زياد الحمصي
■ بدأ الحمصي البحث عن الإسرائيليين المفقودين في السلطان يعقوب عام 1982
■ أكثر من سفره خلال العامين الماضيين إلى قطر والأردن ومصر والسودان
■ اعتقل في هولندا أثناء استعداده لخطف يهود من الاتحاد السوفياتي
تتّضح تباعاً أبعاد القرار الأمني الذي اتخذته الأجهزة اللبنانية المعنية بمكافحة التجسس، المتعلق بتفتيت الجزء الأكبر من البنية الأمنية الإسرائيلية في لبنان. ويوم أول من أمس، كان الموعد مع شبكتين جديدتين، واحدة في البقاع الأوسط، وثانية كانت ناشطة بين الضاحية والجنوب وجبل لبنان
لم تستفق بلدة سعدنايل (البقاع الأوسط) بعد من هول الصدمة التي قد تكون الأكبر في تاريخها السياسي والاجتماعي. فقائدها الأول طوال ربع قرن، زياد الحمصي (61 عاماً)، أفجعها بعمله الأمني مع الاستخبارات الإسرائيلية. كيف لا وهو المقاوم والمناضل منذ مراهقته على جبهات الصراع مع إسرائيل، عسكرياً وسياسياً وفكرياً وثقافياً واجتماعياً وإعلامياً... وحتى بيئياً. هو المغرم حتى الثمالة بجمال عبد الناصر وياسر عرفات وأحمد بن بلة وتشي غيفارا ومعمر القذافي، والمؤرخ المحترف لنضال سعدنايل، والفخور دوماً بموقعها المقاوم لإسرائيل وقيادتها لتظاهرات دعم كل ثورات العالم، وتحولها إلى ممر ومستقر لقادة كبار في المقاومة الفلسطينية والوطنية اللبنانية، من ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة إلى جورج حاوي ومحسن إبراهيم ومصطفى سعد ووليد جنبلاط وغيرهم الكثر من قادة الثورة التي آمن بها زياد الحمصي، قبل أن يسقط نفسه في المحظور. لا أحد يعرف بعد كيف انزلق الحمصي نحو ما تقول المعلومات الأمنية إنه وصل إليه، مُدخلاً بلدته سعدنايل، ومعها كل البقاع، في أتون أسئلة أحدثت صدمة بعد تسرّب معلومات شبه رسمية عن «خيانة» زياد لمبادئه وتاريخه النضالي الطويل، ولرفاقه الشهداء الذين كانوا معه في جبل الشيخ والعرقوب وعلى هضاب البقاع الغربي وأوديته، وسقطوا من أجل فلسطين وثورتها ودفاعاً عن عروبة لبنان.
تيار المستقبل رفع الغطاء السياسي عن نائب رئيس بلدية سعدنايل وناشر مجلة «الإرادة» زياد الحمصي، قبل أن تدخل على الخط جهات مجهولة أجرت اتصالات ببعض الأهالي منتصف ليل السبت ـــــ الأحد، مدّعية أن زياد خرج من وزارة الدفاع، وهو في طريقه إلى سعدنايل في سيارة المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، ما أدى إلى موجة من الفرح عمت سعدنايل، مصحوبة برصاص غزير، سرعان ما امتد إطلاقه إلى بلدات المرج وقب الياس وتعلبايا ومجدل عنجر. ومع هذه البهجة، اضطر تيار «المستقبل» إلى التدخل مجدداً والإيعاز إلى بعض رجال الدين بالمناداة عبر مكبرات صوت المساجد أن الخبر مجرد شائعة غير صحيحة.
ورغم نفي تيار المستقبل أي علاقة تنظيمية للحمصي به، فإن أهالي المنطقة يعرفونه كأحد أبرز وجوه التيار في البقاع الأوسط منذ عام 2005، عندما تولى مسؤولية الإعلام والإعلان في ماكينته الانتخابية في العام المذكور، ومن ثم تكليفه بالمهمة نفسها منذ أسابيع عدّة، وتوليه مهمات أخرى، أبرزها التعبئة الجماهيرية. وأتى إصرار التيار على رفع الغطاء عن الحمصي ليؤكد أن توقيفه حوّله إلى عبء سياسي وأمني لا يمكن أحداً تحمله أو حمايته، وتحديداً تيار المستقبل الذي أجرى عدد من مسؤوليه (بدءاً من رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وعدد من المقربين من النائب سعد الحريري) اتصالات بضباط من الجيش لاستطلاع أسباب توقيف الحمصي. وعندما أكدت مديرية استخبارات الجيش، قبيل ظهر السبت الفائت، أن الموقوف اعترف بتعامله مع الاستخبارات الإسرائيلية، أصدر تيار المستقبل بياناً تبرأ فيه من الحمصي.
صدمة بلدة سعدنايل بزياد الحمصي بدأت فجر السبت الفائت، عندما دهمت دورية من مديرية استخبارات الجيش منزله وأوقفته وصادرت من داخله حاسوباً وعدداً من الأجهزة والكاميرات والوثائق. مباشرة، تجمّع عدد من أبناء البلدة، وخاصة من مناصري تيار المستقبل، وقطعوا طريق زحلة ـــــ شتوره، وبدأوا بنصب خيمة للتضامن مع الحمصي، رافعين صوراً له كتبت عليها عبارة «أشرف الشرفاء». وبعد تدخل تيار المستقبل، أعيد فتح الطريق وأزيلت مظاهر الاحتجاج. وخلال التحقيق معه، اعترف الحمصي بأن الإسرائيليين تواصلوا معه بعد عدوان تموز 2006، من دون أن يكشفوا عن هويتهم في بداية الأمر، وطلبوا منه الانتقال إلى تايلاند لبحث شؤون تجارية. وهناك، كشفوا له أنهم يعملون لحساب الاستخبارات الإسرائيلية، وعرضوا عليه العمل معهم مقابل مبالغ مالية كبيرة، فوافق. وبعد عودته إلى لبنان، تلقى مبلغاً مالياً من الإسرائيليين مكّنه من إعادة إصدار المجلة التي يملكها («الإرادة») بانتظام. وكانت إحدى أبرز المهمات التي كلفه بها الإسرائيليون هي البحث عن الجنود الإسرائيليين الثلاثة الذين فقدوا في معركة السلطان يعقوب عام 1982. وقد بدأ تنفيذ مهمته تحت ستار الإعداد لإصدار كتاب يوثق فيه هذه المعركة ضد الإسرائيليين من خلال شهادات لمواطنين في المنطقة، إضافة إلى مقاتلين آخرين كانوا معه. وخلال التحقيق «البطيء»، بحسب وصف أحد الأمنيين، أشار الحمصي إلى أنه تخلص قبل نحو أسبوعين من أجهزة اتصال متطورة كان الإسرائيليون قد سلّموه إياها. وقد حدد المكان الذي رماها فيه، حيث بدأت دورية من استخبارات الجيش البحث عنها. و ذكر أن إحدى وسائل اتصاله بالإسرائيليين هي كمبيوتر موضوع في مكتبه في شتوره، حيث ضبطته قوة من استخبارات الجيش أمس. وأشار مسؤول أمني إلى أن زياد الحمصي أكثر من سفره خلال العامين الماضيين «ولا سيما إلى قطر والأردن ومصر والسودان، بعدما كان قد زار الصين وتايلاند ونيوزيلندا». ونفى المصدر الأمني علمه بما إذا كانت زيارات الحمصي لهذه الدول تدخل في عداد عضويته في المنتدى القومي العربي الذي برز فيه بعد مغادرته تنظيم اللجان الثورية الليبية سنة 1988، إثر أفول نجم تنظيم جيش لبنان العربي الذي كان يقوده الملازم أول أحمد الخطيب، حيث التحق الحمصي بهذا الجيش بعد عام 1977 إثر خلافه مع الصاعقة.
التحق زياد الحمصي بمنظمة الصاعقة سنة 1969 بعدما تشظّت حركة القوميين العرب إلى أحزاب ومنظمات وجبهات تحريرية، إذ عمل في الجهاز الأمني للصاعقة، وفي مكتبها الإعلامي مشرفاً على إصدار نشرة داخلية في لبنان اسمها «الطلائع». وهو نسج علاقة متينة وقوية مع مسؤول الصاعقة الأول الشهيد زهير محسن. وسبق للسلطات الهولندية أن اعتقلت الحمصي على أرضها سنة 1975 مع مجموعة من رفاقه كانوا يستعدون لخطف قطار يقل مهاجرين يهوداً من الاتحاد السوفياتي. وقد سجن لمدة سنة، وعاد بعد الإفراج عنه إلى لبنان ملتحقاً بجيش أحمد الخطيب مسؤولاً أول عن منطقة البقاع، مع تولّيه مهمات أمنية وتدريبية أخرى.
شارك الحمصي في مواجهات قتالية مباشرة مع العدو الإسرائيلي في العرقوب سنة 1969، حيث تعرّف هناك إلى ياسر عرفات، ومن ثم شارك في حرب تشرين 1973 مع الجيش السوري عند هضاب جبل الشيخ الغربية من ناحية مزارع شبعا بعد خضوعه لدورة قائد سرية في الكلية العسكرية «فيسترل» في الاتحاد السوفياتي قبل اندلاع هذه الحرب، وبرز مقاتلاً محترفاً خلال الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني سنة 1978 مع جيش لبنان العربي تحت جناح القوات المشتركة اللبنانية ـــــ الفلسطينية، ليتوّج عمله العسكري المقاوم لإسرائيل في اجتياح 1982 خلال معارك بيادر العدس المشهورة إلى جانب الجيش السوري وأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية. ونجح في تأريخ هذه المعركة بمجموعة صور فوتوغرافية نادرة تزيّن جدران منزله في سعدنايل، إلى جانب صوره مع ياسر عرفات وأخرى لجمال عبد الناصر وتشي غيفارا. ويقول أمنيون إن معركة بيادر العدس (أو السلطان يعقوب) التي شارك فيها الحمصي «كانت المفتاح الذي دخل منه الإسرائيليون لتجنيده، ولا سيما أن الاستخبارات الإسرائيلية لم تترك باباً إلا طرقته بحثاً عن الجنود الثلاثة الذين فقدوا في هذه المعركة».
ولزياد الحمصي أيضاً تاريخ حافل في التوقيفات والاعتقالات. اعتقلته الاستخبارات السورية إثر سقوط حكومة عمر كرامي الأولى سنة 1992 بتهمة التعرض لمنزل رئيس الجمهورية الياس الهراوي في زحلة، ومن ثم أوقف في سجن «النبي يوسف» في عنجر سنة 1994 إثر رفعه صورة عملاقة للرئيس جمال عبد الناصر خلال مهرجان تدشين الستاد الرياضي الذي يحمل اسمه في البقاع الغربي، ليعتقل مرة أخرى في عام 1998 وينقل إلى فرع فلسطين في دمشق قبل أن يفرج عنه لاحقاً. ولم تنجح كل الاتصالات السياسية معه في تخفيف اعتراضه العلني على الوجود السوري في لبنان، ونجح في تأليف لائحة لعضوية المجلس البلدي في سعدنايل عام 1998، لمواجهة لائحة أخرى كانت تلقى دعماً من السوريين، واستطاع الفوز مع فريقه ليصبح رئيساً للبلدية، قبل أن يعود ويفوز بالبلدية أيضاً سنة 2004، ويتخلى عن موقعه الأول ويصبح نائباً للرئيس، متفرغاً لأنشطة ثقافية وإعلامية وسياسية في المنطقة.
■ موقوف الغندورية: تحديد أهداف في الضاحية
وفي سياق مكافحة التجسس الإسرائيلي، أوقف فرع المعلومات ظهر أول من أمس في بلدة الغندورية الجنوبية المواطن ناصر نادر (1965)، قبل توقيف زوجته الثانية، نوال معلوف (40 عاماً من منطقة مرجعيون). وضبط فرع المعلومات من المنزل الثاني للموقوف في جل الديب جهاز كمبيوتر وشرائح حفظ ذاكرة مشفّرة. وقد اعترف الموقوف بالعمل لحساب الاستخبارات الإسرائيلية منذ عام 2002، إذ جرى تجنيده هو وزوجته الثانية، التي تجندت بدورها عبر شقيقتها الفارّة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ تحرير الجنوب عام 2000. وأشار الموقوف إلى أن مشغّليه طلبوا منه تكثيف عمله كثيراً منذ عام 2006، وبخاصة لناحية تحديد أهداف تتعلق بمراكز المقاومة في الضاحية، حيث تمكن من تحديد عشرات المباني في الضاحية الجنوبية، خلال العامين الماضيين. وقد أرسل إحداثيات الأهداف إلى مشغليه الإسرائيليين. وكان نادر يتواصل مع الإسرائيليين عبر شبكة الانترنت، بأسلوب مشفر وشديد التعقيد، علماً بأنه كان قد خضع لعدد كبير من الدورات على أيدي مشغليه داخل الأراضي المحتلة. وقد انتقل إلى إسرائيل حوالى 4 مرات، واحدة منها من خلال الحدود البرية اللبنانية ـــــ الفلسطينية قبل عام 2006. أما في المرات الباقية، فكان يسافر إلى أوروبا، ومنها ينتقل إلى فلسطين المحتلة بجواز سفر إسرائيلي..
وفي الغندورية، أحدث توقيف ناصر نادر صدمة لدى أهالي البلدة الذين يولون ثقة كبيرة لعائلة الموقوف، وخاصة أن أخاه غير الشقيق هو رئيس المجلس البلدي في القرية محمد نادر، الذي رأى أن «على العدالة أن تأخذ مجراها، وإذا ثبتت إدانة أخي فنحن سنتبرّأ منه ونستنكر ما قام به، ونطالب بأشد العقوبات بحقه وبحق كل متعامل مع العدوّ». ووجه نادر شكراً «للسلطات الأمنية على ما تقوم به لحماية الوطن».
بدوره، يقول مختار البلدة محمد علي إنه لا أحد من أبناء البلدة «شكّ يوماً في أن ناصر قد يكون من المتعاملين مع العدوّ الإسرائيلي، لذلك فوجئ الأهالي بهذا النبأ، ما أحدث امتعاضاً وسخطاً كبيراً. فالغندورية بلدة مقاومة وقدّمت أكثر من 15 شهيداً، وشهدت أعنف المواجهات في حرب تموز الأخيرة، ودمّرت أغلب منازلها، لذلك إذا ثبت تورّط الموقوف بالعمالة، فإننا سنطالب بأشد العقوبات بحقه، إضافة إلى أن الأهالي سيمنعونه من دخول البلدة ثانية».
الموقوف متزوّج من سيدتين، إحداهما (الموقوفة معه) تقيم في جلّ الديب، أما الثانية، فتقيم في البلدة. ويملك الموقوف محلاً لبيع الهواتف الخلوية في منطقة صربا ـــــ جونية.
(شارك في هذا التقرير: داني الأمين وحسن عليق)
الإسرائيليون يطلبون تلف الأجهزة
كشفت التحقيقات مع عدد من العملاء الموقوفين أخيراً أن الاستخبارات الإسرائيلية بعثت قبل أكثر من أسبوعين برسالة إلى عدد كبير من عملائها، طلبت منهم فيها وقف نشاطهم في هذه المرحلة، وإتلاف أجهزة اتصال متطورة كانت قد سلّمتهم إياها. وفسّر أمنيون معنيون بمكافحة التجسس هذه الخطوة بأنها تهدف من ناحية إلى محاولة وقف «النزف» في البنية الاستخبارية الإسرائيلية، الذي يؤثر سلباً على عمل الجهاز الذي يدير الشبكات المكتشفة، وعلى صورته وعلى معنويات العملاء، ويخلق صعوبة في تجنيد عملاء جدد في المستقبل. ومن ناحية أخرى، يهدف الإجراء الاحترازي الإسرائيلي إلى محاولة منع الأجهزة المعادية لإسرائيل من الاطلاع على التقنيات الفائقة التطور التي تتمتع بها الأجهزة المضبوطة. وقلّل مسؤول أمني رفيع من أهمية هذه الخطوة، مؤكداً أن الحملة على الشبكات الإسرائيلية ستستمر.
الحمصي وأحداث أيار 2008
أدى زياد الحمصي دوراً مركزياً خلال أحداث أيار 2008، وخاصة في المعارك التي حصلت على «محور» سعدنايل ـــــ تعلبايا، من خلال تنظيمه للمقاتلين الموالين لتيار المستقبل، وتوفيره الأسلحة لهم. وتجدر الإشارة إلى أن تيار المستقبل أصدر أول من أمس بياناً نفى فيه أن يكون الحمصي أحد المنتمين إلى أطره التنظيمية.
الحريري: طويلة على رقبتهم
علّق النائب سعد الحريري على توقيف زياد الحمصي بالقول «إن بلدة سعدنايل كانت سبّاقة في مقاومة إسرائيل وقدمت شهداء كثراً في المواجهة، أما المحاولات الموتورة والضعيفة لوضع تيار المستقبل وسعدنايل في الخانة التي يحاولون دائماً أن يضعونا فيها، فهذه طويلة على رقبتهم. نحن لسنا بحاجة إلى شهادة من أحد في عروبتنا».
ما كتبه الحمصي عن خيانة الوطن
حصل زياد الحمصي (الصورة) من وزارة الإعلام سنة 1993 على امتياز إصدار مجلة شهرية ثقافية ـــــ اجتماعية باسم «الإرادة»، وأشرف على إصدارها بصورة متقطعة، قبل أن يعود إلى إصدارها بانتظام منذ أوائل عام 2008، بأموال إسرائيلية، بحسب المعلومات المنقولة عن التحقيق معه. وكانت مقالاته تثير جدالاً واسعاً في منطقة البقاع، وبخاصة تلك التي كتبها في عدد تشرين الأول 2008، تحت عنوان «حزبي الله ونعم الوكيل.. سعدنايل ليست مذهبية» والتي تضمنت نقداً لاذعاً لحزب الله.
وفي افتتاحية عدد حزيران عام 1997، كتب الحمصي مقالة تحت عنوان «لماذا يخون المواطن العربي وطنه؟»، نورد نصّها الحرفي:
«لماذا يخون المواطن العربي وطنه بسهولة؟ ولماذا يكون الخائن عربياً في أكثر العمليات الخيانية وأشدها فداحة بحق الوطن والأمة، أمناً ومصيراً؟ هذا السؤال الدامي للقلب والوجدان عشناه تساؤلاً على مدى نصف القرن المنصرم ولم نلق له جواباً مقنعاً يشفي غليلنا كأشخاص معنيين بالشأن الوطني والقومي، رغم عدم وجودنا في سدة المسؤولية الرسمية.
إن صراعنا مع العدو الصهيوني جعلنا نعيش هذا الهمّ، ونعيش معه العجز عن إمكان التصدي له ومنع حدوثه. وهكذا كنا وما زلنا نجتمع، نجتهد، نناقش، نختلف، وفي النهاية نسقط جميعاً في هوّة اليأس. وحده الحدث اللاحق ينسينا الحدث السابق.
إن معالجة تفشّي ظاهرة الخيانة في الجسم العربي تتطلب إضافة إلى ذلك النفاذ إلى أعماق الذات الإنسانية للخائن الشخص، والاستطلاع الكامل لجوانب هذه الذات، معيشة ونظام حياة، والوقوف على الأسباب التي أدت إلى ذلك. إن الذات التي أخذت قرارها في السقوط في جحيم الخيانة لا ترتكب فعل الخيانة لأسباب مادية أو حتى لأسباب عقيدية فقط، قد يكون هذا قائماً بالفعل ومن الأسباب المتراكمة في ذهنية الخائن وباطن تفكيره».
عملاء من حيث يحتسب الناس أو لا يحتسبون!
إبراهيم الأمين
تقترب إسرائيل من مرحلة حرجة في مواجهة القوى المقاومة لاحتلالها في فلسطين ولبنان. وقد يكون أكثر الدروس قوة هو المتصل بإعداد الجبهات الداخلية لخصومها، أمنياً وسياسياً، كي تكون ملائمة لأي عدوان تريده. وقد اشتهرت إسرائيل بأنها نجحت، خلال عقود تلت قيامها، بتحقيق نجاحات على هذا الصعيد. لكنّ الصورة بدت مختلفة بعض الشيء منذ ربع قرن. وربما يمكن التدقيق في مسائل تخص ساحة لبنان التي باتت تفرض على العدو سياقاً من العمل لا يشبه أي مكان آخر.
وإذا كانت إسرائيل تقوم بما يتناسب ومصلحتها، فهي بدأت منذ بضع سنوات برفع منسوب الحذر داخل مدنها ومجتمعها، وذلك بناءً على تقديرات ومعطيات تشير إلى إمكان اختراق الأعداء ساحتها الداخلية، وهي في مواجهة هذا الخطر، لا تقف على خاطر أحد، ولا تحتاج إلى خطب أو بيانات أو اتصالات أو تبريرات لأي خطوة تقوم بها، سواء كانت مصيبة أو من دون نتائج عملية، لكنها تتصرف على أساس أنها أمام معركة لا مزاح فيها. وهو الأمر الذي لم يقم عندنا بعد، برغم أن نتائج التجسس الإسرائيلي في لبنان كانت ولا تزال كارثية، وأودت بحياة الآلاف من المدنيين الأبرياء إلى جانب المقاومين.
وإذا كان نشاط أجهزة مكافحة التجسس الإسرائيلي في لبنان قد شهد حركة لافتة خلال الأسابيع الماضية، فإن الأمر لا يستوي على القدر نفسه الذي يقوم، لا في إسرائيل فقط، بل في أي دولة تقول بإجماع أهلها عن هذه الجهة أو تلك إنها العدو. ولذلك، فإنه لا بد من بضع أسئلة، عسى أن يعمل البعض على وضع الإجابات عنها، لأن ما هو مقبل على صعيد مكافحة التجسس الإسرائيلي قد يثير خيبات وصدمات تتجاوز ما هو متوقع، وخصوصاً أن الحرب لا تزال في بدايتها، وما انكشف حتى الآن بسبب «خطأ إسرائيلي» أو «نجاح في اختراق آلية عمله»، على حد تعبير مسؤول أمني، لا يمثّل إلا القسم البسيط من ملف تحوم الشبهات بشأنه حول كثيرين من حيث يحتسب الناس أو من حيث لا يحتسبون.
لكنّ الأسئلة واجبة من زاوية طريقة تعامل الطبقة السياسية مع عمليات التوقيف، ومحاولة البعض تهميشها أو التعامل معها كأنها جزء من اللعبة الداخلية التقليدية. وهذا ما يبرر بعض هذه الأسئلة، ومنها:
ـــــ ماذا لو أن جهاز أمن المقاومة كان قد تولّى بنفسه توقيف هذا المشتبه فيه أو ذاك من خارج الطائفة الشيعية؟ كيف سيكون الموقف لو أن الجهاز هو الذي أوقف زياد الحمصي أو أديب العلم؟
ـــــ ماذا لو أوقف مشتبه فيه، ولم تكن الأجهزة المستخدمة في التواصل في حوزته، أو كان يضعها في مكان خارج منزله أو مكتبه المعلن، أو يتكل على آخرين شركاء له للقيام بعملية الإرسال والتلقّي التقني؟
ـــــ كيف ستكون ردة الفعل لو أن الشبهات التي تحوم حول هذا أو ذاك من كوادر أو نشطاء أو قيادات في قوى لها نفوذها الطائفي أو المذهبي أو السياسي تحتاج إلى استكمال من خلال التوقيف أو الدهم أو خلافه؟...
ـــــ كيف ستكون صورة الموقف السياسي لو أن بين المشتبه فيهم في التعامل مع العدو شخصيات لها حضورها الفعلي والجدي في الشارع السياسي، أو في البيئة الاقتصادية، أو داخل مؤسسات الدولة؟... هل كل تحقيق ضروري يحتاج إلى غطاء من هذه المرجعية أو تلك؟
ـــــ ماذا يعني تدخل مرجعية روحية لدى تيار سياسي للتدخل لدى مرجعية قضائية لعدم الاستمرار في التحقيق مع متورطين في جريمة قتل مناضل سياسي تحت الاحتلال، وذلك بحجة أن التوقيف أو الاعتقال أو الاتهام سيسبّب مشكلة طائفية ويقسم الناس؟
ـــــ لماذا تحتاج الأجهزة الأمنية إلى أن تشرح لقوى سياسية، خارج إطار السلطة أو داخله، تفاصيل وحيثيات بشأن أعمال أمنية تقع في إطار مكافحة التجسس، ولماذا تحتاج القوى الأمنية الرسمية إلى ما يشبه «الإذن» أو «رفع الغطاء» حتى تكون قادرة على القيام بعملها؟
ـــــ لماذا يضطر قادة ومراجع ونافذون إلى أن يتصلوا بقادة الأجهزة الأمنية أو بقيادات سياسية للقول إنه إذا صحّت الاتهامات والشكوك، فإنهم في حلّ من المشتبه فيهم... هل بات على المقاومة وعلى الأجهزة العاملة ضد التجسس أن تدافع عن نفسها، بينما يرتاح مشتبه فيهم داخل غرف التحقيق لأن هناك «مَن سيتصل ويخرجنا»...
ـــــ هل يظن اللبنانيون أن إسرائيل نجحت، خلال ستة عقود، في أن تصيب كل جسم مقاوم، وأن تجتاح لبنان مرات ومرات، وأن تدمر وتقتل من دون أعين وآذان وأيدٍ تتعامل معها؟
ـــــ هل يظن أهل الحل والربط أن النشاط الأمني الإسرائيلي المتعاظم يوماً بعد يوم ليس له أذرعه داخل لبنان، كل لبنان؟ وهل يظن أهل الحل والربط أن التجسس الإسرائيلي يقتصر على فقراء يتذرّعون بالحاجة المالية، أو متوسطي الحال يعتقدون أنهم اضطروا إلى القيام بهذا العمل؟ وأن التجسس مخصّص لجهة واحدة، وطائفة واحدة، ومنطقة واحدة؟
ـــــ ألا يعتقد الناس، قبل أصحاب القرار، أن العمل الأمني الإسرائيلي يحتاج إلى كل دعم بعد مسلسل الخيبات والهزائم التي بدأت منذ منتصف الثمانينيات؟ وأن هزيمة عام 2006 تكفي وحدها لقلب الأرض رأساً على عقب بحثاً عن متعاون وعن جاسوس في أي موقع كان ومن أي طائفة كانت ومن أي منطقة؟
صحيح أن من يقوم بمكافحة التجسس لن يتوقف عن عمله، ولن يطلب إذناً من أحد، ولكن ثمة حاجة فعلية لأن يثبت أفرقاء كثر أن إسرائيل هي العدو، وأن يتركوا الأمر يسير كما يجب، وأن يساعدوا بسكوتهم ـــــ على الأقل ـــــ حيث يجب.
الحمصي بعد معارك بيادر العدس ضد القوات الإسرائيلية عام 1982
تعليقات: