جانب من معتقل الخيام
وهنا تبدأ رحلة جديدة مع اشخاص نتعرف عليهم!
وتبدأ مواجهة أخرى ومن نوع آخر وهي مع السجّان والزمن وعشق الوطن والحرية وحب الأهل والأصدقاء والأهم من ذلك هو اللقاء مع معتقلين آخرين من غير عقيدة ومذهب ونهج.
فعلينا أن نكون السفير لهم، فالأسر لا يخيف المجاهدين الطالبين للشهادة إنما يخيف أصحاب النفوس الضعيفة، فاننا وفي داخل الزنزانة، بينما التعذيب قائم، يجب أن نكون في قمة المواجهة مع عدونا كيف لا ونحن واجهناه في المواقع الأمامية المتقدمة ودمرنا حصونه وقلاعه واجبرناه على التراجع من أرضنا فكان شعارنا امّا النصر أو الشهادة!
كانوا يضعونا في الغرفة من عدة طوائف ومذاهب واحزاب سياسية محاولين بذلك اشعال نار الفتنة بيننا ولكن هذا الامر كان يواجه بوعي كامل من الجميع فكانت الكلمة موحّدة والرأي واحد والايدي متشابكة لمواجهة الظروف الصعبة التي نمر بها...
امّا الاستحمام فكان نادرا"جدا" وقد يمر علينا اشهر دون استحمام وعندما يسمحوا لنا بذلك نستقبل بالضرب ونودع بالضرب.
وكان معنا من الوقت ثلاث دقائق للاستحمام ومن يتأخر يلقى ما يلقاه من التنكيل بعد ان يسحب من تحت المياه والصابون مازال على جسمه وكان اذا دخل احد السجانين المعتقل علينا ان نقف كلنا والوجوه جميعها متّجهة نحو الحائط وفي كثير من الاحيان نكون مرفوعي الايدي ونبقى على ذلك لساعات طوال.
كان ممنوع علينا القيام بواجباتنا الدينية من صلاة ودعاء واذا ظبط احدنا في حالة الصلاة كنا نسحب من الغرفة ويشبعوننا ضربا لمنعنا من ذلك.
أما في ايام شهر رمضان المبارك، اذا عرفوا باحدنا انه صائم يخرجوه من الغرفة ويفتحوا فاهه بالقوة ويضعوا الماء او بعض فضلات الطعام ليجبروه على فك صيامه.
كنا لانرى الشمس الا كل شهر مرة ولفترة خمسة دقائق حتى ممنوع التكلم مع بعض او السلام او حتى الابتسامة التي ترتسم على شفاهنا تلقائيا عند رؤية الاخوة المعتقلين، واذكر في احدى المرات بعد خروجنا الى باحة الشمس الصغيرة لاتكاد تقوم بجولة الا وتكون قد انهيتها ثم عودتنا سريعا" كالعادة الى الغرف.
ففي إحدى المرات قام احد المعتقلين بلفظ كلمات لم يسمعها السجان جيداً بل سمعه يهمس فصاح به ماذا تقول اسمعني؟
فقال له الأخ السجين بانه لم يحمى رأسنا من الشمس بعد (أي أننا لم ننل وقتاً كافياً في الشمس).
فردّ عليه السجان غاضبا" انا سوف احميه لك فنزل وانهال عليه بالضرب وركّز على منطقة الرأس ثم قال له هل حمي رأسك او بعد فما كان من صاحبنا الا ان يرضى بنصيبه بالحمّاية الحديثة ويذهب الى غرفته.
كانت وجبة الفطور في الصباح عبارة عن قطعتين من الخبز ( التوست) الذي يكون غالبا" قد اصابه العفن وخمسة حبات من الزيتون او ملعقة مربى وتمرّ ايام بلا وجبات فطور وفي احدى الايام كانت وجبتنا على الفطور قطعة فليفلة خضراء ولا ابالغ بذلك امّا الغداء فكان بالاضافة الى قطعتي الخبز صحن واحد من اليخنة المسلوقة وما ادراك ما هي من دون توابل والسوس بداخله والعفنة والحشرات فيها حدث ولا حرج وهذه الكمية كانت لخمسة اشخاص فقط اما وجبة العشاء فكانت حبة بطاطا او بيضة مسلوقة
تمر علينا ايام وهي عند اليهود تكون صيام وماذا ياكلون فيه ! ماء الجزر وبعض الخبز المحمص تشبه الواح الصفائح المعدنية على مصغّر ونحن مجبرون بان نأكل اكلهم افضل من العدم وتستمر لفترة شهر..
كانوا يدخلون الطعام من تحت الباب على قسيمة من النيلون ويسمح لنفسه السجان قبل ذلك بالدوس عليهم ورفسهم برجله ويبقى ما بقي ليكون من نصيبنا ونبادر الى اكله بالملاعق المصنوعة محلّيا (كرتونية اوبلاستيكية).
واما المياه فكانت الكمية قليلة جدا بمعدل ابريق من البلاستك للغرفة على الوجبة الواحدة وهو للشرب ولغسل اليدين ولمسح الاواني البلاستيكية وتمر ايام ولم يحضروا المياه وفي بعض الاحيان في فصل الشتاء نضع بعض الاكياس من النيلون او اكواب مصنوعة من الكرتون تحت نقاط المياه التي تتقاطر علينا من السقف وننتظر لكي تترسب من الرواسب والباقي نوزعه علينا بالتساوي.
وفي اغلب الاحيان يبادرون الى قطع التيار الكهربائي عناّ فنعيش الاوقات على الظلمة
كنا من كافة الشرائح الاجتماعية مناّ علماء الدين والاطباء والمعلمين والمهندسين والطلاب والموظفين وعسكريين من الجيش اللبناني وقوى الامن الداخلي وفلاحين وعمال واصحاب المصالح ولا تقتصر مبررات الاعتقال على الجانب الامني المرتبط بنشاط المقاومة، بل تتعداها الى كل ما من شأنه اتخاذ موقف مضاد لما هو سائد في منطقة الشريط المحتل.
كانوا يعطون لكل منال رقم واذا نادى السجان بالاسم لا يجب علينا الرد الا اذا نادى بالرقم.. ونرد عليه بكلمة افندم ويجري احدهم بعض الامتحانات علينا فيبادر الى المنادات بالاسماء والويل ثم الويل اذا ردّ احدنا باسمه.
وذات مرة حضر احد السجانين الحاقدين ليأخذ الاسما واذا باحد المعتقلين طاعن بالسن يقوم بقضاء حاجته على الدلو ولماذا لم يقم ويرد عليه اخرجه من الغرفة وانهال عليه بالضرب حتى كاد ان يكسر اضلاعه.
ومنّا من تكسرت ايديه وارجله وهذه حادثة من احداث كثيرة مرت دون رقيب ولا محاسب
واذا فتح باب الغرفة ولم يقم احدنا ناوله برزمة مفاتيح الغرف او القفل ليفج رأسه.
ولا يخلو الامر من سقوط بعض الشهداء نتيجة المعانات فقد سقط منا عشرة شهداء داخل المعتقل.
وسقط آخرون بعد الافراج نتيجة معاناتهم من التعذيب والاضطهاد واذكر الاسماء للذكرى:
-1- صبحي علي شكر من بلدة الريحان سقط في سنة 1984 تحت التعذيب
-2- ذكريا محمد علي نظر من بلدة عرب صاليم سقط في سنة 1985 شنق
-3- علي عبدالله حمزة من بلدة الجميجمة سقط سنة 1986 تعليق على العامود
-4- ابراهيم محمد فرحات من بلدة كفرمان سقط سنة 1986 تحت التعذيب
-5- احمد فضل الله ترمس من بلدة طلوسة سقط سنة 1986 تحت التعذيب
-6- حسين علي فياض محمود من بلدة حولا سقط سنة 1989 تعليق على العامود
-7- بلال كمال السلمان من بلدة مركبا سقط سنة 1989 قنبلة غازية
-8- ابراهيم محمد ابو عزة من بلدة بنت جبيل سقط سنة 1989 قنبلة غازية
-9- اسعد نمر بزي من بلدة بنت جبيل سقط سنة 1990 تحت التعذيب
-10- هيثم فؤاد دباجة من بلدة بنت جبيل سقط سنة 1995 تحت التعذيب
اما النظام الداخلي للغرف وهو مزاجي عند كل سجان ، علينا الاستيقاظ في الصباح الباكر ورفع الاغراض عن الارض وعلينا لبس البدلة الكحلية طيلة النهار وعند قدوم الليل الجميع عليه ان يضع الغطاء فوق رأسه والاّ ....
كنا نقضي النهار بين دردشة وحكايات واحداث مرت معنا ونقوم ببعض الاشغال اليدوية الميسرة من حبات الزيتون وبعض التعاليق من الخيطان وكانت شريطة ربطة الخبز وسيلتنا للخياطة واذا ظبط احدنا يعمل ذلك اخرجوه واشبعوه ضربا ولا ننسى في بعض الاحيان نخرج الى باحة الشمس ثم نعود لنرى غرفنا مداهمة وثيابنا اصبحت مبعثرة وممزوجة ببعضها اكوام اكوام وكل ذلك للتفتيش عن امور ممنوعة بحسب رأيهم (شريطة / ابرة / حبال / ولاعات ) وبحسب رأينا نمازح بعضنا بين الغرف فنقول وجدوا اسلحة صغيرة ومتوسطة واخر يقول وجدوا قاذف واخر يقول وجدوا صواريخ ، علاما يفتشون ومن اين يأتينا الممنوعات وكل الابواب مرصدة والطرق مقفلة؟
اذا اراد احدنا ان يتعلم فعليه بالكتابة اما بالصابون على الباب الحديدي او حف ورق السلوفان (سانيتا) مع المياه ليحصل على الحبر واما بالكتابة بالخيطان على الاقمشة او على قطع الكرتون.
كان ممنوع عنا الاخبار من جريدة او تلفاز او راديو او ان يقول احدهم شيء بل كانوا يقومون ببث روح الهزيمة والتفرقة بين صفوفنا وبث الأخبار الكاذبة والمنع من النشاطات العبادية وغير ذلك من الضغوطات التي مارسوها بحقنا كأسرى، باستثناء الاخبار التي يعتبرونها تحطم معنوياتنا كاستشهاد احد قادتنا اوالحروب التي يقوم بها العدوعلى شعبنا وبث اخبار انتصارهم على المقاومة ولم يعد هناك من يقاتل ولكن كانت هذه الاخبار تزيدنا عزم وارادة وكلما يأتي معتقل جديد نقوم باستجوابه عن الاخبار الحديثة وخاصة العمليات البطولية التي تقوم بها المقاومة وكنا نعرف اثرها من خلال تعامل السجانين معنا وقد علمنا باحداث هامة قد جرت من اخبار اندلاع حرب الخليج وضم الكويت الى العراق في سنة 1990 كما علمنا باتهاء الحرب الاهلية من خلال اتفاق الطائف في سنة ( 1992 ) واخبار اخرى محلية ودولية.
اما معاناتنا من عملاء الزنازين فهي اشد وطأة من السجّانين فهم معتقلون ولهم اعمال مقاومة ومرّوا بكافة مراحل القهر والتعذيب ولكنهم باعوا آخرتهم بدنياهم فغرتهم الدنيا وسقطوا رهائن غرائزهم واهوائهم وسقطوا تحت وطاة العمالة والذل فكانوا ينقلون اخبار المعتقلين الجدد الى الجلادين فيدينوا صاحبها ويورطوه وقد لبث شباب وشابات لسنوات طوال في المعتقل بسبب هؤلاء الحثالة من البشر.
واما الادوية فحدث ولا حرج فهي نوع واحد مسكن لكل الاوجاع ومنتهية الصلاحية واذا ساءت حالة احدنا يعطوننا حقنة من المياه ولذا لم تنفع معه كان نصيبه بالذهاب الى المستشفى وللاسف هناك عندما يروا احدنا لابسا" البدلة الكحلية ومعصّب العينين كانوا يستقبلونا بالترحاب مابين الشتائم والضرب ورمينا بالاوساخ.
واذا بالطبيب القاسم اليمين الانساني بمساعدة أي مريض مهما كانت حالته يستقبلنا بالكلمات اللاذعة والجارحة (ما بكم شي هيدا كلو دلع بتضحكوا على الشباب وبتعذبوهم وبيجيبوكم لهون؟)
فيضطر احدنا للعض على جرحه والسكوت على المه مهما كانت حالته لان كرامتنا لاتسمح بذلك..
ولا ننسى نصيب الاخوات المعتقلات اللواتي كان يمارس عليهن ابشع انواع التنكيل والتعذيب بالاضافة الى امور كثيرة كانت تمارس عليهن من التهديد بالاغتصاب وللاخوات المحجبات بالكشف عن رؤوسهن او تعريتهم او لمس اعضائهن ونعلم بان طبيعة الاخوات لاتتحمل التعذيب مثل الشباب وعندها خصوصية فيزيولوجية.
في احدى المرات قد احضروا اختا" لها علاقة بالمقاومة وقدكنت اعرفها سابقا" وليمارسوا الضغط عليّ اوقفوني خارج غرفة التحقيق وادخلوها وبدأو باهانتها وضربها للمحاولة بالاعتراف بانه يوجد بيننا علاقة مقاومة وعلى مسمعي وبمحاولتهم ذلك يريدون مني بان اطلب منهم ايقاف ذلك وبان اعترف بان لي علاقة معها ويدينوها بذلك ولكنهم لم يحصلوا على شيء... وقد اعتقلت مدة من الزمن وافرج عنها.
قابلت الاهل بعد مضي حوالي الستة اشهر من اعتقالي في غرفة و الجلادين والسجانين من حولنا. ظل والدي صامتا لا ينبس ببنت شفة تساءلت فلم يرد جوابا علمت بعد ذلك بانه قد تعرض للايقاف والاهانة وقد حصل معه نوبة عصبية من بعد توقيفنا.
استمرت المقابلة حوالي العشرة دقائق لم يتخللها سوى السلام والاطمئنان وانتهت بعودتي الى الزنزانة, وقد ارسلو عدة مرات ثياب وطعام ولكن اغلبهم كانت تسرق من قبل السجانين وما لبثت المقابلات أن انقطعت لثماني سنوات دون لقاء احد من الاهل والاقارب.
امتنعت عن رؤية اخي المعتقل طوال هذه الفترة وقد كنت اطلب عبر الجلادين رؤيته وفي اغلب الاحيان كانت الاجابة بالرفض وتمر سنين طويلة على ذلك الاّ اذا حظينا بفرصة ولو قليلة عندما نكون في بعض الاحيان في سجن واحد ننتظر فرصة الخروج الى باحة الشمس لكي يتسنى لنا ذلك ولكن تكون المدة قصيرة جدا.
كنا نقوم باضرابات عديدة نتيجة الاوضاع المجحفة والمزرية لاجل تحسين الطعام وزيادة الخروج الى الباحة المشمسة وتقصير المدة بين استحمام وآخر وبزيادة عدد السجاير للمدخّنين فكان المسموح لكل فرد مدخّن سيجارتين في اليوم الواحد ولنحصل على الشعلة نبقي على فتيل مجدول من المحارم بطريقة صحيحة والا لن نحصل عليها وبعض الاضرابات تستمر لفترة ثلاث ايام او اكثر فكانت لا تنتهي الا بعد الضرب المبرح لانهاء الاضراب والاعتصام.
وقد مارسو سياسة التجويع طيلة هذه الفترة ليكون المطلب الرئيسي فقط هو زيادة الطعام لذلك عندما كنا نقوم بالاضراب يزيدون الكمية قليلا وتستمر لاشهر قليلة ثم يعودون لينقصوا منها لانهم يعتبرون اذا حسّنوا الطعام سنقوم باضراب لتأمين وسائل اخرى مثلا ( / تلفاز / راديو /كتب / مجلات / دفاتر واقلام)...
لمحة عن الأسير المحرر علي خشيش
ألبوم صور جمعية الوفاء التعاونية لتأهيل أسرى المعتقلات الإسرائيلية
الحلقة الأولى: "يوم زجّي في معتقل الخيام"
الحلقة الثانية: "أيام التعذيب والمعاناة التي عشناها..."
الحلقة التالية: "الانتفاضة الكبيرة" بقلم الأسير المحرر علي خشيش
للملاحظات أو لمزيد من المعلومات 359121 /03 (الرقم الخاص لعلي خشيش)
تعليقات: