خديجة عكر: آخر شهود مجزرة الخيام

  نكهة مختلفة لتحرير الخيام بتحرير معتقله
نكهة مختلفة لتحرير الخيام بتحرير معتقله


ثلاثة مشاهد «صاخبة» كانت كفيلة بأن تترك أثرها البالغ على حياة خديجة عكر ابنة الخيام. هذه السيدة السبعينية شاهدة على ثلاثة أحداث تاريخية ترتبط بالاحتلال الإسرائيلي: مجزرة الخيام عام 1978، تحرير المعتقل عام 2000، وحرب تموز عام 2006

تتميز ذكرى تحرير الجنوب اللبناني في أيار عام 2000 بنكهة فرح خاصة تغمر خديجة عكر كلما هلّت، إذ شهد يوم 23 أيار من ذلك العام حرية أسرى معتقل الخيام وعودة البلدة إلى حضن الدولة اللبنانية بعد 22 عاماً متواصلة من الاحتلال المباشر. لكن فرحة خديجة مضاعفة، هي التي تذوق طعم الحرية بعدما عاشت التجربة الأكثر إيلاماً جراء احتلال العدو بلدة الخيام. فقد كانت واحدة من قلة شهدوا على مجزرة الخيام التي ارتكبها العدو وعملاؤه يوم 17 آذار 1978، ورأت بأم العين بعض تفاصيلها المؤلمة بحق العجزة والمسنين الذين بقوا فيها.

لا تتذكر خديجة عكر اليوم أو السنة التي حصلت فيها المجزرة، لكنها تستعيد أحداثها وكأنها حصلت بالأمس. تروي كيف دخل جنود العدو إلى ثكنة الخيام (التي تحوّلت إلى معتقل خلال سنوات الاحتلال) في 14 آذار 1978 «بعد قصف عنيف استمرّ يوماً وليلة كاملين، ما أدى إلى خروج المقاتلين الفلسطينيين ومقاتلي الحركة الوطنية اللبنانية من البلدة التي لم يبق فيها غير النساء والمسنين والعجزة».

تروي خديجة، أنه في صباح يوم هادئ لم يطلق فيه الرصاص، خرج الأهالي من بيوتهم ليجدوا المتعاملين مع إسرائيل يجوبون شوارع البلدة وأحياءها لإحصاء الموجودين فيها. خلال هذه الجولة اعتقلت دوريات لرجال كانوا يرتدون الثياب العسكرية زوجها قرابة الثامنة صباحاً. حاولت اللحاق به فطلب منها أحد أفراد الدورية العودة من حيث أتت على أن يعيدوا زوجها لاحقاً.

امتثلت خديجة للأمر وعادت إلى البيت حيث كانت قد أبقت طفلها كريم مع عمتها ذؤابة عكر وحماتها سكنة شمعون رشيدي وزوج عمتها إبراهيم رشيدي. عند الساعة الواحدة بعد الظهر لم يعد زوجها، وكانت البلدة قد بدأت تشهد حركة صاخبة لآليات الجيش وشاحناته. «قررت حماتي أن تخرج بحثاً عن ابنها، لكنها لم تعد، بل وجدت مقتولة قرب المدرسة الرسمية. مثلها مثل أي إنسان التقوا به فقتلوه ورموه إلى جانب الطريق». عندما تأخرت حماتها، قررت هي أن تخرج بحثاً عن الاثنين: «قلت لعمتي احملي ابني حتى أذهب وأرى ماذا يجري في البلدة. في الطريق، التقيت بدورية لشبان يرتدون ثياباً عسكرية. سألني أحدهم أين كنت؟ تعالي معنا. قلت دخيلكم ابني بالبيت. سألوني مع من في البيت؟ فقلت مع عمتي وزوجها. أتوا معي وأخذوني مع ابني وجميع من كان في المنزل إلى مكان قريب من المدرسة وجمعونا هناك. كنا نحو عشرين شخصاً جمعونا من الحارة الشرقية. 4 نساء لا أولاد لهن، زوجة عمي يوسف والحاجة رقية واثنتان أخريان. قتلوهن جميعاً، أما أنا فقد نجوت بعدما تدخل عسكري بالجيش اللبناني كان في إحدى الملالات قائلاً: «أم الولد هناك، أخرجوها من الصف». بالفعل أخرجوها من الصف وكان ابنها لا يزال على يديها. تتابع خديجة السرد: «لم أعد إلى البيت مباشرة، بل اتجهت شمالاً وأنا أرتجف وجلست على مصطبة صغيرة. حين نظرت خلفي رأيت من كنت معهم يسقطون الواحد تلو الآخر، أعدموهم. انتهوا من فعلتهم، وغادروا مارّين من أمامي وقد قال لي الجندي الذي أنقذني: «الآن عودي إلى بيتك». سألته من يكون؟ فقال إنه يعرف شقيقي أمين عكر الذي كان جندياً في ثكنة مرجعيون، وإنه لا يمكن أن يفعل لي شيئاً الآن، «ومثلما صفّوا من حولك يمكنهم أن يصفوني أنا» قال لها.

سارت خديجة حاملة ابنها بقدمين ثقيلتين إلى البيت. مرّت قرب من قُتلوا وراحت تتفقدهم علّها تجد حياً بين الجثث لكن عبثاً. كلّهم كانوا قد أسلموا روحهم. عمتها وزوجها والجيران كلهم. حين تصل إلى البيت تهرع إلى قبو تحت منزل أهلها، حيث يلحق بها إلى هناك عدد من المسلحين ويطلبون نقوداً، فتجيب: «لا يوجد معي ولا قرش، ادخلوا إلى البيت وخذوا ما تريدون من أغراض وأثاث». يقول أحدهم: «أخذوا منها ابنها وعرّوا جسدها، فتصرخ به: ما عندك عرض؟ ما عندك أخت؟ لماذا لم تقتلوني مع من قتلتم؟». لم تعد خائفة من الموت، بل من تعذيبها واغتصابها. تبدأ بالدعاء والاستجارة بصوت مرتفع «فتتدخل رحمة الله مرة ثانية، ويعود العسكري الذي أنقذها ويؤنب رفاقه قائلاً لهم «لو معها مصاري ما بعدها قاعدة هون! لقد قتل أهلها وبقيت هي وطفلها فارحموها».

في اليوم الثالث، كانت لا تزال في القبو من دون طعام على الإطلاق: «لم أستطع أن أبتلع لقمة واحدة. كما أن ابني كان مريضاً ولم أجد طبيباً أعرضه عليه». جاء مواطن من بلدة كفركلا ونقلها إلى منزل الحاج أمين رحيم الذي بقي حياً مع صهره زوج شقيقته في الخيام. وفي المساء أتى شخص من بلدة القليعة ونقلها مع ابنها إلى كفركلا حيث توفي ابنها متأثراً بمرضه.

بعد وفاة ابنها، بقيت خديجة 15 يوماً في كفركلا ثم انتقلت في سيارة إلى بيروت لتجد أن عزاء أقامته عائلتها لها هناك معتقدين أنها قتلت مع من قُتل. أصيبت بصدمة حادة بسبب كل ما جرى، ولم تتخط ذلك إلا بعد وقت رغم أنها عادت إلى القرية وأقامت مع أخواتها، وشهدت التحرير.

اليوم هي في السبعين من عمرها، رغم ذلك «لا يمكن أن أنسى كيف وصلت إلى شفير الموت وعدت». تقول متسائلة عن جدوى العودة من دون عائلة؟ «حتى الآن أنا لا أعرف أين دفن زوجي. أنا ابني أنقذني، ظل حياً لينقذني ثم مات. لم أكن أستطيع القيام بأي شيء لكي يبقى حياً، ماذا كان يمكنني أن أفعل؟».

تتذكر عكر كيف ردم التراب على الشهداء في اليوم التالي للمجزرة، بعدما جمعت جثثهم في إحدى الجرافات. في ذلك اليوم أيضاً دخلت دورية إسرائيلية إلى البلدة، وسألها أحد عناصرها: من قتل هؤلاء؟ فردّت: «أنا اللي بدي أعرف من قتلهم؟». تتنهد ثم تتابع: «لم يتركوا أي حيّ في الخيام، ما استطاعوا أن يسلبوه أخذوه، ومن لم يقدروا عليه قتلوه. لكن لا أحد في الخيام يعرف حتى الآن كم هو عدد الشهداء الذين سقطوا في هذه المجزرة، ولا أحد يعرف القبر الحقيقي لهذا الشهيد أو ذاك».

هذه الحادثة التي عاشتها خديجة هي ما جعلها تصمد خلال عدوان 2006، الذي شهدت فيه فصلاً إضافياً من فصول القتل والدمار المرتكبة من العدو الإسرائيلي. لم تغادر البلدة إذ لم يعد أي شيء يخيفها بل بقيت مع أختها المقعدة على كرسيّ متحرك، وابنة أخيها، حتى انتهاء العدوان.... بنصر المقاومين.

الطفل حياة أمه

كتب الطفل الرضيع كريم عارف عكر الحياة لوالدته خديجة. فقد حال وجوده في حضنها دون تصفيتها على أيدي العملاء. لكن ليزيد القدر من فاجعتها، توفي ابنها الرضيع في أحد مستشفيات صفد (في فلسطين المحتلة) بعد شهر ونيف متأثراً بإصابته بتلف في النخاع الشوكي جراء ارتفاع الحرارة وعدم معالجته في الوقت المناسب.

تعليقات: