مجزرة إهدن: هكذا اختار الموســاد سمير جعجع

مجرزة إهدن
مجرزة إهدن


إنّها الوجوه نفسها. إنّه الموت نفسه. بعد ما عرف بحادثة بصرما العام الماضي، سار أهالي زغرتا في جنازة يوسف فرنجية (أبو جو).

قبل ذلك بثلاثين عاماً، كان أبو جو يطلّ من نافذة أحد المباني ليطلق الرصاص باتجاه شخص لا يعرفه كان على رأس قوّة من «الكتائب» يحاصر قصر آل فرنجيّة. تبيّن في ما بعد أنّ ذاك الشخص ليس إلا سمير جعجع الذي أصبح لاحقاً قائداً للقوّات اللبنانيّة. لكنّ تفاصيل عمليّة إهدن وخلفيّاتها السياسيّة ودور الموساد فيها، بقيت مجهولة إلى حدّ كبير، إلى أن صدر الأسبوع الفائت كتاب «مجزرة إهدن أو لعنة العرب المسيحيّين» (دار «فايار») للصحافي الفرنسي ريشار لابيفيير.

بعد مرور قرابة واحد وثلاثين عاماً على اغتيال طوني فرنجية وزوجته وابنته وثمانية وعشرين شخصاً آخرين (يرى لابيفيير أبو جو الضحية الثانية والثلاثين لمجزرة إهدن، إذ قُتل بعد إدلائه بشهادته عن تلك المجزرة ضمن برنامج عرض على محطة «أو تي في»)، يعود لابيفيير إلى مسرح الجريمة، ليطرح الأسئلة السياسيّة والقانونيّة الصعبة، وليجيب عن بعضها ويترك بعضها الآخر ملكاً للتاريخ. يحتوي الكتاب على وقائع المجزرة التفصيلية، الأحداث السياسية والأمنية التي مهّدت لها والتي تلتها، رافضاً التفسيرات الأنثروبولوجية الضيقة لرواية ما جرى.

فمجزرة إهدن لم تكن حدثاً عابراً، بل مفصل أساسي ما زالت تأثيراته حاضرة، وخصوصاً في ما يتعلّق بدور العرب المسيحيّين وعلاقتهم بعضهم ببعض، ونظرتهم إلى أنفسهم ودورهم. هنا ترجمة للفصل الحادي عشر الذي حمل عنوان «دسيسة الموساد»، والذي قد يكون أكثر الفصول إثارة من الكتاب الذي يتألف من ثلاثة وعشرين جزءاً موزّعة على ثلاثمئة وخمسين صفحة. يروي لابيفيير دور الموساد في التخطيط للعمليّة، بما في ذلك الضغط على بشير الجميّل من أجل اختيار سمير جعجع لقيادة عمليّة إهدن، ضمن مخطّط يقضي بالسيطرة على تلك المنطقة من الجبل تمهيداً لوصول بشير الجميّل إلى السلطة. عمل لابيفيير في إذاعة فرنسا الدولية حتى تسريحه في آب عام 2008 على خلفيّة مواقفه من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. له عشرات المؤلفات، منها: «دولارات الإرهاب» الذي حاول قبل عامين من أحداث 11 أيلول تفكيك آليات تمويل الحركات الاسلاميّة، وكتاب «التحوّل الكبير أو القصة السريّة للقرار 1559»

«ستكون فلسطين وطننا التاريخي الذي لا يُنتسى. وحده اسمها سيمثّل بالنسبة إلى شعبنا صرخة استثنائية في قوّتها تلمّ شمله. إذا وافق صاحب الجلالة السلطان على أن يعطينا فلسطين، فسنأخذ على عاتقنا ترتيب شؤون تركيا المالية. بالنسبة إلى أوروبا، سنكون بمثابة جدار بوجه آسيا ومركز الحضارة المتقدّم بوجه البربرية».

(ثيودور هرتزل (1860 ــ 1904)، من كتاب «دولة اليهود»)

في مستهل تسعينيات القرن المنصرم، رحتُ أعمل على موضوع تمويل المنظمات الإسلامية والفصائل المسلحة، مثل المجموعات الإسلامية المسلحة الجزائرية والجماعات الإسلامية المصرية. وكان صديق جزائري من أصدقاء طفولتي قد وقع لتوّه أولى ضحايا المواجهة المفتوحة بين المنظمات الإسلامية والسلطة الجزائرية. وفيما كنت أتمشى في أروقة مقر لجنة حقوق الإنسان في جنيف ذات يوم، صُعقت لدى سماعي الناطق باسم منظمة غير حكومية يعلن بتبجح مسؤوليته عن اغتيال هذا الصديق.

ثم اكتشفت أن المنظمة التي ينتمي إليها هذا الشخص كانت تلعب دور الواجهة لجمعيات عدة تقيم علاقات مباشرة مع المجموعات الإسلامية المسلحة الجزائرية في سويسرا وفي أوروبا. وإذ أجريت تحقيقاً عن هذا الموضوع الذي يتصف بالغموض، كشفتُ النقاب تدريجياً عن نظام هذه المجموعات التمويلي الذي شمل عدة مصارف وشركات توظيف رؤوس أموال غربية وسعودية. كنت أجهل حينها أن هذا التحقيق سيستغرق خمسة عشر عاماً من حياتي.

سبّب لي عملي هذا قدراً لا يُستهان به من المتاعب مع مصارف ورجال أعمال سعوديين، كما لفت انتباه الاستخبارات الإسرائيلية أيضاً. وفي يوم من أيام عام 1992، دُعيت إلى زيارة بعثة إسرائيل الدائمة لدى الأمم المتحدة في جنيف. باستثناء إجراءات التفتيش البوليسية العادية في مطار تل أبيب، وهو أحد المنافذ المؤدية إلى خارج فلسطين وداخلها، كانت تلك أول مرة في حياتي أقيم فيها اتصالاً رسمياً مع الدولة العبرية.

قبلت الذهاب إلى الموعد بدافع الحشرية، فاستقبلتني السكرتيرة الأولى في السفارة، السيدة سيمونا فرانكل، استقبالاً حاراً وشرحت لي أن الأبحاث التي أجريها عن «التمويلات الإسلامية» لفتت انتباه سلطات بلدها التي ترغب في «التعرف إليّ أكثر». أطربني كلامها هذا وشعرت، في الوقت عينه، بأن عليّ أن أبقى متنبهاً، لأن تعاطفي مع الفلسطينيين والتحقيقات العديدة التي أجريتها في الأراضي المحتلة ما كانت لتفوت ضيوفي ولا سلطتهم. فأصغيت بتهذيب فيما كنت أحاول أن أفهم الغاية من هذا اللقاء، وقد تملكني الفضول لأعرف التتمة التي تبيّن أنها مثيرة جداً للاهتمام.

وسرعان ما تلقيت دعوة ثانية إلى حفل عشاء كبير أُقيم على شرف «الصحافي» الإسرائيلي يوري دان الذي قيل لي إنه يرغب «حتماً» في التعرف إليّ. وكانت الشخصية النافذة الداعية إلى هذا العشاء رجلاً يثير الفضول ينادونه أفي شيسنر، وكان، رسمياً، اختصاصياً بطب وجراحة الأسنان. فاستقبلنا في دارته المهيبة في كولوني في أعالي جنيف، وهو مكان استجمام يقصده كبار المصرفيين الخاصين وعائلات جنيف العريقة. كانت الدارة محاطة بسياج عالٍ زُوِّد بكاميرات مراقبة في كل زواياه. فكيف لاختصاصي وجراح في طب الأسنان أن يموّل بنية تحتية من هذا النوع، وخصوصاً لماذا قد يحتاج اختصاصي بالرمامة إلى أن يؤمن لنفسه حماية شبيهة بحماية مجلس الاحتياطي الاتحادي؟

التقيت مجدداً بسيدة السفارة التي تلت سيرتي الذاتية على مسمع مضيفنا قبل أن تعرّفني إلى شخص قُدِّم إلي بأنه «أهم الصحافيين الإسرائيليين». وبدا واضحاً أننا كـ«زميلين»، لا يسعنا إلا أن نتفاهم. في هذا العشاء، أثار فضولي شخصان آخران: كان للأوّل مظهر ملاكم ومشيته ولُقِّب بـ«كساس»؛ فيما كان الثاني ممن ترد أسماؤهم دوماً في صحف أخبار المجتمع: ليس سوى ولي عهد إيطاليا الأمير فيكتور إمانويل دو سافوا، وجه اجتماعي ينوء تحت ثقل مزدوج يُخضعه له حتى الانسحاق نسبٌ عريق وأنانيةٌ مفرطة، فيسعى إلى لفت انتباه الجميع في كل لحظة من اللحظات.

خلال عشاء «التعارف» هذا الذي غلب عليه الملل، عرفت معلومة مهمة للغاية: كان الأمير دو سافوا شريك آفي شيسنر في قضية إنشاء قنوات وجر مياه في منطقة بحيرة طبريا. وبلغني لاحقاً أن طبيب الأسنان صاحبنا كان مسؤولاً عن التجهيزات وإدارة الشبكتين المائيتين في هضبة الجولان وبحيرة طبريا، وهما ملفان استراتيجيان مهمان جداً بالنسبة إلى إسرائيل. كنا بعيدين البعد كلّه عن ترميم الأسنان.

في السهرة، لم يكن يوري دان مهتماً بأبحاثي عن «دولارات الإرهاب» بقدر ما كان المدعو «كساس» الذي أراد، «حتماً» هو أيضاً، أن يقابلني في جلسة أكثر هدوءاً حول فنجان قهوة في بلدة كالفين الساكنة البعيدة عن الأضواء. فحُدِّد إذاً موعد جديد بعد ثلاثة أيام في مقهى فندق بيرغيس، وهو المكان المفضل لدى تجار الأسلحة والمصرفيين في جنيف والوصيفات الروسيات.

شعرت بأن الدماء جمدت في عروقي عندما ادّعى كساس أنه يعرفني، مؤكداً أننا تقابلنا منذ عشر سنوات أثناء مؤتمرَي لوزان وجنيف المتعلقين بلبنان! في حياتي المهنية، قابلت أشخاصاً من الموساد أشد منه تكتماً، لا سيما في الهندوراس، إبان الثورة الساندينية حيث دعموا بقوة مجموعات «الكونترا» السيئة الذكر. كان كساس محيرِّاً إلى حد ما؛ لقد كان ملاكماً في ما مضى، ولم يبقَ له من الملاكمة الشكلُ الخارجي فحسب بل العقل أيضاً.

صار هذا الرجل، الذي «عمل سابقاً في لبنان»، يهتم الآن بالمنظمات الإسلامية الجزائرية والمصرية، وهو الموضوع الذي كنت أعمل عليه في ذلك الحين. وإذ كنت أتحرّق شوقاً لجمع المعلومات وأسعى إلى الابتعاد عن موضوع أبحاثي، حاولت أن أقلب الأدوار من خلال تركيز الحوار على الطريقة التي قدّم بها الشاباك التمويل والمساعدة لدعم قيام الإخوان المسلمين الفلسطينيين، الذين يمثّلون أسلاف حركة «حماس»، في الأراضي المحتلة في بداية السبعينيات من القرن المنصرم، واستكشاف الأسباب الكامنة وراء هذه العملية وطريقة تنفيذها.

في عام 1992، كانت هذ القضية لا تزال من المحظورات، ولكن ما أفادني هو أنني كنت قد حظيت بمقابلة عن هذا الموضوع أجريتها مع ضابط إسرائيلي متقاعد هو الجنرال سيرغيف، حاكم غزة الأسبق الذي أكد لي: «قدمنا بعض المساعدة المالية إلى مجموعات إسلامية معينة. كنا ندعم مساجد ومدارس بقصد تنمية حركة تأتي رد فعل على قوى اليسار التي تدعم منظمة التحرير الفلسطينية».

وكان كساس، شأنه شأن الجنرال، يدّعي لنفسه «استخدام هذه الوسيلة» من أجل «إدخال الثعلب الإسلامي في قن ياسر عرفات الوطني». وسرعان ما تفاخر بأنه كان من بين الذين حاولوا، بعد ست سنوات، أن يستخدموا الوسيلة نفسها في لبنان مع الموارنة المسيحيين «الأقل جدية من الإخوان المسلمين لسوء الحظ».

وإذ بقي كساس عند «الحقبة اللبنانية» من عمله، وهي حقبة يستطيع التحدث عنها بما أنها أضحت «من التاريخ القديم»، شرح لي أنه كان من أبرز مساعدي ديفيد كيمش، وكنت على علم بالدور التاريخي الذي لعبه الأخير مع الكتائب ومع بشير الجميل في خلال اجتياح لبنان عام 1982. لم نذهب بحديثنا إلى أبعد من هذه الاعتبارات «التاريخية»، فاللعبة كانت قد طالت إلى حد ما، إذ أدركت أنني، عاجلاً أو آجلاً، سأضطر إلى التطرق إلى الموضوع الذي أعمل عليه من قريب أو من بعيد، وهذا أمر لم أرغب فيه بتاتاً.

ثم امتنعت عن تلبية دعوات ملحة واظبت سيمونا على توجيهها إليّ ودعوات جديدة من كساس الذي قابلته مجدداً بعد مرور عام في مقديشو في الصومال؛ لقد أصبح صحافياً مرافقاً لوحدة من القوات الخاصة الأميركية التي تعمل مع الجنرال مونتغومري، فهنّأته على ترقيته.

كان السفير الأميركي في نيروبي، روبرت أوكلي، قد أطلق جملته الشهيرة: «إن كنتم تحبون بيروت فستعشقون مقديشو»! وفي فندق سآفي حيث كل وسائل الإعلام العالمية، كان كساس يشعر بملل شديد ويكثر من شرب الخمر. تكلمنا عن أوكلي الذي نعرفه حق المعرفة نحن الاثنين، وعن «الأيام الخوالي في لبنان» وعن استخدام المسيحيين كوسيلة، المسيحيون الذين أكّد لي كساس أنه قدّم «تحاليل لشخصياتهم» لرئيسه، ديفيد كيمش. وتساءلتُ على أي أساس يستطيع ملاكم يبدو جلياً أنه ليس من أعز أصدقاء سيغموند فرويد أن يقيّم بجدية اللاوعي لدى أحد معارفه.

لم أرَ كساس مجدداً إلا في عام 1995 في جنيف حيث كان يرافق يوري دان لدى صدور كتابه المعنون «الموساد ـــــ 50 عاماً من الحرب السرية»، الذي نُشر لتمجيد الاستخبارات الإسرائلية وقُصِد منه الردّ على كتاب آخر خلّف آثاراً مدمرة عليها يحمل عنوانَ «عن طريق الخداع» وتوقيعَ فيكتور أوستروفسكي، أحد قدامى الموساد. فقد كانت تلك المرة الأولى في تاريخ الاستخبارات الإسرائيلية التي يقوم بها رجل من صفوفها بالكشف عن خفايا أساليبها العملانية ولا سيما عن تقنيات الاغتيال التي تعتمدها.

بالنسبة إلى السياق الذي سبق الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان حتى نهر الليطاني في 14 آذار / مارس 1978، كتب فيكتور أوستروفسكي: «كان الموساد لا يزال يحاول خداع الأميركيين، وقد أمر رئيسُ الاستخبارات إسحق هوفي جهازَ الحرب النفسية في الموساد بأن يعدّ سيناريو لإقناعهم بأن منظمة التحرير الفلسطينية كانت تحضّر للحرب لا للسلام. وكان الهدف تبرير دخول القوات الإسرائيلية إلى جنوب لبنان أمام الولايات المتحدة». وشرح أيضاً كيف أقام بشير الجميل علاقات وثيقة مع أدومني، مسؤول ارتباط في الموساد في ذلك الحين، وذلك بفضل وكالة الاستخبارات الأميركية و«علاقات أوروبية». وقد أقنع بشير الجميل «الموساد بأن لبنان بحاجة إلى إسرائيل. أما الموساد من جهته، فقد أقنع الحكومة الإسرائيلية بصدق الجميل (...).

كان يُروّج لهذه الدعاية منذ أعوام بفضل التقارير الموجَّهة التي كان يسرّبها الموساد إلى الحكومة. من دون أن يستفيض العميل التائب في الشرح، أشار إلى أنه: «كان لدى بشير الجميل منافس يعيق وصوله إلى السلطة هو طوني فرنجية،فقُتِل».

ويشرح أوستروفسكي: «في حزيران / يونيو 1978، في خلال هجوم شنّه الكتائب على دارة طوني في إهدن، قتلوه هو وزوجته وابنتهما البالغة من العمر ثلاث سنوات، بالإضافة إلى العديد من الحراس الشخصيين. وعندما اتُّهم الجميل، رفض الاتهام وحمّل مسؤولية الفخ إلى «انتفاضة اجتماعية ضد الإقطاع».

وفي مقطع آخر يقول: «في عام 1978، في النزاع الذي كان يواجه بشير الجميل بعائلة فرنجية، طلب الجميل ذو الوجه الطفولي أسلحة من الموساد الذي قَبِل أن يزوده بها». وختم قائلاً: «لم يكن طوني فرنجية على علاقة طيبة بالموساد».

هذه المعلومات المتفرقة زوّدني بها كساس نفسه في جنيف، فيما بذل صديقه القديم يوري دان كل ما في وسعه من أجل التقليل جداً من أهمية ما كشفه أوستروفسكي: «إن العميل المزعوم لم يعمل فعلياً في الموساد: فهو لم يتجاوز يوماً مرحلة التعلّم»، كما أكّد في كتابه الذي وُضِع بغية إعادة الاعتبار للاستخبارات.

بغض النظر عن هذه الكذبة، شرح يوري دان بجدية أكبر كيف تدخّل الموساد في الحرب ضد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان بعدما عُيّن على رأس الجهاز، سنة 1974، الجنرال إسحق هوفي، عسكريّ لم يكن يملك خبرة واسعة في مجال الاستخبارات.

لقد كتب قائلاً: «في هذا السياق، وصل بشير الجميل ذات ليلة إلى إسرائيل لكي يطلب مساعدة الإسرائيليين ضد العدو المشترك: منظمة التحرير الفلسطينية. فأحال إسحق رابين ووزير الدفاع في حكومته، شيمون بيريز، القضيةَ إلى الموساد الذي يهتم بالعلاقات السرية من هذا النوع. يمكن القول إنه تحت إدارة هوفي، تحوّل الموساد أكثر وأكثر إلى وزارة سرية للشؤون الخارجية».

في الواقع، رتّب الموساد الاتصال الأول بين الحكومة الاسرائيلية والرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون في خلال عام 1976. فحصل اللقاء على متن زورق إسرائيلي لإطلاق الصواريخ في عرض البحر قبالة ساحل جونيه، وحضره رئيسُ الوزراء إسحق رابين شخصياً من دون أن يصطحب معه وزير الدفاع شيمون بيريز الذي لم يكن يثق به بتاتاً. ووعد رابين شمعون بالأسلحة وبتدريب المسؤولين في الميليشيات المسيحية.

على الصعيد العسكري الصرف، كان الجنرال بنيامين بن اليعازار الملقب بـ«الجنرال فؤاد» يدير خلية من أربعة ضباط تابعين لـ«أمان». فانصهر هذا اليهودي العراقي الأصل بسهولة في مشهد شوارع بيروت حيث بدأ يرتّب نظام تعاون متواصلاً مع الميليشيات المسيحية منذ آب / أغسطس 1976، في خلال حصار مخيم تل الزعتر الفلسطيني. هذا الضابط الذي لعب دوراً كبيراً إلى جانب أرييل شارون في خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، أصبح لاحقاً وزير الدفاع وزعيم حزب العمال (2002) ثم وزير البنى التحتية الوطنية (2006). وعلى الرغم من أنه أحد أفراد السلطة العسكرية، لم يعترض أبداً على أولوية الموساد في ما يخص الملف اللبناني.

يؤكد يوري دان هذا التعامل: «وهكذا، في سرية مطبقة حرص عليها الموساد كل الحرص، بدأت زوارق تابعة للقوات البحرية الإسرائيلية بتسليم أسلحة إلى قائدَي الميليشيات المسيحية الشابَين داني شمعون وبشير الجميل. وهذا الأخير، الذي تمتع بسطوة جاوزت سطوة الأول بأشواط هو الذي تولى القيادة في النهاية». وبما يخالف رأي أجهزة الاستخبارات التابعة للجيش الإسرائيلي الذي لا يثق بعائلة الجميل، قرر الموساد أن يلعب دوراً مؤثراً في نضال الموارنة اللبنانيين، وصان بعناية قصوى علاقاته مع الجميل وشمعون.

فكان ضباط إسرائيليون يقصدون بيروت بانتظام، ولكن الموساد هو الذي كان يؤمن التنظيم اللوجستي لـ«مهمات التعاون» هذه. فكان عملاؤه يوفّرون الاتصال بين حيفا وجونيه، وبين بيروت وبكفيا، معقل عائلة الجميل. وإذ كانت الاستخبارات الإسرائيلية تراهن على بشير الجميل، أملت عقد اتفاقية «كامب دايفيد» ثانية، أي التوقيع على اتفاقية سلام منفصلة بين إسرائيل ولبنان مسيحيٍّ يتسلم أمورَه حزبُ الكتائب. فما كان يُرفَض طلبٌ لبشير بغية مساعدته على تسلّم السلطة، لا يُرفَض أيّ طلب بتاتاً، ولا حتى الاغتيال الهادف للمنافسين القادرين على اعتراض سبيله. وكان طوني فرنجية من بين هؤلاء، وخصوصاً أن الموساد كان لا يحب آل فرنجية، وأقل منها بعدُ وريث العائلة، كما يشير فيكتور أوستروفسكي.

ليس مبتكر نظرية اتفاقية كامب دايفيد ثانية والعلاقة مع حزب الكتائب سوى ديفيد كيمش. عهد إليه الموساد بمهمة مقابلة بشير للمرة الأولى في صيف عام 1976، حين كان المحامي الشاب قد تسلم للتوّ القيادة العسكرية للكتائب وللقوات اللبنانية التي افتُرض بهما أن تكونا على رأس كل الميليشيات المسيحية في لبنان. وسرعان ما حصل إعجاب متبادل، وقد كتب ديفيد كيمش: «في هذا البلد حيث لفظة «سياسي» مرادف للرشوة والفساد والنظام الإقطاعي البالي، كان بشير بسيطاً وصريحاً ونزيهاً».

أما يوري دان فقد وصف كيمش على الشكل الآتي: «كيمش هو من المخضرمين في موساد يترأسه إيسر هاريل. وقد شارك في العديد من العمليات من دون أن يكون رجل ميدان فعلياً بل دبلوماسياً يبرع في فن الاتصالات السرية. كان تفصيل الزي الذي يرتديه ولكنته التي توحي بأنه من تلامذة إحدى المدارس الداخلية يجعلانه يظهر بمظهر الممثل اللائق لوزارة الخارجية. إنه رجل رقيق الإحساس، مثقف، يتصف بتفكير تحليلي نابه، وهو خصوصاً إنسان كتوم، كتوم لدرجة أنه تمكن من إخفاء طموحه الكبير. فهو في الواقع وزير الخارجية في الموساد.

ضاعف كيمش الاتصالات مع بشير الجميل، كما أجرى لقاءات مطولة مع والده بيار، مؤسس حزب الكتائب اللبناني. واتصفت التقارير التي كان يقدمها عن مهماته بالحماسة، وكانت، على أي حال، تُرفَع إلى رئيس الوزراء ووزير الدفاع».

كان يُفترض بي أن أقابله من أجل التحقيق الذي يوثّق هذا الكتاب. فاستعلمَ بدقة عن الموضوع وعن الملخّص، ثم قَبِل أن يستقبلني في بيته في تل أبيب فحُدّد الموعد. إلا أن مرضاً خطيراً ألمّ به تسبب بمعالجته في المستشفى مدة طويلة من الزمن.

وبعدما أجريت التحقيقات المعهودة للوقوف على حقيقة استشفاء ديفيد كيمش، لم يبقَ لي إلا أن أتمنى له الشفاء العاجل. ولكي يؤدي لي خدمة ويساعدني، حوّلني إلى شخص من أعوانه القدامى يُلقّب بيوسف، لكنه كان أقل لياقة من رئيسه السابق فرفض أن يستقبلني، ورفض خصوصاً أن يؤكد لي المعلومات المتفجرة التي أدلى بها لي كساس، الذي لعب دور وسيط من الوسطاء بيني وبين ديفيد كيمش.

غلاف الكتابغير المساعدة الإسرائيلية في مجال السوقيات والتحضير لـ«عملية الأرز» ضد إهدن، أكّد كساس أن الموساد، أو بدقة أكثر الخلية النفسية فيه أعدّت «العملية السرية ضمن العملية التي كان يُفترض بها أن تؤدي حتماً إلى اغتيال طوني فرنجية». وبعدما تحليل شخصيات معظم القادة الكتائبيين، اختارت الخلية النفسية سمير جعجع، وهو شاب في الـ26 من عمره يدرس الطب. ولكن لندع كساس يتكلم مباشرة: «كانت العملية العسكرية الكبيرة تقضي بالتمركز في شمال لبنان دائماً، فيما كانت العملية السرية ضمن العملية تقضي بقتل طوني فرنجية، فيُقضى بذلك على أبرز منافس لبشير الجميل على رئاسة الجمهورية اللبنانية في المستقبل. وكان يجب أن تُعهد هذه العملية السرية إلى رجل حازم يجعل منها قضيته الخاصة. قبل أن يُقترَح اسم سمير جعجع على بشير، اعتُمد لأسباب ثلاثة: إذ كان من بشري، فقد ترعرع على العداوة لأهالي زغرتا وعلى الريبة منهم.

وبما أنه تحدّر من عائلة متواضعة ـــــ كان والده موسيقياً في الفرقة الموسيقية التابعة للجيش، وأمه عاملة في إدارة حصر التبغ والتنباك «الريجي» ـــــ كان جعجع الشاب، الذي يقرأ آثار آباء الكنيسة وكتباً روحية ونيتشيه وتيلهارد دو شاردين، يعتبر «مارونيته» وسيلة لقلب سلطة العائلات الكبيرة، ومنها عائلة الجميل التي لم تكن تثق به؛ وأخيراً، لمّا كان يبحث عن سبيل لكي يلمع نجمه عسكرياً، مثّل الواجهة المثالية لحماية بشير. فكان ينبغي ألا يظهر دور الأخير بوضوح في هذه القضية التي قد تهدد مستقبلاً سياسياً يُفترض به أن يكون موضع إجماع عندما يحين الوقت لذلك».

وخلص كساس إلى القول: «كانت هذه العملية من أجمل عمليات الموساد في لبنان». تحمّس لها ديفيد كيمش، الذي كان لعب دوراً أساسياً في علاقات جهاز الاستخبارات مع الكتائب، فيما بقي هوسه تحقيق «كامب دايفيد لبناني». وأكّد يوري دان أن: «القدس تحب طبعاً أن ترى في لبنان حكومة صديقة ترغب في التوقيع على اتفاقية سلام مع إسرائيل، بعد أن يُطرَد الإرهابيون من بيروت. كان بن غوريون ودايان يحلمان الحلم ذاته».

كانت هذه الغاية تبرر الوسيلة، بما فيها اللجوء إلى اغتيال هادف. ولم يصعب إقناع بشير الجميل، إذ كان مفتوناً بكل ما يتعلق بالتاريخ الحديث لأصدقائه الجدد، فقد أعجبه فيهم ما يتمتعون به من إرادوية وصلابة. وكان يعتبر الطريقة التي نجحوا فيها في إنشاء دولتهم الشابة بمثابة مثال يُحتذى به.

استطاع أحد مصادري أن يؤكد لي وجود «العملية السرية ضمن العملية»: إنه قائد قديم من قادة جهاز الاستخبارات في القوات اللبنانية تحوّل اليوم إلى العمل في مجال الاستيراد والتصدير. إذ راح يصغي إلى روايتي مقطب الوجه في مكتبه البعيد عن الأنظار في فندقه الباريسي، نصحني بأن أوقف التحقيقات التي أجريها عن العلاقة بين الموساد والكتائب التي «في النهاية، كانت مجرد تحالف هُيّئت له الظروف ودفع إليه إطار دولي معين جداً». ولكنه قَبِل أن يراجع معي مجريات الأحداث الدموية المتعلقة بمجزرة إهدن التي هي، على حد قوله، «عملية ترتبط بالصراع الرهيب على الزعامة المسيحية، إذ طالما كان هوَس عائلة الجميل توحيد البندقية المسيحية والوصول إلى رئاسة الجمهورية». هوس مزدوج تجسّد من خلال واقعتَين عكستاه: «ليل السكاكين الطويلة اللبناني» وعملية ألتالينا.

وهكذا عدنا بالأحداث إلى دسيسة الموساد أو على الأقل إلى «السياق الجنوني الذي اتصف بالتكتم وتحاورت فيه رؤوس الحزب الكبيرة مع الإسرائيليين من أجل إنشاء جيش مسيحي حقيقي. وفي الكباش الذي كان قائماً بين «أمان» والموساد، كانت الغلبة لهذا الأخير، ففرض الشيخ بشير نفسه محاوره الوحيد. منذ البداية، أوحى الإسرائيليون بهذا التطوّر للأحداث القاضي بسحق حزب الوطنيين الأحرار وحراس الأرز وحتماً ميليشيات الشمال.

وضمن هذا السياق، قابل الجميعُ الإسرائيليين، بمن فيهم كريم بقرادوني، الذي سافر إلى إسرائيل خمس مرات على أقل تقدير.

ـــ «هل أنت متأكد من ذلك؟». ساد صمت طويل. «ثمة أمر مؤكد: إن العلاقات بين الموساد والكتائب تعود إلى بداية الخمسينيات، هذا ما يؤكده موشى شاريت في مذكراته. ففي عام 1951، كان الحزب بحاجة إلى المال من أجل تمويل حملته للانتخابات النيابية. وعلى الرغم من أن الموساد قدّر حينها أن الحزب لا يملك أدنى فرصة للفوز، قدّم له شاريت بضعة آلاف الدولارات. ولكن عام 1958 خصوصاً نُظِّمت الأمور. فقد كان وادي بو جميل، وهو الحي اليهودي في بيروت، محاطاً بالناصريين القوميين.

وبما أن الحزب كان يضم في صفوفه يهوداً، وفّر بيار الجميل الأمن للحيّ. فبمساعدة الحزب المذكور، استقبلت الجماعة اليهودية في بيروت عدداً من اليهود المتحدرين من أصل سوري، وبما أن الجيش اللبناني كان بحاجة إلى مترجمين من أجل تدوين الأحاديث العبرية التي يُتنصّت إليها، أمّن له الحزب الأعضاء اليهود المنتسبين إليه، فكان الجميع يفيد من الوضع! على أي حال، ابتداءً من حصار تل الزعتر الذي بدأت في خلاله المساعدة العسكرية الإسرائيلية، أقام الموساد أنواعاً من الشراكات المختصة بميادين ثلاثة: المعدات والاستخبارات والتدريب. ولم يبدأ التدريب إلا بعد إهدن، بعدما انطلقت عملية «توحيد البندقية المسيحية».

وكان الأوان قد آن لكي أعيد صياغة السؤال الذي استهللت به حديثي والمتعلق بـ«العملية ضمن العملية»: ففي إطار هذه الشراكات، كيف تدخّل الموساد في التحضير لمجزرة إهدن، ولماذا نصح بشير الجميل بأن يعهد مهاجمة القصر إلى سمير جعجع؟

«وحده المكتب الثالث مع أبو ناضر وفادي فرام وإيلي حبيقة وبشير حضّروا العملية مع الموساد، ووُضِع الأعضاء من الشمال في الجوّ في مرحلة لاحقة جداً، في اللحظة الأخيرة، واغتيل طوني فرنجية. بعد اثنتي عشرة سنة، للأسباب نفسها ووفقاً للسيناريو ذاته، اغتيل داني شمعون هو أيضاً مع زوجته إنغريد وولديه جوليان (5 سنوات) وطارق (7 سنوات). وكان سمير جعجع من بين المتهمين بعملية الاغتيال هذه، ثم اعتُقل عام 1994 بتهمة تفجير نُفِّذ في كنيسة سيدة النجاة أدى إلى مقتل عشرة أشخاص: فرفعت هذه القضية الأخيرة العفو الذي كان قد وضعه بمنأى عن أي ملاحقة قضائية بعد اغتيال الزعيم السني في طرابلس رشيد كرامي في الأول من حزيران / يونيو 1987.

ـــ عندما تقول إن «الأعضاء من الشمال وُضعوا في الجو في اللحظة الأخيرة»، ما الذي تعنيه تماماً؟

أعني أنهم انضموا إلى التجهيزات العسكرية في شهر أيار / مايو، قبل العملية بخمسة عشر يوماً فقط. لم يُخرِطهم بشير في التجهيزات العسكرية إلا في تلك اللحظة. وكان الحزب يصعّد التوتر في ما يخص شركات الترابة في شكا الذي لم يشأ فرنجية الأب أن يتقاسم مداخيلها مع أحد.

فلم يعد ينقص إلا إطلاق العامل المحفِّز: فكان مقتل جود البايع، مختار قرية كفردلاقوس ومسؤول حزب الكتائب في الشمال. هذا الاغتيال الذي لعب دور السبب المحفّز مثّل استفزازاً فعلياً، ولكنه استفزاز خُطِّط له. فقد جرى التأثير على منفّذه، وأستطيع التأكيد أن المكتب الثاني في الجيش اللبناني كان على علم تام بترتيب الأحداث هذا. لم يكن الحزب يستطيع الامتناع عن القيام برد فعل، وكان ما حصل في إهدن».

* ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية

تعليقات: