تمثال سعد حداد في مرجعيون قبل إزالته من مكانه
ينتظر كثير من اللبنانيين الكلمة التي سيلقيها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في النبطية اليوم، لمناسبة عيد المقاومة والتحرير، والتي كشف في آخر إطلالة له أنها ستتناول المتعاملين مع العدو الإسرائيلي. هذا الموضوع الذي يمثّل هاجساً كبيراً لأهالي القرى الجنوبية، حتى طغى على حديثهم الانتخابي، يفتح أيضاً جروحاً في قلوب كثيرين طُلب منهم العض عليها منذ عام 2000
في صيف عام 2000 وفي قرية حدودية، كان قائد في كشافة الإمام المهدي التابع لـ«حزب الله» يعمل على تسجيل أسماء الراغبين في الانتساب إلى الكشّافة، تقدّم منه طفل في الثامنة من عمره وسأله بانكسار: «أنا بيي عميل، فيني فوت معكم؟»، فعانقه الشاب بحنان وسجّل اسمه بين المنتسبين.
في ربيع عام 2009، وفي ملعب مدرسة في الضاحية الجنوبية لبيروت كان طفل في التاسعة من عمره يبكي. فقد قُبض على والديه بتهمة التعامل مع العدو، لكن ليس هذا ما يبكيه، بل لأن زملاءه في المدرسة كانوا يقولون له: «ابن العملاء».
9 سنوات تفصل هذين الحدثين في بلد حقّق الانتصار الأول على إسرائيل، كما تفصلهما حرب طاحنة شنتها إسرائيل على لبنان عام 2006. 9 سنوات وما زال التعامل مع إسرائيل قائماً، كما لا تزال في لبنان نظرتان إلى العميل، تختلفان باختلاف النظرة إلى المقاومة.
■ ■ ■
في مثل هذا اليوم من عام 2000، كان تمثال مؤسس «جيش لبنان الجنوبي»، سعد حداد، لا يزال منتصباً في ساحة بلدة مرجعيون. في الخيام، كانت المفاوضات تجري بين أهالي البلدة المقيمين فيها والمتعاملين مع جيش الاحتلال، لتسهيل فرار من يرغب عبر الحدود إلى فلسطين المحتلة، في مقابل عدم التعرّض لأسرى معتقل الخيام، وهذا ما كان. سهّل الأهالي عبور سيارات بعض العملاء سالمة إلى البوابات الحدودية، فيما تعهد آخرون التوسط لتسهيل تسليم عملاء آخرين أنفسهم لعناصر المقاومة، ثم الجيش اللبناني. في القليعة، لجأ الأهالي إلى كنيسة البلدة، حيث ارتفعت أصوات تستنكر تخلي «الجيران» عن الذين خدموها سنين طويلة.
الوضع كان مختلفاً في بلدات أخرى مثل حولا، التي كان أبناؤها المهجّرون منها قد بدأوا مغامرة دخولها. صحيح أن عناصر من المقاومة كانوا قد سبقوهم، إلا أنّ الأمر لم يخلُ من مشاهد لا يمكن للذاكرة أن تمحوها، كمشهد امرأة خمسينية، ترتمي على ابنها الثلاثيني، وتروح تقبل يديه راجية إياه أن لا ينتقم من قاتل أبيه، الذي كان واقفاً على بُعد خطوات منه فقط. يستسلم الشاب لدموع أمه، وأوامر قيادته، فيبتعد عن قاتل أبيه ويروح يلهي نفسه بتنظيم أمور أخرى تسهّل عبور السيارات إلى قرى أخرى... حيث يتكرر المشهد. عملاء محميون من المقاومين، وأهال يعضّون على جراحهم، مكتفين بسعادتهم بالعودة إلى قراهم بعد 22 عاماً من الاحتلال، مسلّمين إلى الدولة وقضائها أمر تحقيق العدالة. حتى معتقلو الخيام، الذين كانوا يشاهدون العميل الذي عذّبهم في زنازينهم وقد تحوّل شرطياً في قوى الأمن الداخلي، استسلموا لـ«عدالة» القضاء الذي كسر الرقم القياسي في تقديم الأحكام المخفّفة.
لم يعضّ الأهالي طويلاً على جراحهم، وخصوصاً أن سياسة المقاومة المتساهلة مع العملاء «بخلاف كلّ حركات المقاومة في العالم»، حسب تعبير منتقدي هذا السلوك، جعلت بعض العملاء السابقين يتصرّفون في محيطهم كأن شيئاً لم يكن. في السنة الأولى التي تلت التحرير، كان بعض العملاء قد أنهوا أحكامهم، وبدأوا يعودون إلى قراهم ليعيشوا فيها. فشهدت بعض القرى الشيعية عمليات تفجير لسيارات هؤلاء، أو اعتداءات على بيوتهم للقول لهم إنهم غير مرغوب فيهم، فيما شهدت قرى أخرى عزلاً للمتعاملين السابقين، كان يخفّ أو يتعزّز وفقاً للأحداث. أما القرى المسيحية، فقد عاد من أنهوا أحكامهم إليها بهدوء، واستطاعوا سريعاً الانخراط في الحياة الاجتماعية.
لكن مشكلة العملاء لم تنتهِ آنذاك، ولم تقتصر على العائلات التي اختارت الذهاب إلى إسرائيل، حيث يكبر أطفال لبنانيون في بلد عدو، بل بقيت جمراً تحت رماد ينكشف عند كلّ ريح سياسية تفضح وجود ثقافتين في لبنان، أو مفهومين للعدو والتعامل معه.
■ ■ ■
تمرّ السنون، وها هو لبنان يحتفل بالذكرى التاسعة للتحرير. تغيّرت الكثير من الأمور في حياة الجنوبيين. لكن مشكلة العملاء عادت لتبرز أكثر من أي وقت مضى، حيث يسبق سؤال «شو؟ لقطوا عملاء اليوم؟» كلمة «مرحبا» في عدد من المناطق اللبنانية اليوم، فيما يغيب غياباً تامّاً عن مناطق أخرى.
تمرّ السنون، ويبقى القبص على متعامل مع الاحتلال في منطقة ما اعتداءً على طائفة، وتبقى المقارنة قائمة بين عميل وآخر، باختلاف الدولتين اللتين يعمل لهما العملاء: إسرائيل وسوريا.
ففيما لا يُعرف عن اللبناني أنه صاحب نكتة، لا يسعنا إلا الضحك عندما «تحبك» معه. وهذه نكتة نسمعها في منطقة مسيحية: عاملان سوريان يعلّقان على عمليات اكتشاف شبكات الجواسيس الإسرائيلية، فيقول أحدهما للآخر ساخراً، أو شامتاً: «شفت شلون؟ نحن أذكى من المخابرات الاسرائيليي، لهلق بعد ما حدا كشفنا». أما النكتة التي تُتداول في منطقة شيعية، فتأتي تعليقاً على غياب طويل لأحدهم عن منزله: «شو، فكّرناهن لقطوك بتهمة العمالة». وخصوصاً مع انتشار شائعات عن توقيف عدد من المواطنين سراً تمهيداً لكشف المزيد من الشبكات.
لكن الأخطر يبقى رفض إلقاء أهالي قرية كاملة القبض على عميل تحت حجة الاعتداء على الطائفة، وإن اختلفت الأسباب التي يسوقها اللبنانيون لتبرير هذا السلوك. فبين من يقول إن استهداف المقاومة على المنابر هو الذي يُشعر المتعامل مع العدو بأنه لا يرتكب خيانة، أو بأن النبرة العالية التي يستخدمها «حزب الله» في خطابه هي ما يجعل القبول بالتعامل مع العدو وسيلة وحيدة للتخلص منه... يصبح الخوف من تحوّل المقاوم إلى «الغريب» الذي أُدخل الإسرائيلي إلى لبنان عام 1982 لـ«المساعدة» على التخلّص منه، مبرّراً أكثر من أي وقت مضى.
تعليقات: