تصوير جمال السعيدي ـ رويترز
كان ذلك قبل سنوات طويلة، لكنّ الذكرى ما زالت حاضرة بقوّة. حفنة من الشبان والشابات، يجتازون طريق المتحف المقفرة، سيراً على الأقدام في اتجاه البربير. إنّهم قادمون من «المنطقة الشرقيّة» لبيروت، غير عابئين بالحواجز الطائفيّة، والقنّاصة، فهم على موعد مع مارسيل خليفة في «قصر الأونيسكو». بعد قليل سيغنّون للفقراء ولفلسطين، وستشفي كلمات محمد الفيتوري غليلهم: «هوذا صوتي من الأرض السمراء آت... من آلام شعبي آت».
نحن في قلب الحرب الأهليّة. ومارسيل كان هجر بلدته عمشيت منذ سنوات، واستقر في «بيروت الغربيّة»، بعد إقامة باريسيّة أصدر خلالها أسطوانته الأولى (٣٣ لفّة) «وعود من العاصفة» («أغنيات العالم»، ١٩٧٧) التي رحنا نترصّد أغنياتها على راديو «مونتي كارلو» في برامج فائق حميصي... هؤلاء الذين يسرعون الخطى عند «سباق الخيل»، قبل الغروب، تحت زخّات المطر، طلاب جامعة مشغولون بالأدب والفنّ والسياسة، يعيشون في «الغيتو المسيحي» الذي تسيطر عليه جزمة «الفاشيست» الملوّثة بوحول معسكرات التدريب الإسرائيليّة. نستعمل طبعاً لغة تلك الأيّام ومصطلحاتها النسبيّة... لكن هل تبدّلت الأمور في العمق منذ ذلك الشتاء في السبعينيات المضطربة، المسكونة بالقضايا الكبيرة؟ تغيّرت المسمّيات ربّما. تضاعفت الهزائم، وتصاعدت الردّات، وانهارت المشاريع التقدميّة، وتساقطت النخب اليساريّة كثمار مهترئة... لكنّ الواقع العربي لم يتغيّر كثيراً، بل ازداد بؤساً. أما الوحول الإسرائيليّة، فباتت تلوّث عدداً أكبر من الوجوه والضمائر...
تستعيد كل ذلك، وأنت تجلس اليوم قبالة مارسيل خليفة في مطعم الفندق البيروتي، حيث يقاطعه كلّ دقيقة عابر جديد، فيتجاوب معه بتهذيب، وما إن يمضي حتّى يسألنا: «من هو هذا الرجل؟». هل تغيّر مارسيل بدوره؟ اللحية صارت بيضاء، والحزن يلوّن صوته أكثر... لكن ماذا عن الأفكار الكبيرة؟ قد يكون أشهر مغنٍّ سياسي عربي حيّ، بغضّ النظر عن الآراء النقديّة المختلفة. اقترنت تجربته بقصائد محمود درويش، وما زالت أعماله تلهب الجماهير مغرباً ومشرقاً، علماً بأنّه يذكّر دائماً بأنّه مؤلّف موسيقيّ أوّلاً، انخرط في مشروع الأغنية الجديدة. تتالت محاولاته منذ التسعينيات، بحثاً عن سبل توظيف الآلات الشرقيّة والتراث الموسيقي الشرقي وربع الصوت ضمن البنية الأوركستراليّة الغربيّة. التحوّل يمكن أن نؤرّخ له بـ«جدل» (١٩٨٦) العمل الذي كتبه على شكل حوار بين آلتي عود. ثم جاء «كونشيرتو الأندلس» (٢٠٠٠)، وعمله الكورالي «شرق» (٢٠٠٦)، وأسطوانته «تقاسيم» (٢٠٠٧) التي فازت بـ«جائزة شارل كرو» في فرنسا. وها هو يذكر باعتزاز أن عمله الأخير «الكونشيرتو العربي» الذي رعته الشيخة موزة ودولة قطر، دخل «لاسكالا» في ميلانو، و«مسرح الشانزليزيه» الباريسي، بقيادة المايسترو لورين مازيل.
على مقاعد مدرسة الإرساليّة الأجنبيّة في عمشيت، بدأت رحلته مع الموسيقى والسياسة. تلك البلدة المارونيّة من أعمال بلاد جبيل، جارة حصرايل، قرية فرج الله الحلو، التي جاءته منها الأفكار الشيوعيّة... في الكنيسة مع أمّه كان يحبّ سماع التراتيل. وجدّه يوسف صيّاد السمك، كان يعزف الناي ويغنّي. «أمي اكتشفت الجنون في أصابعي، وقالت لأبي: «هذا الصبي لازم نشتري له آلة موسيقيّة». اختارا العود لأنّه أرخص الآلات. «أتى به صديق والدي من سوق الحميديّة بـ ٢٥ ليرة سورية». حنّا كرم، المتقاعد من نوبة الدرك، علّمه المارشات واللونغات والسماعيّات والبشارف التركيّة، ثم قال لأهله: «الصبي موهوب لازم تشوفوا له شي معهد».
في «الكونسرفاتوار الوطني» درس على يد الفنان الكبير فريد غصن، لكنّه لم يقتنع يوماً بالقواعد والقوانين التي يلقّنها المعهد. ذات امتحان رفض أداء المقطوعة التي أعطيت له، مفضّلاً عليها أخرى من تأليفه، فعاد إلى البيت بعلامة ٢٠/٢٠. ومرّة جاء عبد الحليم كركلا بحثاً عن مواهب جديدة، فوقع على شاب اسمه مارسيل خليفة، سيكتب له الجزء الأكبر من موسيقى «عجائب الغرائب» الذي أسس لمشروعه في الرقص العربي الجديد. افتتح العمل على خشبة «الأونيسكو» في ١٢ نيسان/ أبريل ١٩٧٥، لكن العرض الثاني لم يتمّ، فالحرب الأهليّة كانت قد بدأت.
قد يكون أشهر مغنٍّ سياسيّ عربيّ حيّ، وما زالت أعماله تلهب الجماهير مغرباً ومشرقاً
غداً موعده مع أرض الجنوب، وفي ٩ آب/ أغسطس يؤدي تحيّة خاصة إلى محمود درويش في «أصيلة» المغربيّة
«باقي القصّة تعرفها» يقول. اليوم ولداه رامي وبشّار فنّانان بارزان، يجمعان العزف (بيانو، إيقاع) إلى التأليف. يولا رفيقة الدرب ما زالت تشارك في فرقة «الميادين». لكن أين أصبح مارسيل خليفة على عتبة الستين؟ «كلّ شيء تغيّر. ليس عندي مكان... إلا وحدتي والموسيقى». يؤكّد أنّه «مع المقاومة»... وبعد لحظات صمت يضيف: «كل أشكال المقاومة»، مشيراً إلى معارك عزيزة عليه: من تحرير الوطن إلى تحرير الفرد، ومن القضايا الاجتماعيّة إلى تحرير الجسد والعقل. نتذكّر متاعبه في الجمهوريّة الثانية بعدما وصلتها موضة «الحسبة». اعتبر مفتي الجمهوريّة اللبنانية أغنيته «أنا يوسف يا أبي» عن قصيدة لدرويش تجذيفاً لأنّها تحاكي القرآن (١٩٩٩)، قبل أن تقف المحكمة (وبعض القيادات الروحيّة) إلى جانبه. ثم واجه مع الشاعر قاسم حداد غضب الأصوليين في البحرين بسبب إيروسيّة «مجنون ليلى» (٢٠٠٧).
بدا لنا خلال اللقاء في حالة من الإثارة، عشيّة الأمسية التي يحييها غداً السبت، ضمن «مهرجانات صور» مع الفرقة التي صارت متعددة الجنسيات، وأميمة الخليل رفيقة الأيّام الأولى.
خليفة الذي كان أوّل من غنّى الجنوب وشعراءه، يعود إلى هناك للمرّة الأولى منذ عام ألفين. هو العائد من المغرب حيث شارك في «مهرجان الموسيقى الروحيّة» (فاس)، والذاهب إلى «مهرجانات قرطاج»، حيث يحيي أمسية في المدرج الروماني الشهير بعد انقطاع ٤ سنوات عن تونس (٢٧ الجاري)... وصولاً إلى موعد خاص في «أصيلة» المغربيّة حيث يوجّه إلى صديقه محمود درويش تحيّة في ذكرى رحيله الأولى (٩/ ٨). هناك وقفة أخرى مع درويش في «مهرجانات بيت الدين» (١٢/ ٨)، حيث يرافق «الأوركسترا السمفونيّة» لـ«معهد إدوارد سعيد» التي تؤدّي عمله الشهير «غنائيّة أحمد العربي» (١٩٨٣) عن قصيدة «أحمد الزعتر» لدرويش .
محمود درويش رافق مسيرته على امتداد ٣٥ عاماً. كان مارسيل يقرأ قصائده شاباً ويلحّنها، في «خلوته العمشيتيّة»: «شعرت منذ البداية أن هذا الشعر قد كُتب لي. أن طعم خبز أمّه يشبه خبز أمّي، وعيون ريتاه مثل عيون ريتاي، وأن صورتي أنا على جواز سفره». لكنّهما لم يلتقيا إلا بعد سنوات على صدور أسطوانة «وعود من العاصفة» من دون إذن درويش.
في الثمانينيات الباريسيّة توطّدت الصداقة بين الموسيقي والشاعر، وذات يوم قرأ الأخير على زواره في باريس قصيدة بعنوان «يطير الحمام يحطّ الحمام»، فعبّر مارسيل عن رغبته في تلحينها.
لكن سرعان ما صرف النظر، بعدما أجابه محمود أنها «قصيدة شخصيّة». لكنه سأله بعد سنوات: أين صارت الأغنية؟ إنّه يعمل الآن على تلحين هذه «القصيدة الإيروسيّة الطويلة»: «سألاعب من خلالها ورد الحفافي، فإما أن أقطف الوردة... أو أسقط في الهوّة الفاغرة».
5 تواريخ
١٩٥١
الولادة في عمشيت (جبل لبنان)
١٩٧٥
كتب موسيقى استعراض عبد الحليم كركلا «عجائب الغرائب»، عشيّة اندلاع الحرب. وسيشارك مع كركلا لاحقاً في أكثر من عمل
١٩٧٧
صدور أسطوانة «وعود من العاصفة» عن «أغنيات العالم» في باريس، وتتضمّن قصائد لمحمود درويش. مرحلة الأغنية السياسيّة ستبلغ ذروتها مع «غنائيّة أحمد العربي» (١٩٨٣)
١٩٨٦
في «جدل» خاض تجربة الكتابة لآلتي عود. قدّم العمل في ٧٠ مدينة عبر العالم، وشكّل مفترق طرق في تجربته ممهّداً لأعمال مثل «كونشيرتو الأندلس» (٢٠٠٠)، و«شرق» (٢٠٠٦)، و«تقاسيم» (٢٠٠٧)
٢٠٠٩
«الكونشيرتو العربي» في «لاسكالا»، و«مسرح الشانزليزيه»، و«أوبرا كندي سنتر». سلسلة حفلات في المغرب وتونس ولبنان، بينها أمسيته مع «الميادين» وأميمة خليل، غداً السبت في «مهرجانات صور»
--------------------------------------------------
مساء غد السبت 18 تموز موعده على مدرجات المسرح الروماني في مدينة صور (أسعار البطاقات تتراوح من 20 ألف لل إلى 80 ألف لل)
تعليقات: