مدرسة كفرشوبا عام 1975
كأننا في بدايات العام 1950 من شبعا وكفرشوبا إلى جرود المزارع كلّها!
- «أبجد هوّز» أنجبت قيادات دينيّة وسياسيّة وعلميّة..
- المطالبة بإنشاء مهنية حديثة في «باب الحد» تجمع بين قرى وبلدات العرقوب..
1950 وكأننا نعود إليه في جولة حيّة عن التعليم ومشكلاته في العرقوب. من شبعا وكفرشوبا إلى المزارع في جرودها وقراها. هذه المشهدية لا تلغي العلاقة الحيّة بينها وبين قرى سورية في المقلب الآخر من "حرمون" من التعليم إلى قرابة النسب والتزاوج. هنا تحقيق واحد وأصوات متعدّدة.
من خمسينات القرن الماضي إلى بداية القرن الحادي والعشرين الحالي. أكثر من نصف قرن مرّ على تغيرات جذرية في المجال التربوي لمنطقة العرقوب، وكما حال الجنوب كله بقيت المنطقة وعددٌ من المزارع والبلدات والقرى العرقوبية دون مدارس حتى مطلع الثمانينات ولا سيما قرى المزارع التابعة لشبعا وكفرشوبا وهي: حلتا، والسلمية، والقرن، وبسطرة، وبرختا، وبيت البراق، ورمثا، وزبدين، وقفوة، وعين عرب، ووادي خنسا، حيث كان الأطفال يسيرون أكثر من ساعة للوصول إلى مدارسهم. منذ العام 1970 وحتى العام 1978 لم تستطع عائلات عرقوبية كثيرة تسجيل أولادها في المدارس تحاشياً لتعرضهم للقصف الإسرائيلي وخصوصاً أصحاب المواشي من أبناء المنطقة حتى العام 2000، حيث دفعوا ثمن بقائهم غالياً من أرواحهم وممتلكاتهم.
المدارس التي أقفلت في كلّ من كفرحمام وراشيا الفخار في تلك المرحلة وانعدام وجودها في المزارع وإغفال الدولة للوضعين الاقتصادي والتنموي، كل ذلك أدى إلى حرمان أجيال من التعليم في هذا الشريط الضيق الذي احتضن "هلال الثوار" منذ 1969.
التعليم غاية ووسيلة
وبرغم الصعوبات بقي التعليم غاية سامية لما له من تأثير في المستوى الحضاري والتطور الاجتماعي والسياسي والثقافي.
هاشم محمد بنوتالمدرّس الثانوي حاتم بنوت من بلدة شبعا قال: "بعد عودة السلطة العام 2000 كان من الواجب إعطاء الأولوية للمناطق المحرّرة لإعادة بناء المؤسسات التربوية وتجهيزها، بالإضافة إلى استيعاب الشباب الذين حرموا التعليم بسبب الاحتلال، في المؤسسات الرسمية. والأهم هو تجهيز ثانوية كفرشوبا التي تم بناؤها منذ سنة لاستيعاب أبناء كفرشوبا وراشيا الفخار والهبارية وكفرحمام والماري والفرديس، فلغاية الآن لم يتم ذلك. ونظراً إلى الوضع المعيشي الصعب فإن هذه القرى بحاجة إلى مدرسة مجانية للتعليم الابتدائي والمتوسط ولكن ليس من مجيب"!
تعليم تحت القصف
مصطفى ابراهيم ذيبالمزارع قاسم زهرة من مزرعة بسطرة التابعة لمدينة شبعا يقول: "لم يكن في المزرعة... وغيرها من المزارع التابعة لشبعا مدارس لأطفالنا، فكان على التلاميذ أن يعبروا مسافة تتراوح ما بين الثلاثة والخمسة كيلومترات سيراً على الأقدام للوصول إلى مدرسة "الماري". وهذه المسافة ليست قصيرة ولا هي "مأمونة" فكثيراً ما كانت تتعرض للقصف، ما منع أكثر العائلات من إرسال أطفالهم إلى المدرسة".
أبو ذيب إبراهيم، من مزرعة برختا التابعة لبلدة شبعا يقول: "كان أولادي يتعلمون في ابتدائية كفرشوبا. وبسبب بعد المسافة والظروف المادية الصعبة اضطروا إلى ترك المدرسة والعمل في الأرض. وبعد الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، واحتلال المزارع انتقلنا إلى بيروت حيث عمل أولادي في معمل غندور والمؤسسة العسكرية ومنهم من هاجر".
وجاق الحطب والعلاقة مع سوريا
وهنا لا تختلف الصورة لدى عيسى حسن شبلي، من مزرعة حلتا التابعة لكفرشوبا يقول: "كنا نحمل كيس الكتب في أعناقنا، أعواد الحطب اليابس في أيدينا، لتسليمها لوكيل الصف المولج بأشعال "الوجاق". وكنا نقطع مسافة ثلاثة كيلومترات من مزرعة حلتا إلى قرية الماري سيراً على الأقدام، فأوضاع أهلنا الاجتماعية والاقتصادية لم تكن تختلف عن أوضاع سائر أبناء المزارع الأخرى في وادي خنسا وعين عرب وبسطرة وبرختا ورمثا ومزرعة القرن. فلا تفاوت بالأوضاع المادية والمعاناة واحدة". يضيف عيسى: "الأهل يعملون لتأمين حاجات أطفالهم بالمقايضة. قبل سقوط الجولان عام 1967 كانوا يذهبون إلى مدينة القنيطرة الجولانية مسافة تتعدى الخمسة والثلاثين كيلومتراً وهذا الوضع لا يختلف كثيراً عن حياتنا اليوم. فالمعاناة مستمرة وكلنا في الجرح والهم "إخوان". أما أبو ذيب إبراهيم، من مزرعة برختا المتاخمة للبلدات الجولانية فيقول: "كان الوضع مختلفاً تماماً، كانت مدن وبلدات سورية متنفساً لمنطقة العرقوب في التعليم. وكان مواطنو شبعا وكفرشوبا والهبارية وكفرحمام يسجلون أبناءهم في جباتا الزيت وجباتا الخشب وبانياس والقنيطرة، ووجد أبناء العرقوب في أهاليها كلّ الإكرام والمحبة. وحصلت بين سكان قرى حاصبيا ومزارعها وأبناء تلك القرى والبلدات صلة رحم في التزاوج خصوصاً في جباتا الزيت وجباتا الخشب وطرنجة والماري والفرديس ومجدل شمس. كما كان أهالي العرقوب ووادي التيم يؤمِّنون حاجاتهم من خلال مقايضة الإنتاج الزراعي لأهالي القنيطرة وجباتا وبانياس.
نسب وتزاوج وتعليم
يضيف أبو ذيب: "كان أبناء العرقوب يملكون أكثر من مئة وخمسين بيتاً في مدينة القنيطرة السورية والبلدات الأخرى، وكانت الحكومة السورية تقدم المساعدات للعائلات اللبنانية والطلاب دون أي فارق أو تمييز يذكر. لكن ما أن أصبحت المنطقة الحدودية تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي وسقوط الجولان تشكلت المقاومة الفلسطينية في العام 1969 وأخذت وتيرة العمليات العسكرية للمقاومة تعمل على صد الاعتداءات، فامتنع معظم العائلات القاطنة في المزارع من تسجيل الأطفال في المدارس بعدما فقدوا البيوت والأراضي مصدر رزقهم الوحيد. وفي مرحلة لاحقة بعد سنة 1978 سلّم الاحتلال الإسرائيلي المنطقة إلى عملاء لحد. وحضر إلى شبعا العميل سعد حداد ورفض استقباله المختار سليم الزهيري – أبو راشد، وكذلك فعل مختار كفرحمام محمد عبد الحميد. وبعد ذلك صار يفرض لحد على كلّ عائلة من العائلات تسجيل أحد أبنائها للخدمة في جيش لحد للرد على العمليات التي كانت تقوم بها المقاومة الوطنية اللبنانية، وكان هناك شبه إجماع لدى الأهالي بعدم تحقيق رغبة هذه القوى العميلة".
يتابع أبو ذيب: "تشكلت "الإدارات المحلية" من الأشخاص غير المتعلمين، وفرضتها قوات لحد بالإكراه والتهديد. وظلّ أهالي المنطقة يواجهون المصاعب في التعليم".
«ورغم التحرير الحاصل عام 2000 ما زالت المنطقة تعاني نقصاً من الجهاز التعليمي للصفوف الثانوية».
حصار مضاعف
إبراهيم دياب – مدير مدرسة كفرشوبا يذكّر أن الأهم هو التركيز على واقع التربية والتعليم الذي لا يمكن فصله عن الواقع المعيش، بسبب غياب الدولة عن المنطقة على كلّ الصعد التنموية والتربوية وهذا النهج شكل حصاراً فوق الحصار.
ويضيف ذياب: "إن جميع المدارس في منطقة العرقوب في مرحلة الخمسينات من القرن الماضي كانت غير كافية وبلا أسوار، وكذلك لا تستوعب جميع الطلاب من أبناء كفرشوبا والوافدين من كفرحمام وراشيا الفخار والهبارية والمزارع. تقدمت بطلب إلى وزير التربية والتعليم يوم ذاك للموافقة على استئجار بيوت للسكن ذات المواصفات المقبولة لاستيعاب الطلاب، وكان ذلك مؤشراً مهماً على أن تتجاوب وزارة التربية بالسرعة لهذا الطلب في ظل غياب كامل للمدارس في المنطقة.
ويستكمل ذياب وهو من الرعيل التربوي الأول من حقبة الخمسينات: "إن الطالب الذي كان ينال الشهادة الابتدائية الرسمية كانت "فرحة" أهل بيته لا توصف وكان كل أهل القرية يفرحون لفرحه ويقدّمون الحلوى للزوار".
حسان ابراهيم اللقيسالمدرّس حسان اللقيس قال: "تعلمنا برغم الحرمان المزمن. وفي مرحلة ما قبل الستينات كان أبناء المنطقة يتعلمون على طريقة "أبجد هوّز حطي كلمن" وهي الطريقة التي أنجبت قيادات دينية وسياسية وتربوية وعلمية وإعلامية، وفيهم والدي القاضي الشيخ إبراهيم اللقيس الذي شغل منصب القضاء الشرعي في حاصبيا في الستينات إلى جانب الشيخ القاضي أحمد الزين. ولم يكن والدي يصدر أحكامه وفق النصوص الجامدة، بل كان يدرس كل قضية من القضايا وفق المعطيات والظروف ويدقق في خلفياتها قبل أن يصدر أحكامه، بحيث تلتقي فيها الشريعة بالعقل". ويضيف اللقيس: "إن التعليم في المنطقة رغم "تعليبه" من قبل السلطة سيبقى في أساس التربية. وفي العام 1969 شهدت المنطقة حروباً عدة وتلقت نارها في الصميم، لكن، برغم غزوات العدو الصهيوني وخبث رواد من أشعلوا الحرب الأهلية لم يستطيعوا اختراق عقول أبناء المنطقة ودفعهم إلى التقاتل والتعصب وثقافة الكراهية، لأنهم يحلمون ببنيان ثقافي قومي وحدودي وفكر علمي وعلماني يزخر بالتجارب والمآثر والعبر منذ ما قبل العهد التركي".
الهمُّ يوحّد اللبنانيين
د. قاسم القادري من الفعاليات التربوية والثقافية ترشّح للانتخابات عام 1996 وعام 2000 عن المنطقة، اعتبر أن الكلمة واللغة هما الوعاء التنويري للعقل. ورفض القادري مخطط تفريغ المنطقة من النخب. وقال: إن العديد من المعلمين طُردوا بسبب مناهضتهم للاحتلال ومشاريعه في المنطقة وترجموا ذلك قولاً وعملاً في الممارسة والمواجهة مع العدو، وإن أبناء شبعا، وراشيا الفخار، والهبارية، وكفرشوبا، وكفرحمام، والماري، والفرديس، وشويا، وعين جرفا.. إيماناً منهم بأهمية دور المدرسة وموقعها على المستوى الإنساني والحضاري لم يستكينوا ويستسلموا لضغط الاحتلال".
ويستكمل القادري حديثه عن حال التعليم قائلاً: "كان التعليم في المنطقة يشبه التعليم في جرود الهرمل وعكار سابقاً". ورأى أن توحيد الهوية اللبنانية يبدأ من توحيد الكتاب التربوي. وبذلك يتم الدمج الاجتماعي وتفعيل الإرادات بين اللبنانيين في المناطق اللبنانية كافة. وناشد القادري وزارة التربية إنشاء مدرسة مهنية في منطقة العرقوب.
الدكتور عبود فضول قال: "عملت في التعليم منذ مطلع الخمسينات كسائر المعلمين الذين تخرجوا يومها. ويضيف: ومرحلة لاحقة تصاعدت مطالب الأهالي لإنشاء مدارس مجانية لكن دون جدوى. ولفت عبود إلى العلاقة بين المعلم والطالب فاعتبرها علاقة محاكاة أبوية علمية. وأكّد أن علاقة المعلم بالأهل هي علاقة انسجام وتفهم لمعرفة الخلل إن كان الطالب مقصراً لاعتبار ذلك من ضمن المنهج التعليمي. حفظ غيبي ومادة الإنشاء، والتربية الوطنية التي ألغيت ثم أعيدت من ضمن المنهاج الحديث.
وطالب بإنشاء مهنية رسمية في منطقة "باب الحد". وهي نقطة تواصل بين راشيا والفرديس والماري والهبارية وكفرحمام وكفرشوبا وشبعا والمزارع. ونتيجة الغزو الصهيوني فقدنا تلك الثقافة التي كانت قائمة على التعاون والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بثقافتنا الموروثة وحضارتنا الإنسانية.
أين التفاعل؟
الدكتور محمد عيسى عبد الله من كفرشوبا اشتكى من الطريقة التقليدية التي كانت معتمدة الحاملة لقيم متوارثة لكن في الوقت عينه أثبتت اكتساب محبة أهل القرية وكانت تلك العلاقة عاملاً مساعداً للأسرة لاستيعاب وفهم بين ثلاثي الأهل والتلميذ والمدرّس. وقد خرجنا من عصر مجتمع القرية الصغير، وأصبحت الظروف مختلفة تماماً في ظل التطور والتقدم التكنولوجي، وبات التفاعل مستحيلاً وكذلك تبادل الآراء والزيارات، وباتت كلّ أسرة تفكر وتعمل على تأمين حاجاتها بمعزل عن التعاون الذي كان سائداً فيما مضى!!
ولا يمكن للمعلم اليوم أن ينسخ تلك التجربة كما أنه لا يجوز دفنها بالانعزال عن المجتمع فهي من النواقص التي تجب معالجتها، لأن انفتاح المعلم والتفاعل مع الأهل هما من الفضائل الموروثة. وعلى الدولة والفاعلين في كلّ القرى والبلدات اللبنانية تنميتها والمحافظة عليها.
ومع هذه التمنيات ختمنا جولتنا حول الجو التعليمي العام في منطقة العرقوب منذ نهاية الستينات إلى عالم اليوم
المدرّس الثانوي حاتم بنوت من بلدة شبعا
المدرّس حسان اللقيس
تعليقات: