتعرضهما خاليتين من «صيغتها»، وهي الكلمة الجبلية للحلي التي تهدى للعروس لحظة زفافها. حلي حرص ابو عدنان ان تكون مميزة وتليق بعروسه والأم المستقبلية لأطفاله. يومها، ووفق ام عدنان، «عمل الناس صيغتي فرجة». حليّ لم تقتصر على اسوارة وعقد من ليرات الذهب، بل تعدتها إلى «مبرومتين» وخاتم على شكل افعى برأسين ومحبس جميل اصرت المرأة المسنة على الإحتفاظ به إلى «الممات».

باعت ام عدنان حليّها بعدما ارهقت الديون اولادها، وهددت الفوائد المصرفية ارزاقهم «قلت بشيل عنهم شوي»، وسددت بقيمتها، مع ارتفاع سعر الذهب قرضاً كبيراً لم ترغب بالكشف عن قيمته. اليوم لم يبق لدى الحاجة ما تبيعه «عندنا مئتي كعب لوز عم نحاول نعيش منها».

تبعد اودية زغرين وزغرين الفوقا والشربين التحتا والشربين الفوقا وبريصا والتفاحة ومن ثم جرد مرجحين بمسافة تصل إلى 25 كيلومتراً عن مدينة الهرمل. جرود وصل إليها آل ناصر الدين إثر نزوحهم من كسروان جبيل، ومن ثم تمددوا نحو الهرمل «كمدينة» بالنسبة للجرود نحو المنصورة والبويضة والقصر على حدود الهرمل. بعدها انتقلوا وسكنوا في الدورة وفي حي الحارة في قلب الهرمل سعياً نحو مدارس عزت على ابنائهم في الجرود.

ومع توسع المدارس نحو الجرود، تقتصر مدرسة زغرين اليوم على الصف السادس اساسي. بعدها يصبح ابن ناصر الدين ملزماً بإرسال اولاده إلى الهرمل بكلفة تراوح ما بين ثلاثين إلى اربعين الفاً على الولد الواحد كبدل نقل. ومن لا يتمكن من إرسال ابنه إلى الهرمل «يشتري له عنزة أو رأس طرش»،وفق ابو مصباح، اي ان يتحول التلميذ إلى راع او مزارع صغير يرث شقاء والده وقلة الحيلة السائدة في الأودية.

لم تبن الدولة مستوصفاً واحداً في منطقة آل ناصر الدين، ولا ألأحزاب بالطبع فعلت. يقصد ابناء المنطقة الهرمل للتطبب بعدما افرجت الخلافات والمحاصصات على مجلس إدارتها عن تشكيله. واضحى منذ سنتين تقريباً، في قضاء يتجاوز عديد سكانه المئة الف نسمة، مستشفى بإمكانيات مقبولة مع كل النواقص الأخرى التي ينتظر اهل المنطقة استكمالها.

هناك لا يشكل الموظفون اكثر من واحد في المئة من ابناء العائلة، ما بين معلم وطبيب وعسكري ودركي... وهؤلاء هم الذين يتمتعون بضمان صحي واستشفائي، فيما ينتظر الـ99 في المئة الآخرين «عطف» وزارة الصحة لتغطي استشفائهم عند الحاجة. وضع يجبر كثيرين على التداوي بالموجود، وعلى التأخر في زيارة الطبيب قدر ألإمكان.

من الشربين وزغرين إلى بريصا التي اشترى سكانها النباريش ونقلوا عبرها مياه نبع الصخرة (نسبة إلى تفجره من قلب الصخور) إلى خزانات اشتروها على حسابهم ووضعوها بين المنازل وقربها. تستغرب خَضَار وبساتين بريصا المتروكة عطشى وسط الجرود. تعتمد البلدة على حبتي اللوز والكرز في ظل وجود مقومات سياحية لا يساعد عليها جو المنطقة المتهمة دائماً بالخروج على القانون وعدم ألآمان.

وفي بريصا يضع ألأهالي اياديهم على قلوبهم، فقد ضرب الصقيع زهر اللوز بعدما خدعه كانون الثاني ببعض الدفء. أخرج اللوز براعمه الأولى فضربها ثلج شباط وعواصفه.

«الله لا يوفق شباط ولا يجيبه بخير» تقول الحاجة فاطمة التي لم تزر بيت الله الحرام ولا تعرف سني عمرها «ما بعرف قديش صار عمري». من على عصاها التي تتنقل عليها بسبب كسر في الورك، تحتار الحاجة في حديثها عن شباط، فالشهر عوض الأرض والطبيعة شح الكوانين ولكنه قتل بصقيعه زهر اللوز الذي تعيش عليه بريصا ومنها ابنتيها اللتين تعيلانها مع زوجها «لولا هالتنتين كنا متنا من سنتين»، تؤكد الحاجة.

والاثنتان هما ابنتيها اللّتين لم تتزوجا لتهتما بوالدتهما العاجزة وأبيهما الكفيف.

تشذ ابنتا الحاجة عن قاعدة توزيع المهام عادة. هناك يهتم الرجال مثلاً بالمشاحر، والابنتين ايضاً «هون النسوان بتشتغل متل الرجال»، تقول الحاجة التي تأمل ان تؤدي الكتابة عن احوال الأسرة إلى التعويض «وإلا شو بدي فيكم».

من ارض والدهما تشتغل الابنتان بالفحم. تقيمان المشاحر التي تعتمد على قطع الحطب وتشحيله وصفّه وإشعاله والسهر عليه... و«تفجانها»، اي تفتحان، المشاحر وتوضبان الفحم استعداداً لبيعه. تبلغ زنة المشحرة من ثلاثمئة إلى خمسمئة كيلوغرام من الفحم «ما فينا نعمل مشاحر كبيرة»، تقول الصبيتان اللتان تتمكنان من انجاز خمسة مشاحر في مواسم التفحيم،فتنتجان حوالى مليوني ليرة في السنة.

ستخصص العائلة مردود مشاحر هذا العام لتسديد الديون التي تراكمت إثر بناء الصبيتان مطبخاً ومراحضاً ملاصقاً للمنزل بسبب إعاقتي الوالدين: «خطية كان الحمام بعيد عن البيت وصار اهلي يوقعوا على الطريق». عندما يمضي موسم المشاحر تشتغل الصبيتان بالمياومة، اي كعاملات في قطاف اللوز والكرز بيومية تصل إلى عشرة آلاف ليرة. تقصدان الهرمل بـ«الفان» لتتزودان بالمؤونة والاحتياجات. تفضل الصبيتان التنقل مع حسن الذي لم يغير تعرفة النقل رغم الغلاء الذي طرأ على كل شيء «بعده حسن بيتقاضى بس الفي ليرة على المشوار على الهرمل»، تقول إحدى الصبيتين التي عادت من الهرمل قبل نصف ساعة وقد اشترت «مشاية من النايلون بخمسة آلاف ليرة لبنانية». و«مشاية» النايلون هي حذاء رائج بين نسوة الجرود.

من الهرمل إلى المنصورة والبويضة ومنها بالعودة إلى اودية زغرين والشربين والبعول وبريصة وبعيداً نحو التفاحة التي يقل السكن فيها وإلى مرجحين التي تتعذر زراعتها إلاّ في الربيع المتأخر، تتحفر طرقات المناطق لتكشف عن طبقة هشة من ألإسفلت. اسفلت يبخل فيه متعهدو الأشغال على طرقات تتكسر عليها سيارات قاطنيها على قلتها. متعهدون لم يجدوا من يحاسبهم طالما ان الدولة قد نسيت ابناءها هناك وكذلك فعل ممثلوهم في السلطة.