شهد المطار تضاعف عدد الزوار في شهر ايار
«غطّ الحمام، طار الحمام»، والحمام في الرواية يعني المغتربين اللبنانيين الذين توافدوا أسراباً إلى بيروت للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 7 حزيران الماضي. عودة الحمام هذه تميزت بكثافة لافتة، ترافقت مع «شائعات» و«اتهامات» متبادلة بشراء أصوات ودفع ثمن تذاكر المغتربين وتكاليف إقامتهم بالفنادق وتأمين حتى تنقلاتهم بالسيارات المستأجرة للاستفادة من أصواتهم
كان من السهل معرفة اللبنانيين بين مغادري مطار بيروت، بعيد ظهور نتائج الانتخابات النيابية. فالمغتربون الذين قدموا للمشاركة بتحديد مصير «الوطن»، غادروه بأصابع كحلية بعيد ظهور نتائج، شارك أكثرهم بتحديدها ببطاقات سفر انتخابية مدفوعة سلفاً.
والمغتربون الذين لم ينصفهم القانون الانتخابي في دورة عام 2009، تولى السياسيون حضّهم على المشاركة في هذا الحدث «التاريخي والمصيري»، ولا سيما أنّ الإحصاءات التي نشرت قبيل الانتخابات أظهرت أهمية مشاركتهم مثل «بيضة قبان» من شأنها قلب كل المعادلات التي قد تحددها صناديق المقترعين المقيمين.
وخلال مغادرتهم المطار عائدين إلى بلدان الاغتراب التي جاؤوا منها، وبعضهم للمرة الأولى منذ سنوات، تمكنت «الأخبار» من لقاء بعض هؤلاء ، ممن لم يجدوا حرجاً في التحدث والكلام عن تجربتهم الانتخابية الأخيرة، شرط عدم ذكر الأسماء، بالطبع.
هكذا، قال لنا جمال إنه كان سيزور لبنان بعد شهرين لحضور زفاف أخته ليا. إلا أنّه رأى في العرض الذي تلقاه من الحزب التقدمي الاشتراكي مناسبة ليرى عائلته ورفاقه و«الضيعة» التي غادرها منذ زمن. يقول جمال: «بعدين ليه ما بدّي روح؟ تذكرة سفر ببلاش. والله ما في متل انقال كذب: قللو شو أطيب من العسل؟ جاوبو الخلّ ببلاش».
ويروي جمال كيفية دعوته إلى لبنان قبل خمسة أيام فقط من الانتخابات. ويتذكر أن الهاتف رن في التاسعة صباحاً في شقته في دبي حيث يعمل وأقرانه من اللبنانيين. يحاول جمال الاستفسار عن اسم المتصل، فتأتيه الإجابة «نحن من قبل الحزب التقدمي الاشتراكي». ثم يسأله المتصل «انت من ضيعة العزونية في جبل لبنان، مش هيك؟ عبالك تنزل على لبنان تصوّت وتقعد خمسة أيام وتشوف أهلك؟» . ظنّ جمال للوهلة الأولى أنه كان يحلم، «هلق بلا مزح ، بعدني أنجق فايق، ما تسلبوها عليّ»، قال لمحدثه على الهاتف، لكن المتصل أصرّ «بدك تنزل عبيروت، قوم حضّر اغراضك، واعطِ خبر للشركة يلّي عم تشتغل فيها، ما في كثير وقت».
وعما إذا تلقى أحد زملائه الذين يعيشون معه في الشقة العرض نفسه، قال: «رفيقي من بلدة بيصور، اتصل به أحد أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي، ودعاه للمجيء والمشاركة في الانتخابات فوافق على الفور، ولا سيّما أنّ أوضاع سلام المادية لم تسمح له بزيارة أهله هذا العام، فجاءته بطاقة السفر على طبق من فضة».
لبناني آخر من بلدة عينطورة في المتن الشمالي جاء من ألمانيا، بدعوة من التيار الوطني الحر، ليمارس حقه الانتخابي، فاقترع للائحة تكتل التغيير والإصلاح «متل ما هيّي»، على حد تعبيره.
أمّا سامي من صيدا، فقد تكفّل حزب الله بدفع تكلفة نفقات سفره من الولايات المتحدة ليأتي إلى لبنان للمشاركة في الانتخابات. فسامي رغم كونه من الطائفة السنية، إلا أنّه يحسب على خط المعارضة على حد تعبيره، وهو يعتبر «أنّ أسامة سعد هو المرشح الأكفأ لتمثيل الرأي الصيداوي العربي والمقاوم في البرلمان».
يزيد بدوره أتى على «أجنحة» تيار المستقبل، لكنه أسرّ لنا أنه صوّت ضده في دائرة المنية ـــــ الضنية. أما السبب؟ فهو كما يشرح «ضميري دفعني لاختيار لائحة المعارضة. مع أن مسؤولين في تيار المستقبل أعطوني تذكرة سفر إلى لبنان مقابل التصويت لمصلحتهم، فوافقت على الفور. ومع أن عائلتي بكاملها اقترعت لمصلحة مرشحي 14 آذار، اخترت المعارضة». لكن لماذا هذا «الشذوذ» عن القاعدة والاقتراع عكس رغبة عائلته؟ يجيب الرجل «حاول تيار المستقبل شد عصب السنة وتصوير المعركة الانتخابية على أنها تهدد وجودنا، فإذا الشيعة ربحوا الانتخابات رح ياكلو لبنان. فيجب على السنّة أن يتوحدوا في وجه الشيعة. المشكلة أن عائلتي أثر فيها هذا الموضوع بشكل كبير، فالدين عندها قبل الوطن، أمّا أنا فلا تزال مناعتي الوطنية قوية».
الصراحة التي تكلم بها يزيد، تميّز بها عن العديد من المغتربين ممن سألناهم من أبناء مذهبه. فقد حاول مناصرو تيار المستقبل الذين ينحدر القسم الأكبر منهم من بيروت وصيدا، تجنب الحديث عمّن قام بدفع بطاقات سفرهم، فكان أكثرهم يجيب «رددنا على 7 أيار بصناديق الاقتراع».
غيّر أنّ قسماً لا يستهان به من المغتربين، نفى تلقيه تذاكر مجانية. وقال علي، ابن الجنوب، وهو من أنصار حزب الله، «لقد حضرت على نفقتي الخاصة من إيطاليا، لأنني أعتقد أن هذا الأمر مهمة وطنية. إني مع خيار المقاومة ، أحب الحياة؟ لا شك. لكن بكرامة».
لكن علي لم يستغرب «ظاهرة شراء الأصوات»، فالأمر بنظره طبيعي ولا يقتصر على لبنان فقط. «نحن نعيش في إيطاليا، الأمر موجود بكثرة في جنوب البلاد، فمقابل 100 يورو لا يتورع بعض الناخبين الإيطاليين عن بيع أصواتهم لأي شاري. وهو أمر يتقنه رئيس الوزراء الإيطالي سليفيو برلوسكوني».
جورج ابن بلدة كفرمتى في الجبل يعيش في إسبانيا منذ فترة طويلة، لكنه هذا العام قرر المجيء إلى لبنان «لممارسة حقي الديموقراطي». ويؤكد جورج المقرب من القوات اللبنانية، أنه جاء على نفقته الخاصة. وانتخب في بلدته التي لا يزال مسيحيوها مهجرين، في الأكواخ التي وضعتها وزارة الداخلية والبلديات للناخبين المسيحيين على أنقاض الكنيسة التي دمرتها الحرب الأهلية اللبنانية بين المسيحيين والدروز. يضيف جورج «طوينا صفحة الحرب، نتطلع الآن إلى بناء الدولة، ومن هنا كان تصويتنا لمصلحة 14 آذار، التي أسهمت في رجوع عدد كبير من أبناء كفرمتى، وسلّمت المهجرين أول دفعة بقيمة 10 آلاف دولار، ونحن بصدد الحصول على الدفعة الثانية من الوزارة»!
ورغم أنّ الافرقاء السياسيين كافة اشتركوا في مسألة استقدام المغتربين من بلدان العالم، أجنبية وعربية على حد سواء، إلا أنّه كان لافتاً أن الطائرات التي شكل جمهور «زي ما هيّي» غالبية ركابها، كانت وجهتها دبي والرياض وجدة بشكل خاص. حيث يعمل العديد من هؤلاء في شركات تابعة لآل الحريري، أو مقربة منها، وخصوصاً شركة «أوجيه السعودية».
في المقابل، تركز نشاط حزب الله وأحزاب المعارضة على اللبنانيين من دول القارة الأفريقية ودول عربية. لكن يؤخذ على المعارضة عدم تنبهها إلى قدرة المغتربين الفعلية في قلب الدفة، فكانت جهودها في دول الاغتراب متواضعة إلى حد بعيد، كما قال مغتربون، قياساً لما قام به فريق الموالاة الذي واكب هؤلاء منذ فترة طويلة، وإرساله فرق عمل خاصة إلى الخارج لتنظيم عودتهم. فنجحت أحزاب «ثورة الأرز» في شهر سلاح المغتربين في الوقت المناسب بوجه المعارضة التي تعاطت مع إدارة العملية الانتخابية بطريقة متراخية، فكانت صدمة منتصف ليل 8 حزيران الماضي مع تكشف أرقام فرز صناديق الاقتراع، فجاءت رياح المغتربين اللبنانيين بعكس ما اشتهت سفن المعارضة.
مغتربون أرقام وتذاكر
نظرة سريعة إلى أرقام وزارة السياحة في نشرتها الشهرية، توضح أنّ عدد الزوار في شهر أيار بلغ 135306، وسط معطيات تشير إلى أن عدد «المقترعين» بينهم يقارب مئة ألف ناخب. كذلك سجّل تقدم في عدد الوافدين من الدول العربية تحديداً بنسبة 120%، حيث بلغ عددهم 50208 زائرين في أيار 2009، فيما كان عددهم في أيار من العام الماضي 22735 زائراً.
غير أنّ هذه المشاركة ما كانت لتتم بهذه الكثافة لولا «مساهمة» بعض الدول، وتحديداً السعودية وإيران، حسب زعم تقارير صحافية اتهمتهما بشراء أصوات المغتربين لدعم حلفائهما السياسيين في لبنان. هكذا، كانت التذاكر المجانية، بمثابة طعم رمي لإغراء المغترب، ولا سيما الغائب منذ زمن طويل، الذي وجد فرصة للعودة إلى ذويه مجاناً، ولو ليوم واحد مقابل «مجرد» إسقاط لائحة ما في صندوق الاقتراع. وقال بعض المغتربين إن العروض التي تلقّوها شملت أحياناً، وخاصة رجال الأعمال منهم، توفير سيارة وغرف بالفنادق لمن لم تعد لهم عائلات هنا يمكن أن ينزلوا عندها.
تعليقات: