هيفاء وهبي في مشهد من «دكان شحاته» لخالد يوسف
لا يريد بعض العرب تطوير أدوات تعبيره ووعيه المعرفي وتواصله السليم مع الآخر، لأنه مرتاح إلى قناعاته المنغلقة، ومنساق إلى متاهة الظلام برضى عامر. لا يواكب تحوّلات العصر وتحدّياته الجمّة، لأنه منشغل بمطاردة الساحرات اللواتي أثبتن أن مطاردتهنّ تأكيدٌ إضافيٌ على نصاعة الحرية والتزامها نمطاً حياتياً، وإثباتٌ على جمال الاختلاف والتصدّي لمشاريع الموت، وتنبيهٌ على أن مقارعة الأمية والظلامية قدرٌ لا فرار منه، وإصرارٌ على الاشتغال الطويل الأمد من أجل الانتصار على جهالة القرون الوسطى. لا يسعى إلى الانفتاح الإبداعي الجدّي، لأن انفتاحاً كهذا ضربة قاضية له، تلغي وجوده وتضيّق عليه عزلة الفراغ الذي اعتاد المكوث فيه وإن لم ينتبه إليه. لا يرغب في تحرير العقل من الأمّية، وفي تحديث النفس بإخراجها من صرامة تقاليد بالية خرّبت البيئة والمجتمع والناس، لأنه إن فعل هذا كلّه يفقد القدرة على إحكام قبضته على الجميع، مانعاً عليهم الخروج من التقوقع والرجعية.
الإقامة في الفقر
همّه الوحيد: شنّ حملات شعواء ضد أناس اختلفوا بالرأي معه، ومنهم أولئك الذين اختاروا العمل الفني تعبيراً عن موقف أو حالة، أو اعتمدوه مهنة كبقية المهن. أسلوبه الوحيد: التشهير، ظنّاً منه أنه يفضي إلى تدجين هؤلاء الخارجين على «الصراط المستقيم»، علماً أن بعض هؤلاء يقع في الفخّ أحياناً، بعودته، للأسف، إلى هذا «الصراط المستقيم»(!). حجّته الوحيدة: ممارسةُ إغراء على الشاشة الكبيرة، بصرف النظر عن ماهية هذا الإغراء وموقعه في السياق وحجمه الدرامي والجمالي؛ أو تفوّهٌ بكلام يُفسِّره هذا البعض بأنه تطاول على مقام مقدّس، أو إساءة إلى نصّ لا غبار عليه، أو اعتداء على طقوس غيبية.
ذلك أن المتمسّكين بقواعد أخلاقية معلّبة «يخشون» على المجتمع من انحراف يُسبّبه الفن كما يظنّون، متناسين أن ممارساتهم هذه، وممارسات آخرين في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والإعلام والعلاقات اليومية، لا تقلّ انحرافاً عن ارتكاباتهم، ولا تختلف عن سياسات التضليل المطبَّقة على ملايين المُجبرين على الإقامة في الفقر والحصار والخوف والتمزّق. ومُدّعو طهارة وأخلاق حميدة يفرضون على الجميع الانخراط في قطيع واحد، والانصياع إلى سلطتهم، وإلاّ فالحرم فظيع، والحملات قاسية، والانتقاص من القيم الإنسانية والأخلاقية والانفعالية والثقافية للخارجين على سطوتهم وسيلة لإلغائهم من الوجود، كما يعتقدون. والمأزق الأكبر كامنٌ في أن هذا البعض لا ينحصر في مؤسّسة دينية أو أخلاقية متزمّتة فقط، إذ إن هناك من يساهم في تشويه الصورة بانقضاضه على فنان أو فنانة، متّهماً إياه بخروجه على «الإطار الإبداعي» (الكليشيه الثابت) الذي اشتهر به، مثلاً. فهؤلاء المنصاعون إلى عادة بليدة، يُقاومون التغيير ويرفضونه لهم وللآخرين، لأنه يُصيبهم في بلادتهم ويحثّهم على تبديل سلوكهم وانفعالاتهم، فيهتاجون ضد أي جديد يرونه صفعة مؤذية لهم. إنهم متساوون ورجال مؤسّسات دينية وأخلاقية واجتماعية متزمّتة في لعبة التفريغ القاتل للإبداع من حيويته المُصابة، أصلاً، بألف وباء وخيبة.
هاجموا هيفاء وهبي وخالد يوسف معتبرين فيلمهما «دكان شحاته» فساداً أخلاقياً وتطاولاً على دين ومقدّسات. وما لبثوا أن انقلبوا على منى زكي، عند «مشاهدتهم» (هل شاهدوا فعلاً؟) مقتطفات من فيلمها الأخير «إحكي يا شهرزاد» ليسري نصرالله، لأنها قدّمت (كما رأوا وقالوا وأحسّوا) «مشاهد ساخنة» لا تليق بمكانتها في قلوب محبّيها وفي السياق التاريخي الذي وضعت نفسها فيه سابقاً. تغاضوا عن الجانب الفني في ذات الفنان/ الفنانة، لأنهم لا يفقهون من الفن شيئاً إن لم يرفضوه، مكتفين برتابة الشخصية الواحدة التي اعتادوا مشاهدتها عبر الفنان/ الفنانة، ومتغاضين عن أن التمثيل مفتوح (بل يجب أن يكون مفتوحاً) على الشخصيات والانفعالات والتجارب كلّها، وإن تناقضت هذه الشخصيات والانفعالات والتجارب بعضها مع البعض الآخر، إذ إن براعة الأداء كامنةٌ في قدرة الممثل على التنويع، وعلى الإبداع في تنويعاته هذه، لا في الانعزال في أداء واحد ودور واحد لا يحيد عنهما إطلاقاً، وإن برع فيهما. ألم يُشكّل أحمد زكي أفضل مثال على التنويع الأدائي البديع لشخصيات متناقضة ومتصادمة، لأنه أتقن المعنى الأصلي للتمثيل، و«رضخ» لمشيئته الإبداعية الجميلة؟
يُشاهدون ولا يقرأون
إذا هاجم هؤلاء «دكان شحاته» إثر مشاهدته (!)، فإن «ليالي شهرزاد» تعرّض لهجوم مماثل قبيل إطلاق عروضه التجارية، لأن مهاجميه اكتفوا بالسماع إلى تعليقات متأتية من هنا وهناك، أو بمشاهدة لقطات خاصّة بالحملة الترويجية. فهم لا يُشاهدون ولا يقرأون، بل يكتفون بنتف تأتيهم من كل حدب وصوب؛ ولا يدقّقون أو يستفسرون أو يتابعون، بل يبنون حملاتهم العنفية ضد الحياة والفن والجمال على أقاويل وتسريبات وتحريض، بصرف النظر عن المستوى الإبداعي للنتاج الفني، لأن النتاج الفني بحدّ ذاته هدف لحروبهم. وهذا تزمّت وعصبيّة ضيّقة، لأنهم يعتبرون أنفسهم قيّمين على «حماية الأخلاق وتحصين المجتمع من فساد الفن»، ولتحلّ ألف لعنة على كل إبداع، مهما كان مستواه الجمالي والدرامي. بل إنهم، بحملاتهم هذه، يعملون على تدمير الفن، ويسعون إلى التصفية المعنوية للفنانين، لأنهم مقتنعون بأن الفنّ حرام، أُرسلوا هم إلى الأرض لمحاربته والقضاء على صانعيه.
تعليقات: