عود على بدء. في يوم مكافحة المخدرات من كل عام, يعود الحديث عن ذلك العالم المسموم الذي يصطاد الفئات الشابة الطامحة اليه هربا من الهم لتقع في هموم اكبر واشمل. في هذا العام استبق الحديث المناسبة, فمنذ اسابيع أوردت الصحف خبرا عن انتشار عبوات من خلاصة الحشيش cannabis)) تباع علنا" في الاسواق للمستهلك.
الخبر الذي مرّ مرور الكرام في الاعلام, أثار ضجة وسط المعنيين وتحديدا" الجمعيات الاهلية ومنها جمعية "جاد" .الجمعية رفعت الصرخة في وجه المعنيّين من رسميين وأصحاب المحال ومصلحة حماية المستهلك بعدما وجَدَتْ صدفةً احدى العاملات فيها عبوات بينما كانت تتسوّق في احدى المحال التجارية تعرضه عليها إحدى المروجات التابعين للشركة. المدير العام لوزارة الصحة استجاب للحال وألغى ترخيص الشركة المعنية بالاستيرا,فيما لم تعمد مصلحة حماية المستهلك الى سحب البضاعة من السوق بعد.
شبابنا سجين عالم المخدرات المظلم, معظم من يعلّق منهم به يقع في أيدي العناصر الأمنية حيث يمضي ليلة بعد أخرى في النظارة ولا يلبث ان يخرج ليعود الى عادته القديمة يرزح تحت نير المخدرات وعالمها المسموم.عالم يديره يتجار كبار ومروجون متمكنون قادرون على محاربة السلك الأمني وتحديدا" عناصر مكتب مكافحة المخدرات بشتى الوسائل الممكنة وصولاُ الى رشوة إداريين ومسؤولين كبار وابتزازهم وتهديدهم.هم لا يتورّعون عن تقويض المؤسسات والشركات المشرّعة والقانونيّة باقتحام مجال عملها ومنافستها حتى إفلاسها واقفالها.
القوى الامنية عبر المكتب تعيش التحدي بما أوتيت من امكانات وصلاحيات. وهي وان لم تات نتائجها المحققة "على مستوى الطموحات وما هو مطلوب" باعتراف رئيس المكتب العقيد عادل مشموشي, الا انه يمكن تنصنيفها ضمن المنجزات الهامة اذا ما قورنت بالامكانات المادية المتواضعة المتوافرة لدى المكتب كما الصلاحيات الممنوحة له والتي غالبا ما تحكمها المحسوبيات السياسية والعشائرية التي "تحول دون تأدية قيام عناصر المكتب بمهامهم على أكمل وجه".
من جهتها، تسعى الجمعيات الأهلية الى تحقيق الوقاية عبر توعية الشباب من خطر الانزلاق الى عالم المخدرات ومواكبة المتورطين منهم في الادمان مع اهليهم خلال رحلة العلاج,لكن جهود معظمها لا تحقق في معظمها المرتجى في ظل الدعم الرسمي المبتور من كل من وزارتي الصحة العامة والشؤون الاجتماعية والذي لا يتجاوز ثلث تكلفة العلاج.
الوعود لا تنقطع بزيادة المساهمة في تمويل هذه المؤسسات. اهل الاجتماع وعلم النفس يلقون اللوم على المجتمع المتساهل والسطحي كما على الاهل ونمط التربية الغربية ,فيما يزداد التعاطي عند الشباب وملحقاته من امراض جسدية ونفسية في بلد يعيش تردياً اقتصادياً ينعكس تردّياً في الاخلاق ومستوى العيش وتحكمه السياسة التي تتكفل بتغطية كل انواع المخالفات والمساوئ تحت عنوان الحفاظ على السلم الاهلي ومنع وقوع الفتنة.. وازاء هذا الواقع يبقى مصير الشباب الضائع في غياهب عالم المخدرات رهن الاوضاع السياسية التي تتسبب انقساماتها في تراجع الاستقرار فيه وتعزيز المحسوبيات وتفعيل عمل الضالعين في قضايا المخدرات واصحاب السوابق الذين يعمدون الى توسيع هامش تحركاتهم من دون حسيب ولا رقيب على حساب سلامة البلد وسلامة ابنائه.
بينما ينشغل مسؤولون في مكتب مكافحة المخدرات التابع لجهاز قوى الامن الداخلي باقناع أب بقاعيّ فقد ابنه اثناء ملاحقته من قبل العناصر الأمنية لتعاطيه وترويجه للمخدرات, بضرورة تغيير ثقافة زراعة المخدرات وتعاطي الحشيش, يصرّ الأب على المطالبة بقطعة سلاح كانت بحوزة ابنه عند اعتقاله قبل ان يموت متأثّراً بجراحه.
ويُناقش إنّه من دُعاة الاقلاع عن الزراعة والإتجار والترويج ثم يُناقض نفسه ليعترف بانه كان يزرع بالسابق من دون ان يتعاطى علماً انه كان ينتمي الى السلك ولمدة طويلة. المشهد ليس مركباً, اذ انه وقع فعلاً واثناء وجودنا في المكتب وهو يحمل في ما يحمل صورة عن تلك الذهنية التي يتعامل بها اولئك الذين هم على مقربة من عالم المخدرات.
هم لا يأبهون لأضرارها ومضارها خصوصا" وانها باتت عند معظمهم ثقافة عيش او باب رزق يعتاشون منه وان كان على حساب الناس وسلامة وابنائهم. وهم وان كان ما يقومون به عن جهل او تجاهل, فان ذلك لا ينفي مسؤولية الدولة التي تقع عليها مهمة الحد من هذه الآفة عبر محاسبة البائع والمروج ودعم المدمن لتحقيق خلاصه منها.
منذ فترة وضعت جمعية "جاد" شبيبة ضد المخدرات تحت المجهر قضية العبوات خلاصة الحشيش التي توزّع في السوق اللبنانية والموجودة في عدد من المحال التجارية تحت مسمّى منشط الحشيش ـ ماريجوانا للتوضيح والمعالجة والمحاسبة من قبل المعنيّين وقد أخذت وعداً بسحبها. لغاية اليوم لم ينفّذ الوعد, بل ان الشركة المعنية عمدت الى توظيف المزيد من الفتيات الجميلات لتوزيع هذه العبوات بطريقة عرضها مباشرة الى الزبون على مداخل العديد من المحال التجارية. وكانت الجمعية ارسلت الى المدير العام للصحة العامة مكتوباً عرضت فيه للقضية وتمنت عليه سحب الترخيص باستيراد هذا المشروب خصوصاً وان هذه العبوات ممنوعة في أغلب دول العالم. وللحال أصدر قراراً رقمه 708/2 بتاريخ 18 أيار 2009 الغى بموجبه ترخيص الشركة المعنية باستيراد مشروب طاقة لتضمنه مادة (cannabis) المصوّرة على اللصاقة خلافاً للترخيص الذي أُعطيَ لها بناء" على ملف ونتائج تحاليل تنفي وجود هذه المادة. ولا تزال "جاد" تنتظر ردّ جمعية حماية المستهلك التي تعطي الحجّة بعد الأخرى لجهة عدم سحب المشروب من الأسواق.
ولمناسبة اليوم العالمي لمكافحة المخدرات يوضح رئيس جمعيّة "جاد" جوزيف حواط انها ستنظم حملة تطلق خلالها برنامجاً يستمر لخمس سنوات لاجراء حملات توعية مستمرة واشراك المجتمع وجلب الأموال لغير القادرين على دفع تكاليف التأهيل. وتركز الجمعية التي لطالما عُنيت بالتوعية الوقائية والتدريب والتأهيل,على التوعية الوقائية نظرا" الى تكلفة التأهيل العالية وذلك وفقا" لبرامج مثل محاضرات توعية من أخطار المخدرات ودورات تدريب لتوعية الشباب والأهل والأطفال في المدارس والجامعات بشكل مستمر وإطلاق مناشير وصور وكتيبات خاصة بالمخدرات.
"تجمُّع أم النور"
الى جانب التوعية من باب الوقاية التي تتولاها جمعيات عديدة, تمتاز بعض الجمعيات بتجاوزها هذا الاطار الى حدود التاهيل والمتابعة والعلاج حتى تحقيق الشفاء والاندماج الاجتماعي للمدمن. وتشكل جمعية "تجمُّع أم النور" النموذج الامثل والابرز في هذا الاطار وتحديدا" في مجالي تأهيل المدمنين وتطوير البرامج الوقائية. وقد ساهمت برعاية أكثر من 3500 منهم حتى اليوم على تخطي مشكلتهم والعودة الى الانخراط في المجتمع.
التجمع الذي يتزامن عيده العشرون ويوم مكافحة المخدرات لهذا العام, سيطلق للمناسبة حملة اعلانية تحت شعار "خلّي عينك ع اولادك" تطال فئتي الأهل والشباب, كما سيصدر مجلة تضم ملخّصا" عن السنوات العشرين وعدداً خاصاً من شهادات حياة لكل سنة وتقريرا" عن النشاطات لعام 2008. هذا ويركّز التجمّع في حملته لهذا العام على الأهل بعدما لاحظ نوعا" من عدم الاعتبار للدور الملقى على عاتقهم وعدم أخذه بالجدية اللازمة والمطلوبة, وذلك عبر لوحات اعلانية ينشرها في الصحف والطرقات من جبيل حتى وسط المدينة موجّهة اليهم مع سبوت على التلفزيون والراديو لمدة 30 ثانية. أما للشباب فسيتم تقديم مواد وقائية جديدة بطريقة ذكية تطال الشريحة التي ترتاد الملاهي الليلية والمقاهي والمطاعم وتشمل هذه المواد عمّا يسمى"Sous verre Sous plat" وتحتوي على بعض الافكار التي تصل الى قارئها بطريقة فكاهية محبّبة من دون أن تكلفه جهدا كبيرا.
التوعية..وقاية
وتستهدف دائرة الوقاية في مركز التوعية التابع للتجمع فئة الشبيبة لتوعية المجتمع الى دوره في الوقاية وتوعية الشباب على مشكلة المخدرات والادمان من خلال لقاءات حوارية، نقاش بوسائل سمعية وبصرية تحاكيهم على مستواهم لتوصيل الرسالة بطريقة سهلة وقريبة منهم. وتفيد المسؤولة في برنامج التوعية ميراي ابي شهلا ان في هذا المجال يتم اعتماد برامج عدة أبرزها برنامج تدعيم وتنمية القدرات عبر تدريب الكوادر في المجتمع المحلي وخصوصا" تدريب الأساتذة في المدارس للعمل مع التلاميذ على تنمية قدراتهم والتعبير عن مشاعرهم والتواصل مع الآخر, بالاضافة الى تدريب جماعات داخل المدارس لـ"التعلم من الأقران" او "الوقاية عبر الأقران". ويلي مرحلة الوقاية التأهيل الذي يتم عبر ثلاثة مراكز هي: مركز الاستقبال والتأهيل والمتابعة. ففي الاول وبعد تنسيقه مع الأهل من خلال الـHOTLINE يتم الاصغاء الى المدمن والمتابعة الفردية له ومن ثم يتم تحويله الى مستشفى السان شارل او دير الصليب حيث يخضع للـ "فطام الجسدي" من أسبوع الى عشرة ايام بهدف تنظيف جسمه من السموم.
بعد هذه المرحلة ينقل المدمن الى مركز التأهيل حيث يُمضي من 12 الى15 شهرا يتدرّج خلالها من "نزيل" الى "مرافق" ومن ثم "رئيس وحدة" ومن بعدها "مشرف". ولا يكتفي التجمع بالتأهيل في المركز اذ انه يعمد الى متابعة المدمن ليندمج والمجتمع من خلال مركز المتابعة. ويتولّى هذا الاخير دعمه لإعادة انخراطه لمنع انتكاسته من خلال لقاءات جماعية تمتد لحدود السنتين يأتي خلالها الى المركز ثم يذهب, كما ويتخلّل مرحلة التأهيل برنامج لمساندة أهالي المدمنين وتبادل الخبرات في ما بينهم.
هروب ..نحو الخطأ
تغتني المجتمعات بكم من المشاكل الاقتصادية والعائلية والعاطفية التي تنهشها تحت عناوين الفقر والتفكك الأسري والصدمات العاطفية, وغالباً من يرزَح تحت نيرها أصحاب القابلية والبنية البيولوجية الحسّاسة الذين يلجأون الى الهروب من الواقع عبر معشر سيء يجرّهم الى عالم المخدرات المظلم والخادع. وترى العالمة النفسية سيلين أبي نادر ان مزيج الاطار الاجتماعي والنفسي والبيولوجي يساهم في وقوع المشكلة عند الفرد فيتحوّل الى مدمن بتأثير من جو العشرة السيء (Peer Pressure) أو بلجوئه الى معالجته لنفسه (Auto-medication) وتناول الأدوية المهدئة من دون الرجوع الى متخصصين. وتُوضح ان "العلاج يختلف من مدمن الى آخر باختلاف السلوكيات التي تتمثل بانقلابات مزاجية وكآبة ربما تصل بالبعض الى الانتحار. وتتأثر حدة هذه السلوكيات بطبيعة المادة التي يتعاطاها وكميّتها ما يجعل المدمن أكثر هذياناً او عدائية.
هذا ويمتاز المدمن بقدرته على إخفاء مشكلته عن أهله وعن محيطه وإظهار نفسه بصورة الولد المطيع ليبعد عنه الشكوك فيُصاب الأهل بجرح نرجسي لجهة صعوبة تقبّل المشكلة ما يدفعهم الى محاولة إخفائها هرباّ من نظرة المجتمع.وتعلّق المساعدة الاجتماعية الفيرا ناضر على ذلك بالقول "ان الاهل يعيشون حالة نكران لأن ولدهم مهذّب لذلك يتم العمل معهم ومع ابنهم المدمن بالتوازي". وتضيف "على الأهل استشارة متخصصين اذا شكّوا بولدهم لتفهم المشكلة وحضّه على تقبل فكرة العلاج وذلك عبر إخضاعهم الى دورات تنشئة لمساعدتهم على تخطي المشكلة وعدم الشعور بالذنب".
وفي المقابل تحمل المساعدة الاجتماعية نجوى الترك (42 سنة بالعمل الاجتماعي) المجتمع الاستهلاكي مسؤولية إفراز المدمن", ولقي اللوم في ذلك على مجتمع الطب النفسي منذ 50 سنة في اوروبا وقوله "لا" لعيش الولد في الاطار الصارم للعائلة و"نعم" للحصول على كل ما يبتغيه من دون الموازنة بين العاطفة والنظام لضمان النمو الصحيح لشخصية الولد. وتتابع "التأخّر بالنضوج، والشخصية المرضية والتفكك العائلي والسلطة القاسية بغياب العاطفة المتوازنة في مقابل الدلع الزائد كلّها من الأسباب التي تدفع الشخص الى الادمان بالاضافة الى قلق اجتماعي وخيبات أمل جماعية توصل الشباب الى اطار قلق على مستوى كبير يضيع فيه ولا يرى الأمل بعده."مؤكدة ان "الحرب هي من أقوى الاسباب وما خلّفته وراءها من تشردات وخسائر بشرية وفقر ومرض لاسيما الانهيار الاقتصادي الفظيع الذي تسبّب في البطالة".
التأثير النفسي والجسدي
تتعدّد علامات الادمان وابرزها في الظاهر, تغيُّر في السلوكيات وشلّة الأصحاب الغريبة التي يرافقها مجدداً والغياب عن البيت لأربعة أو سبعة أيام بدون عذر وتقلّب المزاج والعدائية او الانطوائية بدون سبب والانهيار بنتائج المدرسة او الجامعة وزيادة المصروف.
ويشرح الأختصاصي في الطب العام الدكتور عبدالله العجوز ان الآثار الصحيّة للإدمان على المخدرات تنقسم الى النفسيّة منها والجسدية. ففي الاولى يصبح لدى المدمن اعتياد وخضوع تام ينتج عنه اضطراب نفسي وخلل في الأنسجة الدماغية وارتباط تام بالمخدرات خصوصا عندما ينخفض معدّل المخدّر بالدم فيشعر بالإنهيار ما يؤدي الى تفرّغه للإدمان شيئاً فشيئاً لعدم توافر مادة معوضة, فيتوقف عن الدراسة أو العمل ويصبح غير منتج على المدى الطويل وعالة على أهله ومحيطه. كما ينتج عنه تأثيرات كبيرة في الصحة العقلية وتلفا مزمنا في النفسيّة اذ حتى لو نظِف دم المدمن من المواد السامة فان فكرة المخدرات لا تراوح عقله ويُمكن ان يعاود التعاطي في أول لحظة ضعف. أما من الناحية الجسدية، فتؤثّر المخدّرات سلبا" في أكبر غدّة داخلية في الجسم وهي الكبد المولج بـ70 وظيفة واي اضطراب في عمله يمكن ان يؤدي الى جلطة او نزف دموي او عدم انتظام بدقات القلب مع استعداد الى توقّفه. بالاضافة الى استعداد المدمن لالتقاط الأمراض الزهرية والايدز نتيجة إهماله لنظافته الشخصيّة واستعماله الأدوات الملوّثة عند التعاطي وعدم اتخاذه وسائل الوقاية.
تعليقات: