ابو كامل في بنت جبيل
بنت جبيل :
كأني أراه للمرة الاولى عند مغيب ذلك اليوم، جارنا ابا كامل الذي لا يبعد مسكنه عنا الا امتار قليلة. يومها عندما بدأت الظلمة تطرد ضوء النهار، اضاع ابو كامل الاتجاهات، وراح ينادي باسماء لا اعرفها كي ترشده الى منزله الواقع آخر النزلة. وفي تلك المغربية كأني رأيت وجهه قد تغير فجأة فلم يعد كما كان بعد ان هبت عليه نسمات العمر فلفحته، وبعد ان انهكه سعي النهار، يحاول بعينيه نصف المغمضة ان يصل بصعوبة الى الدكان ليشتري علبة سجائر و«كازوزا» (كولا) وربطة خبز.
احمد دعيبس حكاية من حكايات بنت جبيل العتيقة، حكاية تمتد لأكثر من سبعين عاما، عاصرت الكونية الثانية، والثورات والاحتلالات والتحرير، كما عايشت العدوان الاخير بيومياته الثلاثة والثلاثين، حكاية كانت ترددها اصداء الاصوات في «ساحة النبية ودكاكين السوق وحارة الجماعني التي جرفتها حمى الوحدات السكنية فضاعت الحارة كما ضاع ابو كمال».
في عالمه اليوم الذي يمتد من منزله على السد العالي الى دكان ساحة النبية، يعيش ابو كامل، صنواه عكاز لم اعرفه الا عليها، وطاقية براها الزمان يتقي بها حر الايام، حاصره قصر نظره في هذا العالم، كما الايام التي اخذت كل حلو معها، يستذكر بتعابيره التي نسيها الزمان دكانة المرحوم علي داود بزي في محلة البركة، كان يجلس هناك والبسمة توأمان، أحاديث وطرفة حلوة وجلسات من زمن الخير، فيما يبحث اليوم عن من يرشده الى الطريق قائلاً له «اوعك تصَيعني (تضيعني) بدي روح جيب كازوزا»، كلمات لربما ترن في اذن من عرفها او مر عليها ذات يوم، ومن كان من بنت جبيل وقد قلب يوماً في دفاتر قاموس هذه المدينة، سيدرك حتماً انها ستعيده الى زمن لم يعد موجوداً الا في ذاكرة بعض المسنين مثال احمد دعيبس، الذي استيقظ من سبات نومه العميق فادرك واقع الحياة ووجد نفسه قد اصبح شيخاً هرما يتكئ على عكاز يرسم له ماضياً حافلاً بالأحلام.
عمر ابو كامل اليوم يزيد عن السبعين، بتجاعيد وجهه التي تنطق بأن ثمة أحداثاً قد عبثت بكيانه، بعد ان عاش وبقي وحيداً في منزله في «السد العالي»، يجد صعوبة العيش وحده ويذوق مرارة الحاجة، فيما لن تخلو البلدة ممن هم اصفياء القلوب يقومون بخدمته سراً والإطلاع على احتياجاته ويخففوا عنه وحشة الوحدة.
ربما يقول البعض بانه حان لنا ان ندخل عصر دار العجزة او المسنين الى مجتمعنا هنا كي نريح امثال ابي كامل الذين لا تكاد تخلو ضيعة او قرية منهم، ولكن لبعض آخر رأي مختلف، فهؤلاء في كل قرية وجدوا من لم يزل يحتفظ بإنسانيته ليعيلهم ويهتم بهم، وهذه الصلات الاجتماعية هي التي ما تزال تحافظ على ترابط مجتمعاتنا وتبقينا بعيدين عن ما نسمعه يومياً من مصائب تضرب المجتمعات الفردية.
تعليقات: