في صيدا، على خلاف معظم المعارك الانتخابية الأخرى، معركة برامج سياسية بين نقيضين. فالمعركة في صيدا مشحونة بخلفية اجتماعية واضحة، بين رمز من رموز الحركة الشعبية، ورمز من رموز سلطة المال والأعمال. وقد اختار الرئيس السنيورة معركة صيدا انتقاماً منها، لأنها ظلّت بمنأى عن سلطته المباشرة بين ثلاث مدن ساحلية، يظن أن اثنتين منها ملكية خاصة، ولأن صيدا نجحت حتى الآن في مقاومة سلطة المال وخرق الاصطفاف في السرب المذهبي وأقنان الدجاج. فإن معركتها معركة برامج سياسية واجتماعية بين سياسة الرئيس السنيورة في هدر الحقوق الوطنية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وسياسة «أبناء البلد» في الدفاع عن هذه الحقوق، شأنها في ذلك شأن الحركات الاجتماعية والحركات المناهضة في أوروبا وأميركا الجنوبية والعالم، حيث لم يصب اليأس منها مقتلاً، وحيث تُكتَب البرامج السياسية على أرض الواقع مع ضبط الزمن بين نموذجين من نُظُم المصالح والطموحات المعيشية والحياتية لغالبية فئات الناس، مقابل حفنة قليلة. النموذج الأول هو نموذج مراكب الناس تسرح حرة في عباب اليمّ، تبحث عن رزقها والألفة في توازن الأشياء وديمومتها، فتحرص على الاستمرارية وحفظ التنوّع وحق المشاركة والعمل الجماعي. وهي تختزن ثروة هائلة من المعارف ونقل الخبرات والتكيّف، لا يعرفها إلا الراسخون في العلم. والثاني هو نموذج «بابور» الصيد يهدر بدخانه الملوّث اليابسة واليمّ، يجرف الشعاب ويبدّد الإرث المشترك المنقول من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة. ويتباهى بثقافة صيد الأطنان الضيّقة الأفق، مهووساً بالثروة النقدية في حسابات آنيّة لا تلبث أن يأكلها نفر من أصحاب الأسهم والديون والبورصات على حساب الثروات البشرية والثقافية والإيكولوجية... وهي ثروات لا تقاس بثقافة الورق.
ولم يصب اليأس من صيدا مقتلاً، في مواجهة «بوابير» الصيد منذ عام 75، فقد حاصرت مراكبها «البوابير» ولم يعمها حقد ثأر الدم بالدم، بل حافظت على الاستمرارية ورعت حق الاختلاف السياسي على الرغم من كثرة المحن وجنون الحرب. حضنت صيدا تنوّع محيطها الجنوبي والفلسطيني والخرّوبي في نسيجها الاجتماعي وأسواقها وأزقّتها وجامعاتها، فأتاحت بذلك للصيداويين تبادل المنفعة المشتركة والعشرة والخبز والملح، وأتاحت لمتمولي صيدا تمدد بساتينهم وتوسع أعمالهم إلى سواحل المحيط وهضابه.
حفظت صيدا كرامات الناس، كلّ يسعى في مناكبها يلتقط رزق عياله بكرامته وعرق جبينه، فتغلّبت، بتوازنها، على «بوابير» الإقصاء، وعلى محاولات التهجير والتصفية الطائفية والمذهبية والسياسية. ولم يسهل على صيدا الهوان بحماية المقاومة، فتقاطعت معها بحماية الثغر البحري وبوابة جنوب الجنوب.
وفي هذا المسار المتوازن، حرمت صيدا «البوابير» سلطة إلغاء تراثها واستباحة حرمة جسدها، فلم تسمح بزرع الأبراج مكان البساتين ولم تسمح ببيع مدينتها التراثية في البورصة، فما زال أهالي صيدا يسلسلون تاريخ كل صاحب عمارة وقطعة أرض ويعرفون الملّاكين أباً عن جد.
والحال، يدافع أسامة سعد و«أبناء البلد» عن هذه الاستمرارية في التنوّع الاجتماعي والثقافي والسياسي، وعن رعاية استقرار صيدا في داخلها ومحيطها، يخوض معركة سياسية ـــ اجتماعية بشعار «التوازن والتعدد» وبرنامج «خط معروف»، حمايةً للتوازن الثمين بين الصيداويين على اختلاف أحجام قواربهم وطموحاتهم، وحماية لتطوير مصالحهم المشتركة الاجتماعية والسياسية في محيطهم الطبيعي ومعه. فصيدا لا تستطيع وحدها حل مشاكل الإنماء والبطالة التي خلّفتها سلطة «البوابير» في لبنان والمنطقة في تبعيتها الاقتصادية والسياسية لمصالح الدول المسيطرة «على المجتمع الدولي»، إنما تستطيع وحدها الدفاع عمّا بقي لأبنائها من الحد الأدنى الذي لم تستطع السلطة حتى الآن انتزاعه. فمن أجل انتزاع هذا الحد الأدنى، يهبط الرئيس السنيورة على صيدا ومحيطها ببرنامج «وحدة القرار». ولا ريب في أن أُحادية القرار التي يمارسها ويؤمن بها هي برنامج نموذج «بابور» الصيد على ما ذاق اللبنانيون وعلموا من: سياسة الديون والضرائب والتعاقد الوظيفي وإلغاء الخدمات الاجتماعية وتحويل مؤسسات الدولة إلى ملكيات خاصة ومزارع انكشارية. وبطبيعة الحال لا يتحمل الرئيس السنيورة وحده مسؤولية الخراب، لكنه من أكثر المتحمسين له والمحاربين من أجله. فهو محارب مؤمن بتوكيل «المجتمع الدولي» مصير لبنان والمنطقة بأسرها في تبعيتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وعقد معه «اتفاقيات شراكة» اقتصادية وسياسية وأمنية بذريعة «محاربة الإرهاب»، وهو محارب مشبع بثقافة «تشجيع الاستثمار» في العقارات والمصارف والخدمات الاجتماعية، وهي في حقيقتها ثقافة «ازدهار» مصالح حفنة قليلة أغلبها «مستثمرون» ماليون من الخارج لم يجدوا أرباحاً كافية في البلدان التي تعدّ خططاً إنتاجية وأرباحاً على المدى الطويل. وهو كذلك محارب مقتنع بعدالة الكيل بمكيالين في الدول المسيطرة على «المجتمع الدولي» سواء بما تسميه «السلام في الشرق الأوسط» الذي أفضى خلال ثلاثين سنة من «المفاوضات» إلى استمرار الإبادة والقتل، وإلى شرعنة جرائم إسرائيل في الدول العربية، أو سواء بما تسميه «تشجيع الديموقراطية»، الذي أدى إلى إزالة الدولة في العراق وفراغ باقي الدول العربية، وإلى سيطرة ديموقراطية العشائر والطوائف والقبائل على أجهزة الدولة بالانتخابات. ولا شك أن ما يؤمن ويحارب من أجله الرئيس السنيورة في تقديس «ملائكة المجتمع الدولي» ومؤسسات البنك الدولي ودافوس ومنظمة التجارة العالمية... ليس صنيعته ومن بنات أفكاره، إنما هو استراتيجية عامة من صنيعة وبنات أفكار مؤسسات المصالح في الدول التي تسيطر على «المجتمع الدولي»، فأوكلت سياسيي السلطة الأكثر اقتناعاً وحماسة وكالة اعتماد، وأشركتهم في الأرباح والفوائد تحت إشرافها ومراقبتها ومحاسبتها، على حساب حقوق الغالبية العظمى من الفئات الاجتماعية حتى في المجتمعات الصناعية. وتعنّت هؤلاء السياسيين في العديد من البلدان بـ«وحدة القرار» وتباهوا بـ«أذن من طين وأذن من عجين» أمام احتجاج مئات الملايين في عواصم العالم على تدمير العراق وأمام حكمة الكون في التوازن ومضوا في قناعاتهم المحاربة وثقافتهم الضحلة إلى أن «ازدهر» الجوع في العالم، وشمل ثلثي البشرية، وتبدّدت المياه والثروات الطبيعية وهُدرت الثروات البشرية والثقافية والإيكولوجية. ولم يرعوِ بعضهم بغير الفشل والخسارة في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان، ثم الفشل والخسارة في الأزمة المالية والبورصات، واضطر هذا البعض إلى حك رأسه والانتباه إلى أن غنى الحياة بتنوّعها وتعدد ثرواتها واستمراريتها لا يزجرها قوم مارقون في قمقم. غير أن البعض الآخر لم يعتد فضيلة حك الرأس، ولم ينتبه إلى أن «أذن الطين» هي أذن ميت وأَلِفَ ثقافة الربح حتى عاد بلا مخيّلة. فمثل هؤلاء لا يعقلون بغير درس قاسٍ في الفشل والخسارة. فمن حكمة الحياة وغنى ثرواتها في الثقافة أنها تعلّم الإنسان المشبع بـ«وحدة القرار» أهم دروس الحياة، بفشله وخسارته. وصيدا المتمترسة بمواجهة نموذج «البابور» لم تضنّ يوماً برعاية أبنائها وتعليمهم دروس الحياة. وأغلب الظن أنها لن تبخل اليوم بتعليم مَن كان يوماً أحد أبنائها.
* كاتب لبناني
تعليقات: