الكرز الشبعاني الى الانقراض؟
الإنتاج ينخفض 60% والإهمال الرسمي يساهم بتصحّر الأراضي
بعد سنوات على تحرير شبعا، لا يزال الإهمال يكبّلها، فالبلدة المشهورة بإنتاجها الزراعي المتميّز، تتجه نحو التصحر، ومزارعوها نحو الهجرة، ومزروعاتها نحو التلف... «ولا من يسألون، ولا من يحزنون»!
لا يجني مزارعو شبعا من مواسم فاكهتهم الشهيرة غير الاسم والصيت، فيما تباع منتجاتهم في محال الفاكهة والبسطات بأسعار تفوق ربح المزارعين أضعافاً. وترتفع الأصوت في أسواق الجنوب معلنة أن سعر الكيلوغرام الواحد من الكرز «الشبعاني» يراوح بين ألفي ليرة وثلاثة آلاف، إلا أن مزارعي شبعا لا يجنون من الكيلوغرام سوى 150 الى 500 ليرة. وحال مزارعي شبعا، تشبه إلى حد كبير وضع بلدتهم، التي تتمتع بشهرة إعلامية في ما يتعلق بمزارع شبعا والمقاومة، فيما تغيب الدولة عن معالجة مشاكل أهلها الذين ينتظرون المواسم الانتخابية، لتعوض عليهم انخفاض أسعار مواسمهم.
هجرة المزارعين
من مواسم الكرز، إلى الخوخ والدرّاق والمشمش والاجاص والتفاح، إلى التوت والجوز، عام كامل يعدّه المزارعون يوماً تلو اليوم، في انتظار نضوج الثمر المتميّز بجودته ونوعيته، والذي يخضع إلى تقلبات الطقس والرياح. وبعد الانتظار يقع المزارعون في دوامة السوق التي تسيطر عليها شروط أصحاب «الحسب» وتجار الجملة والشاحنات، يضعون إنتاجهم لدى التجار «بالأمانة» ليحصلوا على المردود بعد بيعه بأسعار تفوق القيمة الحقيقية المعروضة من المزارع أضعافاً، من دون نسيان اقتطاع عمولة تاجر الجملة وصاحب الشاحنة ومالك الحسبة... كل ذلك يسهم في زيادة هجرة المزارعين وتراجع المساحات الزراعية في مقابل اتساع مساحات البور، من دون أن تتدخل الدولة ووزارة الزراعة، في أي جانب من جوانب الدعم والتعويض.
ويقول المزارع المختار عبدو هاشم «نرسل انتاجنا من الفاكهة إلى حسبة صيدا، ويختلف ربحنا بحسب الطلب على البضاعة». ويتابع «شرحة كبيرة تزن 16 كيلوغراماً من الكرز الطلياني الأسود، يراوح سعرها للمستهلك بين 4 آلاف و6 آلاف ليرة في عزّ الموسم، فيما لا نحصل من صاحب الحسبة سوى على ألفي ليرة، أي 125 ليرة على الكيلوغرام الواحد وهو سعر الشرحة فارغة، وهذه الحالة تتكرر عند كل مشكلة أمنية تؤدي الى ركود الأسواق».
ويؤكد هاشم أن هذه المشكلة تنسحب على مختلف المنتجات الزراعية في شبعا، وخصوصاً الخوخ «الشبعاني» المتميز برائحته ونكهته «إذ تباع شرحة الخوخ زنة 22 كيلوغراماً، بنحو أربعة آلاف ليرة، ولا يربح المزارع في شبعا أكثر من 300 ألف ليرة من مواسمه المختلفة، ويفضل في كثير من الأحيان أن يجعل الثمر يتساقط على الأرض بدلاً من أن يضع جهداً وتعباً في الحصاد لا يعوض ببيع الإنتاج».
ويقول المزارع محمد ذيب موسى رحيّل «نفضل أن نخسر مواسمنا، بدلاً من أن نرى بأعيننا كيف يجري «استغفالنا» واستغلالنا، من التجار، ليرسلوا لنا ألفي ليرة ثمن الشرحة، إضافة الى كلام أصحاب الحسب بأنهم يقدمون لنا هذه المبالغ منّةً، بحجة أن السوق راكدة، وإنتاجنا لديهم تعرض للتلف». ويؤكد أن «من يقطنون في شبعا، لا يعولون في معيشتهم على الزراعة، بل على أموال المغتربين والمهاجرين، مثلما يعتمدون على توظيف أبنائهم في العاصمة».
دخول السياسة إلى التعاونية
وحاول أبناء شبعا تأطير عملهم في تعاونية زراعية تحت اسم «تعاونية الفاكهة والخضر في شبعا»، غايتها البحث عن أسواق لتصريف الإنتاج، وتنظيم الأسعار، وفرز المواسم بحسب أهميتها وحجمها، لكن سرعان ما فشلت هذه التجربة، لأسباب عائلية وحزبية، وبات المزارعون يعملون كل على حدة. لذلك لا يلتزم معظم المزارعين حالياً بنوعية البضاعة، ويعمد بعضهم إلى خلط الثمر في «الشرحة» بين كبير ومتوسط وصغير، وهو ما ساهم في جعل التسعيرة خاضعة لمزاج تجار الجملة وأصحاب الحسب.
ويقول رئيس هيئة أبناء العرقوب يحيى علي «إن الأمر الآخر الذي ساهم في ضرب المواسم في شبعا، هو عامل المناخ، إذ سببت الثلوج وزخات البرد والعواصف بين نيسان وأيار الماضيين تراجع المواسم نحو 60 في المئة، وخصوصاً الكرز والاجاص والتفاح والخوخ والمشمش. في المقابل، لا يتلقى المزارعون أي مساعدة من وزارة الزراعة، من حيث تأمين الأسمدة والمبيدات، ولا تعوضهم الدولة خسائرهم الناجمة عن الكوارث الطبيعية أو الحرب».
ويشير علي إلى «أن تدنّي أسعار الإنتاج الزراعي «الشبعاني» وتحكّم التجار الكبار فيه، وعدم تعويض خسائر المزارعين، فضلاً عن كلفة الإنتاج المرتفعة، سببت كلها تراجع المساحات الزراعية في شبعا، وهجرة أصحاب الكروم والبساتين بحثاً عن موارد مالية أنجع وأفضل». ولفت إلى أن «الأرض في شبعا تنحو إلى التصحّر، حيث يبس الشجر في بساتين «الوادي»، من النهر نزولاً نحو ثلاثة كيلومترات، وباتت الأرض بوراً».
تعويضات في الجارور
ويصنف أبناء شبعا إنتاج الكرز بحسب نوعيته، ولكل نوع مذاق وعشاق، أهمها: النواري، السكري، الفرعوني، قلب الطير، قوس قزح. وعلى الرغم من عوامل الطبيعة والطقس، فقد ظلت حبات الكرز تتدلى من الأشجار بألوانها المختلفة. ويؤكد هاشم «أن أشجار الكرز في شبعا، التي لم تتأثر بعوامل المناخ، أنتجت ما يفوق مئة طن، وتمكّن أصحابها من قطفها قبل عدوان تموز العام المنصرم، بيد أنهم تلقّوا الضربات في المواسم التي تأتي بعد الكرز، كالتوت الذي تنتج منه شبعا ما يفوق ثلاثين طناً، وكذلك الخوخ والمشمش، ولم يأت من يقول: ماذا خسرتم وكيف سنعوضكم؟».
ويجمع العديد من أبناء البلدة وفاعلياتها على «الظلم السياسي» الذي تعانيه شبعا، ويقول هاشم «ينطبق علينا المثل القائل «لا مع سيدي بخير ولا مع ستي بخير»، لافتاً إلى «أن مجلس الجنوب وعد عائلات البلدة بتعويضها بمبلغ 8 ملايين ليرة بعد تحرير الجنوب عام 2000، لكن قيمة التعويض تدنت إلى نحو خمسة ملايين ليرة، ورغم ذلك لم تحصل العائلات حتى اليوم على قرش واحد». وتابع «بعد عدوان تموز تلقينا وعوداً بالتعويض، الا أنها بقيت حبراً على ورق». ويضيف «خسرت 47 قفير نحل كنت أبيع عسلها لتأمين مصروف المنزل ومصاريف المدارس، وأنا اليوم مدين بنحو مليون ليرة ولا أعرف كيف أسدّد الدين، وهذه المشكلة تنطبق على الكثيرين من أبناء البلدة، فمأساتنا في شبعا أصعب مما يتصورها البعض، إذ إن المواسم لا تدر على أصحابها الربح، وننتظر ما سيأتي من الغربة، كذلك فإن الدولة وأركانها الذين يحركون الغرائز المذهبية نسلوا أيديهم من شبعا، وكذلك فعلت فاعليات المنطقة».
الحلول موجودة.. من ينفّذ؟
وأقام أبناء البلدة متنزهات متواضعة على ضفاف نهر الجوز، وفي الوادي، وقرب المطاحن القديمة، لكن هذه المشاريع «لا تسدّ رمقاً»، ولو أرادت الدولة مساعدة أبناء شبعا، وتحفيزهم على العودة والبقاء، لأقامت السدود المولدة للطاقة الكهربائية، ولشيدت معامل توضيب الفاكهة، وأخرى لصنع «المربيات» من الفاكهة المحلية، والعصير على اختلافه، وكذلك معامل للأجبان والألبان، إذ إن الثروة الحيوانية في البلدة تتعدى 20 ألف رأس ماشية يملكها عدد من أبناء البلدة، فضلاً عن إمكان الافادة من المياه العذبة الصالحة للشرب وفيها مختلف المعادن الضرورية للإنسان، على نحو ما يجري في العديد من منابع المياه في لبنان.
مجرد إشارة
كنز مائي مهدور
تشترك أراضي شبعا ومزارعها مع حقول نحو ثلاثين بلدة في الجنوب اللبناني وفلسطين وسوريا، إذ يبلغ امتدادها مع المزارع نحو 25 كيلومتراً، وتتمتع بوفرة مائية قلّ نظيرها، فمن أعلى شبعا يجري نبع «الجوز» المشهور بشدة صقيع مياهه، حتى في عزّ الصيف، وفي وسطها هناك نبع «المغارة»، فضلاً عن مياه مجرى الساقية النابضة طوال العام باستثناء أواخر الصيف والخريف، والتي تنحدر من منطقة «جنعم» و«العيون» وتسير في محلة الجديدة، لتلتقي في مجرى نهر الجوز، الذي تذهب معظم مياهه هدراً، ولا يستفيد منها أبناء البلدة اليسير من مياه الشفة والريّ.
ويتنوع الإنتاج الزراعي والحيواني في شبعا نتيجة المناخ وطبيعة الأرض وانتشار مساحتها، وارتفاعها الذي يصل في بعض المناطق إلى نحو ألفي متر عن سطح البحر، ففي أعالي البلدة توجد الأشجار المثمرة التي تعيش في المناطق الباردة، وفي وسطها يزرع مختلف أنواع الحبوب وأشجار الزيتون وبعض الحمضيات.
المزارع عبدو هاشم يعاين شجرة كرز
تعليقات: