جان عزيز
كيف نقرأ نتائج الانتخابات الأخيرة، وإلى أين منها؟
ثلاث مقاربات ممكنة لذلك: منها الاستنتاج أولاً مثلاً، أن شيئاً لم يتغير بنتيجة هذا الاستحقاق. فالأكثرية النيابية لا تزال على أكثريتها. والأقلية كذلك. والنزاع على شرعية موقع كل من الاثنتين لا يزال على حاله. وبالتالي، نجح الاستحقاق في تأبيد وضع لبناني قائم على توازن غير ثابت. وهو الوضع الذي حاول اتفاق الدوحة تطبيعه، في انتظار ظرف أفضل لم يأتِ.
غير أن مقاربة ثانية ممكنة، وهي الملاحظة أن انتخاباتنا الأخيرة، أشّرت إلى عمق أزمة الديموقراطية في نظامنا. في الشكل، يكفي الاستذكار، بأن أبسط تعريف «شكلي» للديموقراطية، هو قدرة ناس على تغيير حكومتهم، بواسطة صندوق الاقتراع. لكن إذا ما دقّقنا في نتائج استحقاقنا الانتخابي، يتبيّن لنا أن هذه العوامل سقطت في لبنان. فمن جهة أولى، ثمة أكثرية شعبية، أفرزتها صناديق الاقتراع، لم تتمكن من تغيير حكومة قائمة. ومن جهة ثانية، ثمة أكثرية نيابية خرجت من رحم قانون الانتخاب، ولم تتمكّن من إعادة تكوين السلطة التشريعية والتنفيذية. أما مؤشر الأزمة في المضمون، فتكفيه الإشارة إلى تخلي الأكثرية النيابية عن جوهر خطابها الانتخابي. وهو ما جعل من ديموقراطيتنا المفترضة برلمانية، في مرحلة أولى، حكماً بأشخاص الأكثرية، لكن بأفكار الأقلية، وفي مرحلة ثانية، حكماً بأفكار الأقلية، وبأشخاص الأكثرية والأقلية معاً.
ليبقى مؤشر الأزمة البنيوية لديموقراطيتنا، في أن يكون قد صرف على هذه الانتخابات نحو 750 مليون دولار، في بلد، لا يتعدى مجموع إنفاقه الإعلاني الفعلي والصافي، 80 مليون دولار. أي إن كل مجالات حياة اللبناني ينفق عليه نحو عشرين دولاراً فقط، على كل مقيم في لبنان من أصل ملايينه الأربعة، طيلة 365 يوماً. فيما أنفق نحو 750 مليون دولار أميركي، على أقل من 750 ألف مقترع، حصدت أصواتهم الأكثرية النيابية. أي ما معدله أكثر من ألف دولار، لكل مقترع. أي نحو 50 ضعفاً مما ينفَق إعلانياً على كل لبناني طيلة العام. وإذا تذكّرنا أن هذا الإنفاق جرى في خلال 60 يومأً، لا في غضون 365 يوماً، تصير المعادلة أن الأكثرية النيابية أنفقت لإقناع كل مقترع لها، 300 ضعف ما ينفق لإقناع كل لبناني في كل مجالات حياته الخاصة والعامة. وهو ما يطرح السؤال: إلى أين بنيوية ديموقراطيتنا حين تصير الديموقراطية والحق في التمثيل نادياً مقفلاً على أصحاب المليارات الدولارية.
لكن تبقى مقاربة ثالثة، وهي السؤال: كيف يمكن توصيف دينامية الجماعات اللبنانية، بين عامي 2005 و2009، بناءً على أدائها الانتخابي.
أكثرية الجماعة الشيعية مثلاً، ظلت على استقرارها «المطمئن»، خطاباً وزعامةً. فقبل أربعة أعوام اقترعت لمصلحة سلاح المقاومة، ولزعامة ثنائية هذا السلاح. وسنة 2009، كررت الأمر نفسه. فالخيار الشيعي الآخر الجديّ، وأَده التحالف الرباعي سنة 2005. لا بل ذبحه من الوريد الديني مع اللقاء الشيعي والسيد محمد حسن الأمين، إلى الوريد اليساري مع حبيب صادق ورفاقه.
في المقابل، شهدت أكثريتا الجماعتين السنية والدرزية، انقلاباً في خطابهما السياسي، واستقراراً في خيارهما الزعاماتي. فسنة 2005، اقترعت أكثريتا السنّة والدروز للدفاع عن سلاح حزب الله، من جهة، ولزعامة كل من الحريري وجنبلاط من جهة أخرى. وسنة 2009، ظلت الأكثريتان المقصودتان، مع الزعامتين نفسيهما، لكن بخيار مناقض، أي ضد سلاح المقاومة. ماذا تعني فعلياً هذه المفارقة؟ إنها الدليل ربما على طغيان وجدان السلطة في شكل مُلغٍ لما عداه، لدى الجماعة السنية. فيما المفارقة نفسها، دليل على طغيان وجدان «التستر بالمألوف» ربما، لدى الجماعة الدرزية، حيث الأساس هذا الإحساس الأقلوي الخائف...
يبقى المسيحيون، حيث الفوضى العارمة. فسنة 2005، اقترعت أكثرية مسيحية ساحقة لزعامة ميشال عون، ورد الفعل على اصطفافات الآخرين، ولبناء دولة مدنية نظيفة، ولمروحة أخرى من التصورات الذاتية المستدخلة والمستبطنة، بدءاً بوهم لبنان القوي، وأساطير لبنان الكبير ــ أو الصغير! ــ وصولاً إلى رفض زمن الميليشيا ورموزها، وتماثل الزعيم المسيحي الأول، الذي يشبه سوسيولوجياً، الطبقة الوسطى، في جبل لبنان... المسيحي.
في سنة 2009، انقسم المسيحيون، وبنسب تُقارب التساوي، بين مروحة لا تقل عن 30 عاملاً: فهناك نحو نصف المسيحيين اقترعوا لخطاب الضد سوريا وضد السلاح غير الشرعي وضد ولاية الفقيه وخطرها الداهم فوراً على فتيات مونو والجميزه، وضد تكوين ثقافة مجتمعية كاملة لا تشبه لبنان، وضد تشريق المسيحيين، وضد مناهضة الغرب، وضد مقاومة إسرائيل، وضد الالتزام بالقضية الفلسطينية خارج حدود النيات... ومع الالتزام بروح 14 آذار الأثيرية الهائمة في مكان ما...
وفي المقابل، نحو النصف الآخر من المسيحيين، اقترع لخطاب الضد الفساد، وضد سلطوية عائلة وأصولية فئة، وهيمنة خارجية أو خليجية، وضد خيارات تهمّش الحضور المسيحي، أو تحوّلة حكراً على «معاملتين كبيرة»، بحجم موناكو الصغيرة أو سدوم الأصغر، وضد أداء حربائي يتلوّن مع كل وصاية أو أهواء، للبقاء في السلطة...
انقسم المسيحيون، فأثبتوا أنهم متفاعلون. لكنهم في بلبلة فكرية.
ثلاث مقاربات، يطرح بعدها السؤال: كيف يعاد بناء الدولة؟ احتمالات اليأس كبيرة. لكن الكوّة المفتوحة للرجاء، تبدو في توافق على ضرورة عدم الموت، في انتظار اتفاق على كيفية الحياة.
تعليقات: