حوار الحضارات والتنوع الثقافي
في المؤتمر الدولي حول "حوار الحضارات والتنوع الثقافي" الذي عُقد في مدينة القيروان بتونس بدعوة من المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ أسيسكو وبمشاركة منظمة الفرنكوفونية ووزارة الثقافة التونسية، استوقفني ممثل المملكة المغربية الى هذا المؤتمر .
فالمغرب كما هو معروف دولة عربية ـ افريقية اسلامية كما ينص على ذلك دستورها. والملك هو أمير المؤمنين. اما ممثله الى المؤتمر فكان يهودياً، وهو مستشاره اندريه أزولاي.
ما كانت يهودية أزولاي لتثير أي احتجاج او حتى اي استغراب، فالرجل مواطن مغربي وله ما لأي مغربي آخر من حقوق وامتيازات. فأثناء حروب الفرنجة ـ الحروب الصليبية ـ كان يشغل منصب وزير المال لدى صلاح الدين الأيوبي يهودي عربي. لذلك ما كان التوقف أمام يهوديته يعني شيئاً استثنائياً لولا كلمته التي ألقاها في جلسة الافتتاح. ويمكن تسجيل النقاط الآتية أساساً لحالة "الشفاه المقلوبة" التي بدت بعد انتهاء كلمته.
فالرجل تحدث عن المحرقة التي تعرّض لها اليهود. وهنا أيضاً ليست مشكلة. فالمحرقة وقعت وارتكبها مجرمون نازيون. ولقد انتقد أزولاي بشدة مرتكبيها وهذا من حقه أيضاً. إلا انه كان يجلس الى طاولة المؤتمر الى جانب أزولاي الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي. فبدا وكأن أزولاي ينتقد بوجوده رئيس الجمهورية الاسلامية الايرانية محمود أحمدي نجاد الذي عُرف بتصريحاته السلبية عن المحرقة. وكان في ذلك إحراج للرئيس خاتمي الذي ينتقد علناً وصراحة سياسة نجاد ويكافح من اجل ان لا يفوز بولاية رئاسية ثانية.
صحيح ان هناك من يعارض ومن يؤيّد وجهة نظر الرئيس نجاد بالنسبة للمحرقة اليهودية، ولكن هل كان يجوز ليهودي أن يعتلي منبراً اسلامياً وفي دولة اسلامية لينتقد موقف رئيس دولة اسلامية اخرى؟. هذا في الشكل. اما في الجوهر فان القضية هي أهم من ذلك. فقد تحدث أزولاي عن المحرقة اليهودية متجاهلاً المحرقة الفلسطينية التي ارتبكتها القوات الاسرائيلية في قطاع غزة والتي أكدتها تقارير الأمم المتحدة ووصفتها بأنها جرائم حرب. كان من مستلزمات الحد الأدنى من الموضوعية العلمية، أو حتى من اللياقة الدبلوماسية ان لا يتغافل أزولاي عما تعرّض له الفلسطينيون منذ أشهر فقط في غزة على أيدي أبناء جلدته الاسرائيليين، وهو يتحدث باستفاضة عما تعرّض له اليهود منذ عقود عديدة على أيد النازيين (وليس الفلسطينيين ولا العرب ولا المسلمين). لقد كان الرئيس الاميركي باراك أوباما في خطابه الذي ألقاه من جامعة القاهرة اكثر موضوعية وتوازناً ، اذ تحدث عن معاناة اليهود من دون أن يغفل معاناة الفلسطينيين. وهو ما لم يفعله أزولاي مع الأسف الشديد. لا شك في ان أزولاي يعرف بالتأكيد العواطف التضامنية الجياشة التي أبداها الملك محمد السادس نفسه، والشعب المغربي جميعه مع الفلسطينيين قبل مأساة غزة وبعدها. ولذلك كان حرياً به أن يكون أميناً على نقل هذه المشاعر الصادقة والتعبير عنها بإدانة الارتكابات الاسرائيلية. لقد كان محقاً في التنديد بالمحرقة اليهودية، ولكنه كان ظالماً بتجاهله المحرقة الفلسطينية.
وخلال الجلسات التي تواصلت على مدى يومين، تناول المؤتمر موضوع احترام التعدد الثقافي والديني والحضاري، وذلك في الوقت الذي كانت اسرائيل تسنّ قوانين عنصرية جديدة تفرض على الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين داخل ما يعرف بالخط الأخضر (اي داخل اسرائيل 1948) الاعتراف بيهودية الدولة وبالولاء لها. أما كيف يكون الولاء ليهودية دولة تدّعي انها علمانية (؟) وأما كيف يمكن لفلسطيني مسلم أو مسيحي يرزح تحت الاحتلال الصهيوني ان يقسم يمين الولاء للدولة المحتلة، وليهوديتها ، فذلك كان آخر ما يهم أزولاي، وآخر ما يهتم به. فهو لم يتناول هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد.!!.
فقد تحدث بإسهاب عن وثيقة قال ان الكونغرس الاميركي بمجلسيه الشيوخ والنواب رفعها الى الرئيس باراك أوباما عشية توجهه الى الشرق الأوسط. فوصف أزولاي الوثيقة بالمهمة جداً لانها تحثّ الرئيس الاميركي على العمل على إقرار حلّ سياسي للصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني. ولكن بالعودة الى هذه الوثيقة يتبين انها تنطلق من امر آخر. وهو تحذير الرئيس أوباما من ممارسة الضغط على اسرائيل حتى لا يتعرض أمنها للخطر. فالوثيقة تحذر ولا تؤيد. وتدافع عن اسرائيل ولا تنتقدها.
وأشار أزولاي الى أمر اذا صحّ فانه يشكل فعلاً علامة ايجابية وبناءة. فقد قال ان مجموعة يهودية أميركية من المثقفين والكتّاب تنشط في اتجاه معاكس للوبي اليهودي التقليدي المتمثل في منظمة إيباك. ونسب الى هذه المجموعة انها وجّهت نداء الى الرئيس أوباما تحثّه فيها على تحقيق السلام على أساس الدولتين (اسرائيل وفلسطين) .
والواقع ان وجود مثل هذه الشخصيات اليهودية ليس جديداً وليس مفاجئاً. ان مثل هذه الشخصيات موجود داخل اسرائيل بالذات . وقد ارتفعت أصوات يهودية في العديد من المجتمعات تندّد بالجرائم التي ارتبكتها اسرائيل في غزة، ووصل بعض أصحاب هذه الضمائر الحيّة حتى الى الإعراب عن خجلهم كيهود من الممارسات الاسرائيلية المتوحشة.
وكان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد دعا في كلمته التي افتتح بها المؤتمر الى وجوب ان يكون القانون الدولي المرجع الأساس الذي تحتكم اليه المجموعات الدولية وتعتمد عليه في تأمين مقومات السلم والتعايش في العالم، وأن يكون احترامه من الجميع شرطاً لازماً لنجاح أي حوار جادّ بين الحضارات والثقافات. وقال الرئيس التونسي أيضاً "ان الحرص على المنظومة القانونية الدولية مما تتعرض له من تجاوزات وانتهاكات، والتعامل معها بصدق ونزاهة من شأنه ان يجنّب ازدواجية المعايير في تأويلها وتطبيقها ويحدّ من مشاعر الإحباط والإحساس بالظلم ويرسخ الثقة بالشرعية الدولية وبالمؤسسات الأممية".
في ضوء ذلك، كان من المتوقع، بل من المفترض ان يعزف أزولاي وهو يتحدث باسم دولة مغاربية اخرى على هذا الوتر القانوني الدولي، وهو ما لم يفعله. بل انه ركز بدلاً من ذلك على دور الاتحاد الأوروبي المتوسطي الذي انتخبه (؟) رئيساً له. واعتبر ان في الشراكة الأوروبية المتوسطية (دول شمال وجنوب المتوسط) مدخلاً أساساً وناجحاً لمعالجة قضايا الشرق الأوسط. وفي الواقع فان هذا التنظيم السياسي المتعثر الولادة يهدف الى تحقيق امر اساسي لا علاقة له بالتسوية الشاملة والعادلة وهو الالتفاف على الرفض العربي لاسرائيل ومحاولة تمرير الاعتراف بها والتعامل معها من البوابة الأوروبية.
وهذا الأمر هو ما حمل عدداً من الدول العربية على رفض الانضمام الى هذا التنظيم الجديد ومعارضته.
من المؤسف ان مشاركين أوروبيين في المؤتمر (من فرنسا وسويسرا) أبدوا تفهماً أسلم وتعاطفاً أصدق وأكثر حرارة مع قضايا العالم الاسلامي. فاذا كان اندريه أزولاي في ذلك يعبّر عن رأيه الشخصي فهو حرّ في ذلك، ونحن نحترم رأيه وإن كنا نعارضه، ولكن أن يوحي بأن آراءه تلك كانت تعبيراً عن موقف ورأي ومشاعر المملكة المغربية ملكاً وشعباً، فذلك أمر نعرف جيداً انه مخالف للحقيقة والواقع.
تعليقات: