سعد الله مزرعاني
نستعير هذا الشعار لا لنتبنّاه: لا لنتبنّى محتواه ولا مراميه في الكثير من العناوين المتصلة بالوضع اللبناني، ولا بعلاقة الوضع اللبناني بالوضع الإقليمي أو الدولي. ولا نستعير هذا الشعار أيضاً بما هو تكرار، وخصوصاً، لمقولة «حياد» لبنان أو «تحييد» لبنان. وهذان كانا قد طُرحا في غمرة العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982. كان الحياد يومها (وهو كان غالباً، بل حتى دائماً) في المفردات اللبنانية، إعلاناً للانحياز إلى الفريق الأميركي والغربي المتحالف معه، حيال صراعات المنطقة والعالم. لبنان أولاً، هو استعارة مجازية إذاً، لأمر مختلف ولمحتوى مختلف. لكنه، مع ذلك، مفيد للإشارة إلى بعض المستجدات في تطور الأوضاع: اللبناني والإقليمي والدولي، ومن ثم لتلمّس استنتاج أساسي، وخصوصاً، بشأن الوضع الداخلي اللبناني.
في قراءة عنوانية للوضع الإقليمي الراهن، وبعد هزيمة إدارة المحافظين الجدد ـــــ جورج بوش، في الولايات المتحدة وفي الشرق الأوسط، يمكن القول إن الإدارة الأميركية الجديدة، لا تمتلك أي مشروع خاص. إنها تتلمّس معالم سياسة، لا تقوم بالتأكيد على مشروع عدواني جاهز اندفاعي وهجومي، كما كان الأمر بالنسبة إلى مشروع «الشرق الأوسط الجديد».
وفي مجرى تلمّس سياسة جديدة لها، تسير إدارة الرئيس باراك أوباما وفق الأساسي من توصيات «لجنة بيكر ـــــ هاملتون». نقصد، بين أمور أخرى، السعي إلى تطبيع العلاقات مع دمشق، من جهة، وإلى إدارة حوار مع طهران، من جهة ثانية. لا يعني ذلك أبداً، أن الإدارة الجديدة قد تخلت عن المصالح الأميركية الكبرى في المنطقة. على العكس من ذلك، فهذه المصالح مهمة جداً من حيث الأساس للإدارة الأميركية وللاحتكارات الأميركية وللمجمَّع الصناعي ـــــ الحربي الأميركي. وهي محروسة بشبكة ضخمة من القواعد العسكرية والعلاقات السياسية والأدوات الأمنية... وتزداد أهمية هذه المصالح مع اندلاع الأزمة الاقتصادية ـــــ المالية في الولايات المتحدة ومراكز المتروبول الرأسمالية الكبرى في العالم. إنها تعوّل خصوصاً، على تحميل الاقتصادات الخليجية، أعباءً إضافية في مواجهة نتائج الأزمة النقدية التي ضربت ولا تزال الاقتصاد الأميركي والرأسمالي عموماً. و«العين» الأميركية «تحط» خصوصاً على المدخرات وعلى الثروة النفطية استخراجاً وتسويقاً وإنتاجاً واكتشافات جديدة (في دول مثل العراق والسودان خصوصاً).
ألقى فشل المشروع الأميركي بظلاله الثقيلة، كما هو واضح، على «حلف الاعتدال العربي». ورغم أن القيادة المصرية ما زالت تدير سياسات ينتمي معظمها إلى رحلة الغزو الأميركي للعراق، فإن أسباب هذه السياسات دفاعية في معظمها. والجوهري منها، هو بالتأكيد صادر عن مخاوف كبيرة من ضعف النظام المصري الذي لم يعد يملك مشروعية كافية لاستمراره، إلا في فعالية جهازه الأمني الذي هو الأضخم في العالم (عددياً على الأقل!). أما السلطات السعودية، فقد جنحت إلى المصالحة. وهي ستمضي في خطوات إضافية تصالحية مقدمة هاجس الأمن الداخلي على ما سواه، ومقدمة أيضاً تنازلات سيبرز حجمها تباعاً، مع تكشُّف العجز السعودي عن الاستمرار في تأدية دور مباشر وهجومي في الشؤون العربية والإقليمية. فالمملكة سترتد لممارسة دور «تقليدي» اعتادت قيادتها ممارسته في العقود السابقة، وبات ماركة سعودية مسجلة، من حيث التحفظ والانكفاء عن الواجهة وتفادي الدخول المباشر في الصراعات. أكثر من ذلك، ثمة ما يؤكد أن تقاطعات أخرى ستحصل (تنازلات) في الانكفاء الأميركي والنزعة التصالحية السعودية، بشأن العراق وأفغانستان والتطرف و«القاعدة» وربما بشأن الأزمة الاقتصادية والنقدية الدولية. ذلك يعني، في انعكاسه المباشر على لبنان، أن بلدنا سيفقد الكثير (دون أسف طبعاً!) من عناصر التوتر التي حوّلته، إثر غزو العراق، الساحة الثانية من حيث الاشتعال بعد الساحة العراقية. بدأت بوادر الانفراج في الوضع اللبناني في الظهور مبكراً. وعملية خلط الأوراق التي نشهدها اليوم في توجهات وسياسات البعض، مرشحة للتصاعد حتى الانتخابات النيابية في 7 حزيران، وخصوصاً بعد هذا التاريخ، وعلى نطاق أوسع. لا ينبغي أن نتجاهل وسط هذا التقدير شبه المتفائل، أن ثمة سلطة في الكيان الصهيوني، تسعى إلى وضع الأمور في اتجاه معاكس. والاستعدادت الإسرائيلية تمضي على قدم وساق من أجل اغتنام فرصة ما، في الوضعين الإقليمي والدولي، بغية توجيه ضربة إلى المنشآت والمشاريع النووية الإيرانية. ذلك سيكون تأثيره شاملاً على المنطقة. لبنان، خصوصاً، سيكون نقطة صراع كبير لا يمكن منذ الآن، توقع حدوده. صحيح أن العدوانية الصهيونية، قد لقيت دائماً التشجيع والدعم الأميركي والغربي المتواطئ مع السياسة الأميركية، لكن الصحيح أيضاً، أن العدوانية الصهيونية ذات دينامية خاصة وذاتية من شأنها ممارسة فعل إجرامي كبير إذا أتيحت لها الفرصة والإمكانات.
تداخل الوضع الإقليمي مع الوضع اللبناني، والدور الإيراني في لبنان بشكل خاص (الداعم للمقاومة أساساً)، يتيح التأكيد بأن لبنان سيكون في قلب العاصفة. كذلك تمتلك القيادة الصهيونية قدراً ضخماً من الرغبات الثأرية بسبب هزائمها الدائمة في لبنان، على يد المقاومة الوطنية والإسلامية، وخصوصاً في عدوان تموز لعام 2006.
يملي كلّ ذلك أن يبقى لبنان الرسمي والشعبي، السلطة والمقاومة، في أقصى درجات الحذر والجهوزية. تجربة حزب الله في التعامل مع العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة وشعبها، دليل على قدرة هذا الحزب على الجمع ما بين وحدة الصراعات من جهة، وتعدد جهاتها وجبهاتها، من جهة أخرى. ذلك يعني أن كل جبهة من جبهات الصراع تمتلك دينامية خاصة بها، وإن كانت الاستهدافات واحدة أو التوجهات أو البرامج أو الأولويات. هل سينطبق ذلك على العدوان على إيران؟
ورغم ذلك، فالوضع اللبناني مرشح لأن تتقدم تناقضاته الداخلية على تناقضاته الوافدة من الخارج. مرحلة استقرار نسبي قد تجد سبيلها الى هذا البلد نظراً لتأثير ما تقدم ذكره من تراجع وفشل الهجوم الأميركي والإسرائيلي على المنطقة وفي لبنان. يقود ذلك، موضوعياً، إلى بلورة سياسات وتوجهات جديدة وإلى بلورة أولويات مناسبة حيال قضايا الوضع الداخلي اللبنانية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في المرحلة الماضية تقدم الموقف من المقاومة، وجوداً وتأثيراً ودوراً وفعلاً وعلاقات، على ما سواه. حصل الانقسام بشأن هذه المسألة، وحُجبت أو حجِّمت العناوين الأخرى. لن يكون الأمر على هذا النحو تماماً، في المرحلة المقبلة. العنوانان السياسي والاقتصادي سيتقدّمان خطوات كبيرة الى الأمام، ليوازيا، على الأقل، عنوان المقاومة في بعدَيه الداخلي والاقليمي. عملية «خلط الأوراق» التي سبق ذكرها، ستكون حاضرة في هذا المجال، في جانبين: رسم علاقات ومواقف جديدة، من جهة، ورسم موازين قوى متبدّلة، من جهة ثانية. يطرح ذلك على مجمل المشهد اللبناني ضرورة حصول تبدلات من شأنها، إذا ما كانت المصلحة الوطنية هي المحرّك، اعتماد ومقاربات وأولويات جديدة. في مقدمة ذلك البدء الجدي بتفحص الخلل الناجم عن النظام السياسي الطائفي ـــــ المذهبي.
كثرت الإشارة في المواقف وفي البرامج إلى وعود بالعمل من أجل إلغاء الطائفية السياسية. ملاحقة هذه الوعود الرسمية وغير الرسمية يجب أن تكون موضع اهتمام ضاغط كبير. كذلك في موضوع اعتماد قانون نسبي وخارج القيد الطائفي في الانتخابات النيابية المقبلة (2013). يلي ذلك طبعاً، موضوع الأزمة الاقتصادية الاجتماعية. هذا عنوان مهم جداً. نتائج الأزمة الاقتصادية في الداخل، والنقدية في الخارج، تهدد حياة عشرات آلاف العائلات اللبنانية الإضافية. تراجع الصراع الإقليمي وتقدّم العناوين السياسية والاقتصادية اللبنانية، سيقودان إلى اصطفافات من نوع جديد. ما يجمع بين أطراف البورجوازية اللبنانية، سيكون أكثر مما يفرّق. وخصوصاً في شأني الأزمة الاقتصادية وإصلاح النظام السياسي.
ما بين الخطر القائم الصهيوني، وما بين ضرورة العبور إلى لبنان الوطن، تصح استعادة القول الشهير للإمام علي بن أبي طالب: اعمل لدنياك (إصلاح النظام) كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك (العدوان الصهيوني!) كأنك تموت غداً.
* كاتب وسياسي لبناني
تعليقات: