سوزان بويل في اطلالتها الأولى
يصعب نسيان اسم سوزان بويل هذه الأيام. هي نجمة شاشات التلفزة والشبكة العنكبوتية بلا منازع بعد ان اجتذب اسمها اكثر من 30 مليون متصفح على موقع «يو تيوب». المرأة الأربعينية التي قدمت إلى برنامج «Britain’s got talent » بهندام تقليدي، صورتها الكاميرا وهي تلتهم سندويشاً كبيراً على مقعدها في قاعة الانتظار، وأخذت منها حديثاً قصيراً تصرّح فيه بلكنتها الاسكوتلندية البارزة انها عاطلة عن العمل وتحب قطتها، وهو ما كان يشكل تلخيصاً لواقعها آنذاك.
حتى اللحظة، كان كل شيء في بويل ينذر بإطلالة تشبه الآلاف غيرها في البرنامج، أي حين يظهر متسابق همّشته الحياة لكنه لا يزال يتمسك بوهم حدوث معجزة بين ليلة وضحاها، يغني نشازاً في معظم السيناريوهات، ويعود ململماً أذيال الخيبة بعد المواجهة مع الجمهور والكاميرا .
السيناريو الخاص ببويل كانت بدايته، على الأقل، متطابقة: تصل إلى المسرح ولا تؤخذ على محمل الجد. يضحك الجمهور عندما تخطئ في التعريف عن بلدتها، ثم تظهر تعابير الاستهجان على وجه لجنة الحكم وتعلو صيحات الجمهور عندما تقول ان عمرها 47 سنة وإنها تريد ان تصبح مغنية محترفة. تُستفز بويل وتدوّر خصرها بحركات سريعة وترد «..وهذا جانب مني فقط». يزداد الهرج والمرج. تركز الكاميرا على تعابير الازدراء على وجه صبية بينما تتحدث المرأة الأربعينية بشعرها المشعث وثوبها التقليدي وحاجبيها العريضين. يسألها سايمون كويل الحكم القاسي والساخر في البرنامج عن طموحها فتجيب أنها تريد ان تكون مغنية محترفة. تريد سوزان ان تكون مثل الفنانة ألين بايج. المزيد من الاستخفاف بين الجمهور.
تعطى إشارة البدء وتنطلق أغنية « I dreamed a dream» في اللحظة الأولى التي تبدأ بويل فيها بالغناء ينقلب كل شيء. صدمة من الجملة الموسيقية الأولى. صوت سوزان رائع. تتحول صرخات الاستهجان إلى هتافات تشجيع، وتفرض خامة الصوت النقية تصفيقاً حاداً. تعابير الذهول تظهر على وجه الجميع وخصوصاً أماندا هولدن وسايمون كويل من لجنة التحكيم. لا تنتهي الأغنية المأخوذة من «البؤساء» إلا على تماه مع بويل التي اجبرتها ظروف الحياة ان تهتم بأمها وتهمل أحلامها، وعلى تصفيق حاد وقوفاً.
هكذا اصبحت بويل نجمة العالم. لكن صعودها المدوي ما كان ليحصل لولا عدة مواقع أهمها «تويتر»TWITTER، وغرف الدردشة التي تناقلت الخبر وطبعاً موقع «يو تيوب»، حيث بلغ عدد التعليقات الخاص ببويل المئة مليون تعليق.. وهو عدد يزداد في كل ثانية!
الأكيد ان البرنامج دفع بويل إلى الأمام، وما يسمى بـ«الاعلام الجديد» دفع بالاثنين إلى واجهة العالم أجمع. ما أعاد وضع سؤال «ماذا يريد الجمهور» في الواجهة. فالبرنامج بات منافساً حقيقياً لبرنامج آخر يحضر فيه سايمون كويل، هو «أميركان أيدول» المعروف بنسخته في العالم العربي بـ «سوبر ستار». كشفت بويل ان الجمهور في هذه الأيام يبحث عن وصفة تلفزيونية تبرز موهبة فذة وتنتصر لـ«الضحية المظلومة»، وهذا ما سبق للبرنامج نفسه ان اتبعه بامتياز مع بائع الخلوي البريطاني بول بوتس والطفل من أم عزباء شاهين جفرغولي.
وفي إطلالة بويل انتقام ضمني وتأييد ديموقراطي من كل «الجمهور العالمي» لامرأة أربعينية لم تُقبّل بعد حسب ما أفادت، ولم ترث جينات تؤهلها لربح لقب ملكة جمال لكنها منحت صوتاً آخاذاً.
لقد تحولت بويل إلى حقل تجارب إعلامي- اجتماعي. فهي تمثل عبقرية الصوت، أي النخبة النادرة من جهة، وشريحة المهمشين الأكثرية الكونية من جهة أخرى. فهل نحن أمام وصفة جديدة سيتم تلقفها بين منتجي البرامج العالمية، وصفة تقوم على صدم المشاهد عبر كسر توقعات له عن «نوع» معين من الناس، يستطيع التماهي معه بعد ان قامت برامج المواهب نفسها بفرض مواصفات للنجومية تتعارض جذرياً مع «مقومات» بويل؟
للوهلة الأولى بدا ان بويل قلبت مقاييس النجومية المرتكزة على القد المتناسق والاستعراض المفرط للجسد، لكن في حقيقة الأمر نجحت بويل بإعادة رسم الأولويات: «الصوت أولاً لمغن ناجح». هكذا تقول الاندفاعة العالمية باتجاهها، لكن البحث تحت القشرة يذهب إلى فكرة أبعد مفادها ان إطلالة بويل، كرست، عن غير قصد، بعض المقاييس السابقة في معرض هدمها، بمعنى انها حصدت تعاطفاً هائلاً بوصفها الاستثناء النادر. وهو يبقى استثناء يزعزع، مؤقتاً، مقولة «الجمهور عايز كده» ولكنه لا يلغي منطقه، إلا إذا تم تلقفه من العقول المخططة للبرامج المشابهة.
يدور النقاش حالياً عما إذا على البرنامج ان يغير شكل سوزان، ولو من دون اللجوء إلى عمليات تجميل، وهو ما تعارضه عضو لجنة التحكيم هولد بشدة بحجة انه «يفسدها» ولو انها تعترف انه «قد يأتي في مرحلة لاحقة ولكن ليس في البرنامج»، بينما ينقسم الذوق الشعبي حوله في إحصاءات على الشبكة اتت نتيجتها حتى الساعة شديدة التقارب وهو ما يدل بدوره ان الجمهور لم يتخل تماماً عن فكرة «الرزمة المتكاملة»، أي الشكل والمضمون في تعامله مع بويل.
رفّهت سوزان بويل عن العالم. اجتاحته بأغنية واحدة بفضل الانترنت، واستطاعت ان تفعل ما يعجز عنه الكثير من الفنانين البريطانيين، أي اختراق اميركا والعبور إلى قارات العالم. تحقق حلم بويل التي كانت تغني في كورال الكنيسة ومسابقات الكاراوكي والحفلات المدرسية بإطلالة تلفزيونية واحدة. وصلت سوزان بويل بالفعل إلى العالمية، وهي الوجه الذي يستميت لاري كينغ وأوبرا وينفري لمقابلته، وما حدث ليس سوى لمحة لما يمكن ان يحققه تعاضد ثالوث الانترنت والتلفزيون والمظلومية الشعبية في القرن الواحد والعشرين.
تعليقات: