ينقلان صناديق الملفوف إلى شاحنة تحملها إلى الأسواق
بعد خطوات من مبنى أفران البيادر في منطقة العبدة العكارية المتاخمة لمخيم نهر البارد، يؤدي مفرق صغير إلى قرية قد يحق تسميتها بـ»الإمبراطورية « الزراعية. تعود ملكية هذه القرية إلى عائلة وحيدة يعتاش منها أكثر من مئة وخمسين شخصا من أبنائها ومن العمال.
بدأت قصة عائلة آل حسن، بعد أن ترك كبيرها الحاج علي خالد حسن قريته النائية في جرود عكار في العام 1948 وانتقل إلى العبدة للعمل في معمل لتصنيع السكر. سكن الحاج علي في كوخ صغير، وثابر بجهد إلى أن اشترى في ما بعد قطعة أرض من حوله. وتوسعت ملكية الحاج شيئاً فشيئا إلى أن وصلت إلى بقعة واسعة من الأملاك والعقارات التي قسمت في ما بعد على ورثته. وتعيش اليوم من أملاكه أكثر من ثلاثين عائلة. تؤدي طريق قديمة، تتآكلها الحفر إلى المزرعة التي تدخلها من ممر تلف أطرافه شجيرات من القصب البري، تشعرك وكأنك في أدغال إحدى الغابات البعيدة. أبنية إسمنتية، تتناثر في منطقة سهلية، لا تقل طوابقها عن الثلاثة ولا تزيد عن الأربعة. فيما تنتشر البيوت البلاستيكية الزراعة التي يهتم بها سكان المزرعة.
ينتهي طريق القصب البري فتبدو اراضي المزرعة الواسعة، عمال سوريون يشتغلون في البيوت البلاستيكية. تنادي ياسمين صديقتها خدوج (لقب لاسم خديجة) لتحذرها من عدسة الكاميرا، فيما ينقل بعض العمال علبا وصناديق كرتونية وبلاستيكية تحتوي على ملفوف وخيار إلى شاحنات صغيرة تنقلها إلى سوق الخضار في باب التبانة في طرابلس.
أطفال صغار يلعبون بالتراب وداخل بيوت البلاستيك. يعلو صراخهم من حين إلى آخر بين ضجيج العمال وحركتهم الدؤوبة، فيما يجتمع داخل غرف من الاسمنت مخصصة لتعبئة الصناديق بالخضار المقطوف من بيوت البلاستيك، عدد من الشبان من مالكي الأرض. يتحدثون عن أحوال الزراعة والخطوبة والزواج.
داخل المزرعة
يشرح ربيع الحسن، طالب متخرج من كلية الحقوق والعلوم السياسية، وهو يعتبر من القلة المتعلمة في بيئة الزراعة في منطقة سهل العبدة، يشرح ربيع عن معاناة الفلاحين وقساوة عيشهم وتعبهم الذي لا يجني لهم سوى ما يجعلهم يستمرون في الحياة. يقول ان الأرباح تصرف بمعظمها على تحضير الموسم المقبل «فلا يتهنوا بالمال». شبان مراهقون يتهامسون، ويخفون تساؤلاتهم وراء بسمة هادئة ومشغولة وشاردة. عيونهم مرتبكة تبحث عن شيء ما، مجهول بالنسبة لهم. وجه عبد الرحيم ملوح باحمرار شمسي. يقول ابن الخامسة عشرة إن «العمل في الأرض شاق ومتعب، إلا أنني مجبر على العمل لكي أعيش مع أسرتي». ترك عبد الرحيم المدرسة من الصف الخامس الابتدائي، ليلتحق بأترابه في العمل الزراعي «فالجميع هنا لا يتعلم بل يشق دربه في الزراعة والعمل في الأرض». وبالنسبة للأجر، يقول عبد انه لا يتقاضى شيئا، «فوالدي يصرف علي وكل ما أريده أحصل عليه من المنزل»، مشيراً إلى عدم وجود حياة اجتماعية في البيئة التي يعيشون فيها «فلا نتعرف كثيرا إلى أناس من خارج بيئتنا أو معارفنا، ويقوم والدي بجمع المال ليبني لي بيتا في إحدى الأراضي التي نملكها ومن بعدها أتزوج وابني أسرتي».
لا تختلف أيام الأسبوع بالنسبة لأهالي منطقة آل حسن الزراعية، فلا عطل إلا في الأعياد. تعيش العائلة وأفرادها في حركة دائمة وتحتم عليهم طبيعة العمل الاستمرار في الزراعة من اجل الحفاظ على المواسم التي تتوالى زمنيا عغبر فصلي الشتاء والصيف وما بينهما. يزرعون شتاء ويبيعون انتاج خضار الخيار والبندورة والباذنجان والفول و الملفوف، ويعتمدون في الصيف على الذرة (العرانيس) والباذنجان والبندورة والخس.
الحرب و الطقس
نقترب من احد المزارعين، فيتحلق من حوله عدد من العمال الذين كانوا يقطفون «أزرار» الخيار. يؤكد المزارع أن «الحروب التي عاشها الشمال، من عدوان تموز وحرب البارد وأحداث التبانة وبعل محسن حيث سوق الخضار، أثّرت سلبا على حركة المواسم و»ضربتها» وأوقعت المزارعين في خسائر كبيرة لم تعوض حتى الآن. ويخص بالتأثير حرب مخيم نهر البارد المتاخم للمنطقة الزراعية التي يملكونها. يقول المزارعون انهم يعيشون تحت رحمة التجار والسماسرة، بعدما اضطروا إلى الاستدانة من اجل تأمين ظروف عيشهم ولسد حاجات عائلاتهم، إضافة إلى الظروف الطبيعية والطقس، لا سيما حين تأتي موجات من الصقيع وتقضي على المواسم. ويشير المزارعون إلى أن «حقوق الفلاح العكاري مهضومة من الدولة، وهو محروم من التعويضات حيث لا تقوم الدولة ووزارة الزراعة بدورهما اللازم لحماية المزارعين في عكار وسهله، إذ يعتمد معظم أهل عكار على قطاع الزراعة في عيشهم ورزقهم». وتشكو العائلات المزارعة من عدم وجود تعاونيات زراعية تساعد الفلاح، في تأمين حاجاته الزراعية وتقدم له النصائح لتطوير زراعاته، بما يتناسب مع متطلبات السوق والاستهلاك المحلي والخارجي حتى».
يتدخل مزارع من «التجمع الزراعي» ليشير إلى «غلاء البذور والأسمدة في غلاء فاحش وإلى أن الدولة لم تتحرك لتسعف المزارعين وتساعدهم للحصول على البذور والأسمدة بأسعار مدعومة، إضافة إلى عدم التزام الحكومة بالروزنامة الزراعية التي يتوقف بموجبها استيراد الخضار من الخارج مع بدء قطاف المحاصيل المحلية وتسويقها.
..
. حتى النسوة
لا يتوقف عمل المرأة في بيئة آل حسن الزراعية على تأمين حاجيات المنزل والاهتمام بتربية الأولاد، بل تقع على عاتق النسوة أعمال أساسية في الزراعة. فمن الإشراف على سير العمل، إلى المساعدة في القطاف والزرع والتوضيب وتعليب الصناديق وترتيبها، الى جانب تحضير الطعام للعمال والأزواج والأبناء العاملين في الحقول والبيوت البلاستيكية. وتتحدث إحدى النساء عن يومياتها التي تبدأ عند الخامسة فجراً مع تحضير «الزوادة» للزوج والأولاد، «مع إبريقين من الشاي والقهوة»، بعدها ترتب الأحذية والألبسة الخاصة بالحقول والأدوات المستخدمة. بعد أن يستيقظ الجميع، تنطلق العائلة إلى البيوت البلاستيكية حيث ينتظر العمال. توزع المرأة المزارعة المهام على الفتيات العاملات داخل بيوت البلاستيك وخارجها والتي تعتمد بالأساس على توضيب ثمار الخضار داخل الصناديق. وعند الساعة الواحدة من بعد الظهر، تعود المرأة المزارعة إلى المنزل لتحضير طعام الغداء وإحضاره إلى الورشة. بعد ذلك تعود إلى بيتها ترتبه وتأخذ بعض القيلولة ثم تعود عصرا إلى العمل من جديد إلى حين إرسال الخضار إلى السوق التجارية». وتضطر بعض النسوة المرضعات إلى إرضاع أبنائهن وتربيتهم في الأراضي والبيوت البلاستيكية.هناك يحدثونك عن نسوة ولدنّ أطفالهن في الحقول أو داخل البيوت البلاستيكية .
لا خدمات
تعاني منطقة آل حسن الزراعية بسبب جغرافيتها المعزولة بعض الشيء، من نقص في المدارس ومن بعد المسافة عن المستشفيات. ففي المنطقة التابعة لها وتدعى بالمحمرة لا مدرسة رسمية، فيما يعتبر مستشفى الخير في المنية الذي يعاني من نقص التجهيزات الطبية هو الأقرب. وبسبب اعتبار بيئتهم زراعية، يعاني آل حسن من غياب خدمات جيدة وقريبة وانعدام إمدادات مياه الشفة، إذ يعتمدون على مياه الينابيع وبعض الآبار الجوفية. وهذه مشكلة عامة تعاني منها معظم قرى وبلدات عكار المعدومة والمحرومة.
يصحبنا الشاب ربيع إلى مدخل القرية «الامبراطورية» الغارقة في شؤون الزراعة واهتماماتها بعد توديع الجميع. ومع بروز الطريق الدولية والأبنية وضجيج الحياة الحضرية تشعر وكأنك تترك عالما يختلف عما يحيطه، فيما يعيش آل حسن حياة هادئة و»روتين» قد يدخلهم في سعادة غامضة.
تعليقات: