الانتخابات: إزدهار المذهبية والموت المزري لليسار

الدكتور محمد علي مقلد
الدكتور محمد علي مقلد


إنهما ظاهرتان متلازمتان، العلاقة بينهما تبدو كأنها علاقة علة بمعلول: صعود المذهبية صعودا قياسيا وتراجع اليسار تراجعا مزريا. حصل ذلك في كل المناطق وفي كل الطوائف، لكنه بلغ مرحلة قياسية، على الجانبين المذهبي واليساري، في الجنوب الشيعي، وتجلى ذلك في أوضح صوره خلال الانتخابات.

صار من نافل القول إن الانتخابات النيابية توسلت أقصى درجات الشحن المذهبي والطائفي، وكانت الشيعية السياسية هي البادئة، والبادئ أظلم، منذ أن أطلقت شعار "شكرا سوريا"، وصولا إلى أحداث 7 أيار، ثم اعتبار هذا اليوم في ذكراه السنوية يوما مجيدا. كان من الطبيعي أن يرتفع صوت من داخل السنة يدافع عنها بالسلاح نفسه، من غير أن يبلغ الذروة نفسها، لأسباب شتى. أما على الصعيد المسيحي فكان التنافس بين فريقي الصراع يقوم على مزايدة في حماية المسيحيين وحقوقهم، وإن بدا أن فريقا منهما بدا أكثر اعتدالا والآخر أكثر تطرفا في خطابه حيال السنّة.

الخطاب الشيعي الذي روّجت له الأصولية الشيعية، فصار على كل شفة ولسان، يمكن اختصاره بالتالي: "نحن الشيعة، قدمنا أكثر من سوانا للقضية الوطنية ودفعنا ثمنا أكثر مما دفع سوانا، ونحن مستهدفون من العدو الاسرائيلي على حدودنا ومن عملائه في الداخل، ويتآمر علينا أهل السلطة ويحرموننا من حقوقنا في المساعدات، كما أننا مستهدفون بمؤامرات من قوى إقليمية ودولية، ولا يحمينا غير المقاومة، الخ". (الخطاب لا يتوسل التجريد بل يميل إلى التسمية والإدانة المباشرة بالأسماء الصريحة، ومن غير مواربة).

هذا الخطاب المذهبي يحفظه المذهبيون من دهماء الشيعة، وهذا طبيعي. والدهماء، إن حفظت، لا تحتاج إلى ثقافة أو معرفة، بل تحفظ عن ظهر قلب، وهي لا تجيد التأويل أو الاجتهاد، ولا تبتكر رأيا ولا تغير حرفا من حروف الخطاب، بل هي تستسهل، بل تستقرب العثور على "الخونة، والمتآمرين والمتواطئين والعملاء" ولا سيما في صفوف الطوائف والقوى السياسية اللبنانية الأخرى، وفي أي كلام نقدي يتناهى إلى أسماعها بالتواتر، لا بغيره، لأن الدهماء لا تقرأ، بل هي لا تسمع الأخبار إلا من مصادره المذهبية و لا ترى ولا تشاهد غير الشاشات الصديقة والحليفة التي تتقن الشحن المذهبي والتحريض الطائفي.

وإن صادف أن واحدا من الدهماء رأى، وهو يقلّب المحطات، وجها يعرفه على شاشة "معادية" فهو لا يصغي إليه إلا ليرصد الخيانة حية مجسدة متلبسة، أي بالجرم المشهود، وإن استمع وشق عليه فهم المعنى سارع إلى نقل الكلام من خارج سياقه، لأن من يساق لا يعرف معنى السياق. ما هو طبيعي في سلوك الدهماء ليس طبيعيا أبدا إن هو صدر عن المتنورين الشيعة، ولا سيما إن صدر عمن صنفوا، في تاريخ مضى، يساريين.

المتنورون، ومنهم كثيرون عملوا في قطاع التعليم أو انتموا إلى أحزاب يسارية، استسلموا للدهماء وسلموا أمرهم لمجموعة من جهلة الأرياف والأحزاب، أي من تلامذتهم الفاشلين الذين غادروا التحصيل العلمي وتفرغوا للأعمال الحزبية والعسكرية والأمنية أو قصدوا الحوزات وتخرجوا منها على عجل، أو دخلوا نادي الدراجات النارية السريعة والسيارات ذات الدفع الرباعي والنظارات السوداء، وصاروا من أصحاب الفتاوى وتبوؤوا مراتب اجتماعية جديدة لم تكن لتتيسر لهم لولا هالة من احترام اغتصبوها باسم السطوة الإيديولوجية وطقوس الإيمان والامتثال لـ"نظام مرصوص" يشبه ذاك المعتمد في الجيوش، نظام ابتدعه معممو المساجد والحسينيات الشيعية، بموجبه صار على المتنور أن يتقيد بتعليمات هؤلاء المثقفين الجدد المتعلقة بأصول إلقاء التحية والسلام وممارسة الشعائر الشكلية في الدين، وبموجبه صار على المتنور القديم أن يستشير تلامذته الفاشلين في أمور الفقه واللغة وفي أمور السياسة وإدارة الشأن العام. إنه بالضبط زمن الرويبضة، "الزمن الذي صار فيه سفهاء العامة هم الذين يسوسون العامة" (الدهماء)، على حد قول أحد الصحابة. فويل للمتنورين الذين هم عن دورهم التنويري ساهون.

في زمن الرويبضة مورس الترهيب في أبهى صوره من خلال الشحن المذهبي والطائفي الذي بلغ ذروته في كل منطقة ضد المناطق الأخرى، وداخل كل طائفة ضد الطوائف الأخرى، أو ضد "المرتدين" على طوائفهم أو مناطقهم، وبات صوت التعصب طاغيا حتى على المصالح اليومية وعلى لقمة العيش. إيديولوجية التعصب هي، كما وصفها أحد الفلاسفة، كالباطون المسلح في عقل المتعصب وفي طريقة تفكيره، وهي ككل إيديولوجيا، ليست نظارة يلبسها المتعصب، بل هي عينه بالذات، وليست عباءة يرتديها، بل هي جلده بالذات. لهذا يقال إن التعصب أعمى لأنه يغشي العيون ويصم الآذان و يدمر سلم القيم الاجتماعية والثقافية والسياسية ويقلب المقاييس.

أما اليسار اللبناني فحالته يرثى لها لا بالمعنى المجازي للكلمة فحسب، بل بالمعنى الحقيقي أيضا، لأن اليسار القديم، المتمحور كله حول الحزب الشيوعي اللبناني أو المتحدر منه، مات وصار يستحق النعي و الرثاء. اليسار اللبناني مات. فقد غاب حزب اليسار، الحزب الشيوعي، عن الانتخابات في معظم الدوائر، وانكفأ وتوارى عن الأنظار وتخفّى وراء فضيحة الخجل من تاريخه الريادي الفاعل في كل الانتخابات النيابية منذ الاستقلال، أما في الدوائر القليلة التي ترشح فيها شيوعيون أو متحدرون من صفوف الحزب الشيوعي فكانت فضائح من نوع آخر.فقد نال أحد مرشحي الحزب الشيوعي اللبناني في هذه الدورة 1,700 صوت بعد أن كان قد نال في الدائرة ذاتها أكثر من 17 ألف صوت في دورة سابقة؛ وكان قراره بالمقاطعة في دائرة انتخابية، أو بالعزوف عن المشاركة في دائرة أخرى، أو ترك الأمر للقيادة المحلية ولتقدير كل حزبي بمفرده في ثالثة، تعبيرا عن استقالة القيادة من عملها القيادي وإقالة الحزب من العمل السياسي، استقالة وإقالة لن يكون لهما من معنى غير إلغاء دور الحزب ومحو تاريخه.

المتحدرون من أصل شيوعي لم تكن حالهم في الانتخابات أفضل من حال سواهم: "حركة الإنقاذ في الحزب الشيوعي اللبناني" أصدرت بيانا "منتحلا" على طريقة بيانات حزب البعث الانقلابية والبيان رقم واحد، ضد مرشحها وتبنت سواه، و"حركة اليسار الديموقراطي" بدت عارية من أي تأثير غير حظوة تمتعت بها لدى صانعي اللوائح، وحظوة أخرى ظلت محصورة ومحدودة في البيئات المحلية لبعض رموزها، واليساريون المنفردون بدوا مقطوعين من شجرة تاريخهم الناصع، موزعين على أحزاب طوائفهم، ملتحقين بالجبهات المذهبية، فمنهم من ناصر "حزب الله" و"حركة أمل" ومنهم من ناصر "الاشتراكي" و"القوات" و"التيار الوطني" ومنهم من صار في عداد "تيار المستقبل"، ومنهم من انتظروا وما بدلوا تبديلا... ومنهم من انطوى على نفسه وأقام على ضفاف الحزب الذي أخذ مجراه يجف، ولم يبقَ فيه من عماله إلا العاطلون عن العمل، ومن مثقفيه إلا الذين يكتفون بكسرة معفنة من مآدب الماركسية والأدب الثوري. والحقيقة أن اليسار حاجة ماسة لإعادة بناء الوطن والدولة. لكن ليس بهذا اليسار المشتت يمكن أن نجمع شتات الوطن الممزق بين الطوائف والمذاهب. لعل تجربة الانتخابات البائسة تكون حافزا لليساريين كي يبادروا إلى إنجاز قراءة نقدية تفسح في المجال أمامهم للبحث عن صيغة جديدة ليسار موحد، ليسار جديد. ومن غير إعادة تأهيل اليسار، يستحيل الكلام عن إعادة تأهيل حركة التنوير العلمانية.

إن إعادة الاعتبار للحركة اليسارية والعلمانية هي، في جانب منها، مهمة الحركة اليسارية بالذات قبل سواها، لكنها في جانب آخر، مهمة ذات طابع وطني، لأن الحركة الإصلاحية وإن اتخذت طابعا حزبيا، تؤثر وتتأثر بمناخ الإصلاح السياسي العام في البلاد، الذي ينبغي أن يبدأ من المجلس النيابي الجديد، وذلك بسن قانون للانتخاب يضمن التمثيل الصحيح للبنانيين ويبعدهم عن هذه الاصطفافات الطائفية والمذهبية، قانون يعتمد النسبية والدائرة الواحدة ويحافظ على القيد الطائفي (حتى لا تطغى أكثرية مذهبية حتى في ظل قانون النسبية، على طوائف أو مذاهب أخرى)، ويؤسس لتقاليد سياسية جديدة تبني دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص، وتقيم دولة السيادة والحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.

* (أستاذ في الجامعة اللبنانية)

تعليقات: