متى يلتفت المجتمع اللبناني إلى الأب؟
فليبقَ بعيداً عن الأضواء كي لا يفسده الاستهلاك ويفقد معناه..
حصلت الأم على الاعتراف بتضحياتها منذ عقود، وخُصّص يوم الواحد والعشرين من آذار للاحتفاء بعطاءاتها فيما لم يلتفت المجتمع اللبناني إلى الأب إلا أخيراً حين أقرّ يوم الواحد والعشرين من حزيران عيداً له، من دون وجود ما يدلّ إلى الجهة أو المناسبة التي كرّست هذا التاريخ عيداً لا يزال يُقابل بالفتور
ليس «أبو كيس» مصدر رعب الأطفال الوحيد، فالتهديدات التي تتكرّر على لسان الأمهات العربيات لأطفالهن منذرة بـ«إخبار البابا»، والإغراءات التي يكرّرنها على أسماعهم لتقويم سلوكهم من خلال دعوتهم للالتزام بعدم «إغضاب البابا»، تؤدي تلقائياً إلى تأطير الأب في خانة المعاقِب والمحاسِب، وتقريب الأم من أبنائها بصفتها ذلك الصدر الحنون الذي يحتوي ويضم ويقوم بدور الوساطة مع الأب.
يهاب أطفال العرب «سي السيد» ويحتمون بـ«أمينة»، الزوجة المطيعة والأم الطيبة، يشكون لها همومهم فتستوعبها. تحتاج إليهم كما يحتاجون إليها، فهي أيضاً لديها ما تشكو منه. أما الأب فهو رمز السلطة والقوة. هو الذي يعطي فقط ولا يحتاج إلى أي دعم في المقابل. يتواجد في البيت لفترات قصيرة يلتزم خلالها الأطفال الهدوء، يوفّر احتياجاتهم ويعطيهم مصروفهم، يحادثهم ويلاعبهم ثم يشاهد بجدّية نشرة الأخبار المسائية ويردّ على اتصالات كثيرة يتكلّم خلالها كلاماً كثيراً على مسؤوليات يتولّاها وشؤون يدبّرها. يستخدم مصطلحات مستعصية على فهمهم ويتكلم مع ضيوفه في أمور مهمة بينما يطلب منهم عدم إحداث ضجة وهم يلعبون في غرفتهم. أما حين يضايقهم ابن الجيران أو ولد يلعبون معه في مكان عام، فيسارعون إليه، يحتمون بقوته، يشكون الظلم الذي تعرّضوا له وهم واثقون بأنه سيأخذ لهم حقّهم. يرون قوته ولا يرون دموعه، يرون سلطته وصلابته ويخفي عنهم لحظات ضعفه كما يخفيها عن الجميع في مجتمع يفرض عليه ذلك بصفته رجلاً.
الهدايا للنساء فقط
هذه الصورة النمطية التي نشأت عليها المجتمعات العربية أخّرت من ولادة فكرة الاحتفاء بالأب، وتشكّل عائقاً أمام نموّها اليوم. فعلى رغم إقرار يوم الحادي والعشرين من حزيران عيداً رسمياً للأب، إلا أن معظم الأبناء اللبنانيين لا يحتفون به كما يحتفون مثلاً بعيد الأم أو بعيد الحب. فالهدايا تناسب النساء أكثر، ولا سيما الأمهات. أما الآباء فينسحب دورهم المادي في المنزل على دورهم الإنساني، وتطغى صورة الرجل فيهم بما تفرضه من قوة وعقلانية على صورة الإنسان الذي يحتاج إلى براهين ولو رمزية وعاطفية على الامتنان الذي يكنّه له المحيطون به.
ميرا طفلة عمرها عشر سنوات. تحب أباها وتركض فور أن تسمع صوت مفتاحه يدور في حلقة الباب مساءً لتحتضنه وتغرقه بوابل من القبل. لكنها كادت أن تنسى عيد الأب هذا العام. ففي المدرسة «يذكّروننا بعيد الأم» من خلال الأغاني التي يلقّنونهم إياها للمناسبة، والأشغال اليدوية التي يصنعونها في الصف لتقديمها لأمهاتهم، ومواضيع الإنشاء التي يطالبون بكتابتها عن الأم، أما عيد الأب فيأتي خلال فترة الامتحانات، وقلّما يذكرونه في الصّف. ولأن والدتها ذكّرتها هذا العام، تنوي ميرا أن تهدي والدها قميصاً ستدفع جزءاً من ثمنه من مدّخراتها، وتساعدها أمها ببقية الثمن.
أما فرح، وهي موظّفة في بنك وتبلغ السادسة والعشرين من العمر، فقد غاب عيد الأب عن ذهنها تماماً هذا العام، ككل عام. تتذكره من حديث يدور في المكتب بين الزملاء أو من إعلان على التلفزيون فتطبع على خدّ أبيها قبلة وتعايده. تعترف بأنها لا تشعر بأن عيد الأب مناسبة رسمية كما هي الحال بالنسبة إلى عيد الأم. ويشجّعها سلوك الوالد على هذا التقويم، إذ هو «يغضب حين نجلب له الهدايا ويستخفّ بالورود لو أتينا له بها. يطلب منا أن نأتي بالهدايا لأنفسنا بدل أن نهديه هو». تشعر فرح أنه «لا يحتاج إلينا مادياً» ولا يعوزه شيء ممكن أن نأتي له به.
لا تعكس الطريقة التي يتعامل بها الأبناء مع عيد الأب منذ إطلاقه أحاسيسهم الحقيقية تجاه آبائهم. فالفتور الذي يحيط بتعاملهم مع المناسبة يخبّئ أحاسيس بالغة الدفء تجاه آبائهم، إلا أن هذا الدفء لا يُترجم عملياً لأسباب اجتماعية تتعلق بصورة الأب والأم في العائلة اللبنانية.
أحاسيس دافئة
تجسّد رشا مثالاً صارخاً على ذلك، فهي تتحدث عن أبيها بإعجاب وتقدير بالغين. هو الذي ربّاهم هي وأختها وأخاها بعد وفاة أمهم، رافضاً الارتباط بامرأة أخرى. صادقهم وأنشأ معهم علاقة غاية في الودّ والصراحة والحميمية. يهمل الإخوة الثلاثة عيد الأب ويحتفلون بأبيهم في عيد الأم. يأتون له بالهدايا وبقالب حلوى وبالزهور في الحادي والعشرين من آذار، وكأنما يعجز عيد الأب عن خلق خصوصيته فتستعين الأسرة بمناسبة هي أكثر اتساقاً مع التراث الاجتماعي للتعبير عن امتنانها للأب: عيد الأم.
أما زياد الذي يبلغ اليوم 36 عاماً، والذي ورث المرارة بدلاً من بطاقة الهوية لأن والده توفي قبل حصوله على الجنسية اللبنانية، فلا يخفي في شخصيته طفلاً ما زال الحنين يعبق في ذاكرته، وهو الذي اعتاد أن يغفو على صوت أبيه يتداخل مع صوت «الست» المنبعث من الغرامافون القديم على الشرفة فيبثّ في قلبه طمأنينة ما لبثت أن فُقدت إلى الأبد.
ويستعيد علي مرحلة الجفاء التي استمرت طويلاً بينه وبين والده إثر طلاق أمه حين ينظر إلى سوء علاقة إخوته الذين يصغرونه سناً بوالده. يدرك أن السّن والنضوج هما كلمة السر في عقد المصالحة مع الأب. فبعد سنوات القطيعة، تنشأ صداقة، ويُقدَّر الأب، لكن الاحتفال بعيده يبقى رهن الصدفة: يحتفل به علي لو صادف أن تذكّره، أما إذا لم يفعل، فلا توجد مشكلة «لأن الرجال قلما يهتمون بتلك الأمور».
ولأن الرجال قلّما يهتمون بتلك الأمور، تكشف جولة سريعة على محال بيع الهدايا مدى ضآلة مبيعات عيد الأب مقارنة مع المناسبات الأخرى. تكاد تخلو الرفوف من أية منتجات تسارع الحالة الاستهلاكية إلى طلبها في الأعياد التي يبتدعها المنتج أحياناً لتحقيق المكاسب. الأب يحصل فقط على «ماغ» وبطاقة عليها بعض الأبيات النثرية. ويجمع أصحاب محال الزهور على أن عدد زبائن عيد الأب لا يتخطّون العشرة، أما الأفران والباتيسري فالطلبات التي تتلقاها بمناسبة عيد الأم تفوق عشرة أضعاف ما تتلقّاه في عيد الأب.
قد تثلج هذه المعطيات قلب ليلى التي تعبّر في مداخلتها على منتدى نساء سوريا الإلكتروني عن أملها في محافظة عيد الأب على سحره بعيداً من تكريم الإعلام والإعلانات الترويجية والاحتفالات التي تفسد المناسبة رونقها، كما حصل لعيد الأم الذي «منذ أن أصبح مناسبة وطنية وعطلة رسمية في سوريا تطبّل وتزمّر لها وسائل الإعلام، تحول إلى كابوس. فبعدما كان قبلة صباحية وهدية رمزية أصبح همّاً يتطلب حسابات شتى وطقوساً روتينية وأنشأ منافسة بين الأمهات حول من تحظى بحب أولادها أكثر ومن تحصل على هدايا ذات قيمة أعلى، ما جعل العيد مناسبة لفخر بعض الأمهات ولقهر البعض الآخر».
تتنوّع الهدايا وتختلف بحسب المجتمعات والبلدان والطبقات الاجتماعية. تنفصل عن الأب فتكون وردة أو بطاقة معايدة أو قميصاً أو قبلة أو لا شيء، أو تلتصق به حدّ التوحد، ليصبح هو الهدية. فياسر هو هدية دانيا وابنتها يافا كما تكتب الأم الفلسطينية على مدوّنة الأسرة الإلكترونية «خبر إخلاء سبيل ياسر هو أعظم هدية بمناسبة عيد الأب».
لكن مهما تنوّعت الهدية ومهما اختلف أسلوب التكريم، يظلّ أساسياً، لأن الأب، مهما تصنّع الصلابة، يبكي أيضاً.
مدينة الولادة: سبوكان
يحيط الغموض بتفاصيل إقرار عيد الأب في لبنان، وتقابله رواية واضحة المعالم لنشوئه في الولايات المتحدة تعود بجذورها إلى عام 1909.
فقد قادت حملة الاحتفاء بعيد الأب ورعتها، سيدة من مدينة سبوكان في ولاية واشنطن، اسمها سونورا سمارت دودس. تذكرت هذه السيدة، خلال استماعها إلى موعظة الكنيسة عن عيد الأم، كيف تفرّغ والدها لرعايتها هي وإخوتها الخمسة بعدما فارقت أمها الحياة وهي تلد طفلها السادس.
وبدأت، وفاءً لوالدها ولآباء آخرين قاموا بالتضحيات نفسها، بقيادة حملة لنشر هذه الرسالة كُلّلت عام 1910 بإعلان يوم التاسع عشر من حزيران عيداً للأب في مدينة سبوكان.
تناقلت وسائل الإعلام فكرة عيد الأب وطرحتها عبر مقالات وتحقيقات، ما زاد الاهتمامين الرسمي والشعبي بها وساهم في انتشارها في ولايات أميركية أخرى وفي كندا، لكن الاحتفال بقي غير رسمي حتى عام 1966.
فبعدما دانت السيناتور سميث تجاهل الكونغرس الأميركي للمناسبة عام 1957، انسابت موجة من النداءات الموجّهة إلى رؤساء الولايات المتحدة، استجاب لأحدها أخيراً الرئيس ليندن جونسون عام 1966، حين أعلن الأحد الثالث من حزيران عيداً للآباء، لكنه إعلان لم يكرّس سوى عام 1972 حين وقّع الرئيس ريتشارد نيكسون قرار الكونغرس بتثبيت العيد رسمياً.
انتشر العيد من الولايات المتحدة إلى مختلف دول العالم، واختلفت التواريخ التي حددت من بلد إلى آخر، إلا أن الجدير بالملاحظة أن بعض البلدان حدّدته بالتزامن مع مناسبات دينية. ففي البلدان ذات التراث الروماني الكاثوليكي حُدد يوم التاسع عشر من آذار، وهو يوم القديس يوسف، عيداً للأب. وفي ألمانيا، يصادف عيد الأب يوم الصعود (خميس العود عند المسيحيين). وفي إيران هو يوم مولد الإمام علي، بينما حُدّد عيد الأم يوم ولادة الزهراء. أما في لبنان فهو يصادف مرور ثلاثة أشهر بالضبط على عيد الأم.
تتنوّع الهدايا وتختلف بحسب المجتمعات والبلدان
تعليقات: