المقاومة الفلسطينية (1948 ـ 2006) (الجزء الأول والثاني)

فلسطين، أرض النبوءات والأديان السماوية، هي الأرض التي تميزت على مدى العصور بمكانة خاصة دينيا وجغرافيا واستراتيجيا، هي موضع اهتمام الدول الكبرى ماضيا وحاضرا ومستقبلا، هي كما عرّفها الميثاق القومي لمنظمة التحرير الفلسطينية في مادته الأولى: «فلسطين وطن عربي تجمعه روابط القومية العربية بسائر الأقطار العربية التي تؤلف معها الوطن العربي الكبير»، غير ان فلسطين في واقع الأمر ليست مجرد جزء، بل القلب، من الوطن العربي والاسلامي، وليس في هذه الكلمات مغالاة. هكذا كانت في أيام ابن الخطاب، وصلاح الدين، وحتى أيامنا هذه التي لا تشهد على اعتقال الآلاف في سجون العدو، فحسب، بل على اعتقال الشعب بأسره.

نبدأ موضوعنا بتعريف المقاومة الفلسطينية، وزمانها، وهويتها.

هي المقاومة الشاملة، أي المقاومة الشعبية، والمسلحة، والفكرية، والاعلامية، والمدنية، وغيرها، وهي قد تجتمع في أكثر من ميدان في زمن واحد، وقد تقتصر على وجه واحد في زمن محدد، غير انها في مجموعها توجه المؤشر نحو صعود المقاومة أو انكفائها. ونحن في هذه الورقة، وان كانت المقاومة بمختلف أشكالها هي البوصلة التي نهتدي بها، لكننا سوف نركز ـ بشكل خاص ـ على تطور المقاومة المسلحة.

ابتدأ الشعب الفلسطيني بمقاومة المشروع الصهيوني منذ قرن من الزمان، غير أن الفترة الزمنية التي نتوقف عندها في هذه الورقة تعود الى سنة النكبة، مع أنه يصعب تحديد البداية بدقة، فهل نبدأ مع مقاومة مشاريع التوطين في المخيمات منذ مطلع عهد الشتات؟ هل نبدأ مع نضال الأسرة لتأمين قوت يومها وسقف زينكو لخيمتها؟ هل نبدأ مع تسابق التنظيمات على احتكار «أبوة» العمليات الفدائية؟ نحن انطلاقا من التزامنا بالتركيز على تطور المقاومة المسلحة، سوف نبدأ مع تصاعد العمليات الفدائية، أي في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين.

أما الهوية التي تحتاج الى تعريف فهي حتماً ليست «الهوية الفلسطينية»، بل «هوية المقاومة من أجل فلسطين»، فهذه المقاومة لم تكن دائماً فلسطينية، بالمعنى الحرفي للكلمة، فهي قد تكون عربية في يوم ما، وإسلامية في يوم آخر، وقد تشمل أجانب من اليابان حتى أوروبا الغربية، كما تشهد السجون الاسرائيلية، ولا تقتصر المقاومة على الفلسطينيين وحدهم، فقد مرت اسرائيل بأقسى أيامها في مواجهتها مع «حزب الله» في لبنان، وهي اليوم تحسب الحساب كله لأهمية القدرات الايرانية النووية، ولا يعني هذا ان «حزب الله» اللبناني تحول الى تنظيم فلسطيني، ولا ان طهران أصبحت القاهرة أو دمشق، فالكل مسؤول ومطالب، لكنه يعني ان المقاومة الفلسطينية في زمن «حزب الله»، زمن «الوعد الصادق»، شيء مختلف ومتطور عنها قبل ذلك، كما يعني بوضوح مستمد من التاريخ ومن عصرنا، ان حصر المقاومة بالهوية الفلسطينية وحدها فيه إنكار للتاريخ والواقع، وتنكر للمستقبل.

ونرجو أن نوضح ـ بداية ـ أن ليس في النية التوقف لتحية جميع التنظيمات والجبهات والاحزاب، سواء بتعدادها، أو بالاشادة بنضالها، ذلك ان الهدف أساسا ليس التوصل الى من يستحق من بينها «كأس المقاومة الذهبي»، بل محاولة التوصل الى خلاصة تجربة المقاومة، أما الإشارة الى تنظيم ما أو جبهة ما أو حزب ما، فهي ضرورة حين تتعلق الاشارة بأهمية التطور.

أما الإشكالية الرئيسية التي تعرضنا لها بالنسبة الى المصادر والمراجع، فلا تنبع من قلتها ولا كثرتها، بل من كون القسم الأكبر منها يتناول المقاومة الفلسطينية من منطلقات التنظيمات والجبهات والأحزاب، لا من منطلق المقاومة الواحدة، ناهيك عن منطلقي «الداخل والخارج»، وكأن هناك شعبين فلسطينيين لا واحدا، وهذا ان لم نصبح غدا ثلاثة شعوب، باعتبار ان فلسطين فلسطينان محتلتان، لا واحدة، فالأولى هي التي ما زالت محتلة اسرائيليا، والثانية التي لم تعد محتلة اسرائيليا (رسميا) غير أنها محتلة (واقعيا)! فهل تؤدي هذه الأوضاع الشاذة الى ان نصبح حقا شعوبا فلسطينية؟

أما المراحل الزمنية التي نتوقف عندها فهي ست: المرحلة الاولى (1948 ـ 1964)، المرحلة الثانية (1964 ـ 1970)، المرحلة الثالثة (1970 ـ 1982)، المرحلة الرابعة (1982 ـ 1987)، المرحلة الخامسة (1987 ـ 1993)، المرحلة السادسة (1993 ـ 2006).

المرحلة الأولى (1948 ـ 1964)

هي المرحلة الممتدة زمنيا ما بين نكبة 15/5/1948 وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في 28/5/,1964 وهي التي توصف بـ«مرحلة التيه والضياع»، والتي شهدت في نهايتها مخاض المقاومة، غير أنها في منتصف الخمسينيات شهدت عمليات فدائية جريئة من قطاع غزة نحو الداخل، وكانت مصر تدعم هذه العمليات، كما كانت سوريا تدعم عمليات مماثلة الى حد بعيد على الحدود السورية ـ الفلسطينية المحتلة.

وشهدت هذه المرحلة إقبال الشباب الفلسطيني على الانتماء الى الأحزاب السياسية العربية المتعددة، وكل منهم يعتقد بأن الطريق الحزبي الذي اختاره هو الطريق الى فلسطين، وكان للثورات العربية التي قامت في عقد الخمسينيات الأثر البالغ في ارتفاع الآمال بتحرير فلسطين، وغني عن القول ان أولى هذه الثورات قامت في مصر، وليس من شك في ان ثورة الجزائر ألهبت خيال الفلسطيني بحتمية قيام ثورة فلسطينية على غرارها... وأما مع قيام دولة الوحدة العربية بين مصر وسوريا سنة ,1958 فقد بات الحلم أقرب الى التحقيق، فدولة الوحدة، أو «الكماشة» لا بد لها أن تقضي على اسرائيل.

غير ان دولة الوحدة سرعان ما انهارت بعد ثلاث سنوات، وسرعان ما تكرست كلمة «الانفصال» في الاعلام العربي، وسرعان ما تبارت الاحزاب القومية العربية في تبرير عجزها عن حماية الوحدة، لكنها تذكرت فلسطين، فأفرزت كوادر من أعضائها الفلسطينيين للتفرغ من أجل «التحرير»، كحزب البعث العربي الاشتراكي الذي أنشأ «شعبة فلسطين»، وحركة القوميين العرب التي قامت بخطوة مماثلة. وكأن التاريخ بات يُكتب معكوساً، فالشعار القومي الذي تكرس أيام الوحدة وهو ان «الوحدة هي الطريق الى فلسطين»، كانت الاحزاب القومية في عهد الانفصال هي التي كرسته معكوساً، فأصبح الشعار «فلسطين هي الطريق الى الوحدة». لكن أهم ما نتج عن هذا التحول تدريب مجموعات من العناصر البعثية أو القومية أو غيرها على حمل السلاح، وقد ساهم هؤلاء لاحقا في العمل الفدائي.

مع انحسار المد القومي شهدت هذه المرحلة الحدث الأبرز على الصعيد النضالي، ألا وهو قيام الفلسطينيين أينما كانوا، في الضفة الغربية، وفي قطاع غزة، وفي مخيماتهم، وفي منافيهم «العربية» المتعددة، بإنشاء الجبهات والتنظيمات السرية، وقد تزامن نمو هذه التنظيمات مع التحركات السياسية التي قام بها أحمد الشقيري بتكليف من جامعة الدول العربية لإنشاء كيان فلسطيني، فشكلت سنوات النصف الاول من عقد الستينيات مرحلة تمهيدية كان أبرز أهدافها خلق الكيان الثوري، وإعادة الاعتبار للشخصية الفلسطينية. صحيح ان الكفاح المسلح بكل معنى الكلمة لم يكن الهدف الأول يومذاك، وكان هدفا مؤجلا بالنسبة الى البعض، وصحيح ان كثيرا من التنظيمات كان ينمو نمو الفطر بلا سابق تخطيط، وصحيح ان بعضها انتهى مع ولادته، لكنه صحيح ايضا ان من هذه التنظيمات من صمد وكبر، وشهدت له الأيام.

انتهت هذه المرحلة التمهيدية بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية كيانا قانونيا عربيا رسميا بات هو العنوان للشعب الفلسطيني، وانتهت بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني بألويته الثلاثة، لواء حطين في سوريا، ولواء عين جالوت في قطاع غزة، ولواء القادسية في العراق. وعلى الرغم من أن أي جيش فلسطيني لا يمكنه قطعا إعلان حرب على اسرائيل من أرض عربية ليست أرضه، غير ان وجوده أضحى البوصلة المؤشرة نحو طريق التحرير، وكان الفرح الفلسطيني طاغيا بإنشائه، وبالمقابل، كان الخوف منه كبيرا من قبل عدة دول عربية، فالحكومة اللبنانية أخذت تفرض على كل لاجئ فلسطيني يغادر أراضيها للانضمام الى جيش التحرير ان يوقع على تعهد بأنه لن يعود ـ مطلقا ـ الى لبنان، وذات صباح باكر، ارتفعت أهازيج الأمهات والأخوات أمام مكتب منظمة التحرير في بيروت في وداع الفوج الأول، كان الشباب متلهفين لركوب الحافلة التي سوف تقلهم الى العراق، وكانت الأمهات يزغردن وكأن أبناءهن ذاهبون الى معركة التحرير، لا الى معسكر بعيد لمجرد التدريب!!

المرحلة الثانية (1964 ـ 1971)

يبتدئ بعض المؤرخين هذه المرحلة الفدائية، المليئة بالكثير من الرومانسية والقليل من النتائج، بالعملية الاولى لـ«فتح»، فجر اليوم الاول من سنة ,1965 وليس من شك في أهمية تلك العملية الكبيرة بمقاييس الأمس، والبسيطة بمقاييس اليوم، فهي التي أعلنت وشرعت العمل الفدائي دربا للتحرير. لكن من سخرية الأيام ان يكون الرئيس أحمد الشقيري الذي له فضل كبير بالتمهيد للعمل الفدائي، سواء بإنشاء «جيش التحرير»، أو بإنشاء «قوات التحرير الشعبية»، هو المتهم بالبيرقراطية وبالبعد عن الثورية، بينما حركة «فتح» يومذاك، صاحبة العملية الأولى المتسرعة ـ بشهادة أهلها ـ هي التي كانت منقسمة على نفسها وهي التي كانت تطرح السؤال: هل حان الوقت للعمل الفدائي؟ أم لا؟ وكذلك كانت حركة القوميين العرب تطرح السؤال نفسه، وكان عدد من الجبهات الفلسطينية في الستينيات ومنها جبهة التحرير الفلسطينية التي اشتهرت باسم نشرتها «طريق العودة» كذلك، غير أن القوميين والناصريين كانت تحركهم هواجس مختلفة عن هواجس الفتحاويين، أهمها الخوف من توريط الرئيس عبد الناصر بقتال سابق لأوانه مع اسرائيل، فكان المطلوب من العمل الفدائي في سنواته الأولى «شيئا ما هو فوق الصفر ويحول دون التوريط».

انتهى عهد الخوف من التوريط بما هو أسوأ منه بكثير، انتهى مع حرب حزيران ,1967 واحتلال فلسطين كاملة، وهزيمة ثلاث دول عربية. وحدثت نقطة التحول الكبر ى في مسيرة العمل الفدائي، أو الكفاح المسلح، حين رفضت التنظيمات الفلسطينية من دون استثناء القرار رقم ,242 فكسبت مداً جماهيرياً عربياً هائلاً، وتزايد عدد المتطوعين في المنظمات الفدائية، وبخاصة «فتح»، وكان معظمها موجودا في الأغوار ومعسكر خو التابع لـ«قوات التحرير الشعبية».

جرت في هذه المرحلة محاولات التوحيد بين القوى الفدائية، لكن النجاح كان محدوداً جدا، وتفوقت هذه المرحلة بكثرة البلاغات والبيانات من التنظيمات والفصائل المتعددة، فكان التسابق بين البلاغات الثورية سمة المرحلة، وكثيرا ما كانت العملية الفدائية الواحدة يتبناها أكثر من فصيل. وتكاثرت التنظيمات، وكان من أبرزها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، وكلتاهما من كوادر حركة القوميين العرب، وبالاضافة الى «فتح» التنظيم الأكبر عدداً، كان هناك مكان للتنظيمات الصغيرة عددا، وللمثال كانت منظمة «أبطال العودة»، «ومنظمة فلسطين العربية»، كما قام بعض الدول العربية بإنشاء منظمات فدائية تابعة لها كالعراق وسوريا، وتميزت مصر بأنها لم تنشئ أي تنظيم خاص بها، مكتفية بالتدريب والدعم.

كانت القاعدة الاولى للعمل الفدائي «اضرب واهرب»، ثم أخذت تتطور في أعقاب معركة الكرامة التي مدت المقاومة بدفع معنوي كبير، وهي المعركة التي جرت بين القوات الفلسطينية والجيش الاسرائيلي. وفد شارك في المعركة ببسالة عناصر من الجيش الاردني، وتمكن المقاتلون الفلسطينيون والاردنيون معا في 21 آذار/ مارس ,1968 من صد موشيه دايان وجيشه، وكان من أهم نتائج المعركة ان الانسان العربي، لا الفلسطيني وحده، استرد كرامته وكبرياءه، فتصاعد وصول المتطوعين الى الأغوار زرافات ووحدانا.

على صعيد العمل السياسي والقيادة الفلسطينية كان لا بد من تغييرات جوهرية تتناسب مع التغيرات الميدانية، فقد مهدت معركة الكرامة للتنظيمات المسلحة المتعددة كي تتوصل الى اعتماد قاعدة التمثيل النسبي في ما بينها في المجلس الوطني، وهكذا انتقلت المنظمة الى عهد التنظيمات المسلحة، أما الرئاسة فكان لا بد لها ان تكون لـ«فتح» التنظيم الأكبر، فانتقلت من أحمد الشقيري الى يحيى حمودة ـ في مرحلة انتقالية قصيرة ـ ومن بعده استقرت عند ياسر عرفات.

العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية مرت، بدورها، بتحولات جذرية في نهاية هذه المرحلة، كان أبرزها توقيع اتفاقية القاهرة سنة ,1969 بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير، وهي الاتفاقية التي تنظم العلاقات بين الفريقين وخاصة بين الفدائيين الفلسطينيين والجيش اللبناني، على قاعدة الاحترام الكلي للسيادة اللبنانية، واحترام حق الفلسطيني بالتدرب وحقه بالاستعداد لتحرير وطنه، وكانت هذه أول مرة يتم فيها التعامل ندياً بين الفريقين، غير ان السرية التي أحاطت بالاتفاقية من دون أي مبرر، كانت التجاوز الاول الذي لحقته تجاوزات متعددة مع الزمن، من قبل الفئات المعنية، على اختلافها.. ولم تكن التجاوزات في الأردن لتقل سوءاً، فشكلت ذريعة كافية أدت الى اندلاع الأحداث الدامية بين الجيش الاردني وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة.

عُرفت التصادمات الدامية في عمان بأحداث ايلول ,1970 واستمرت أسبوعاً كاملا، وتدخلت مصر والسودان والكوت لوقفها ولإخراج القياديين المعتقلين من عمان، وتم عقد اجتماع طارئ للدول العربية في القاهرة بدعوة من الرئيس جمال عبد الناصر، وتم الاتفاق بين الملك الاردني والرئيس الفلسطيني، في اليوم الثامن والعشرين من ايلول ,1970 وكانت مشيئة الله ان يكون ذلك اليوم الحزين هو الأخير في حياة الرئيس عبد الناصر.

انتهى الوجود الفلسطيني المسلح في العاصمة الأردنية، وتم الاتفاق على بقاء المقاتلين الفلسطينيين في منطقة جرش، لكن بعد أقل من عام على أحداث ايلول، فوجئ الفدائيون بالهجوم عليهم من الجيش الأردني، ما أدى الى إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن كله، والى طرح الاسئلة: الى أين؟ هل يمكن أن تتكرر مأساة كهذه في بلد عربي آخر؟ هل المقاومة في حرب ضد اسرائيل ام الأنظمة العربية؟

المرحلة الثالثة (1970 ـ 1982)

ابتدأت التنظيمات الفلسطينية المسلحة بالانتقال من الأردن الى لبنان بعد أحداث ايلول، أما ثقل الوجود الفلسطيني المسلح في البلد الصغير، لبنان، فوصل الى أقصاه في أعقاب أحداث جرش، ونلاحظ انه على الرغم من وجود ألوية مقاتلة في مصر وسوريا والعراق، غير أنها كانت ألوية جيش رسمي، ميدانها الحروب، والحق أنها قاتلت ببسالة سواء في حرب ,1967 أو في حرب العبور في أكتوبر سنة ,1973 غير ان المقاتلين الفدائيين كانوا بحاجة الى قدر من الحرية، وأما انتقالهم الى لبنان فلم يكن اختيارا، بل لأن لبنان كان المحطة الوحيدة التي استقبلتهم، أو على وجه الدقة، ان فئات معينة من الشعب اللبناني ومن أحزابه وقواه السياسية هي التي استقبلتهم بالترحاب، بينما كانت هناك على الضفة اللبنانية الاخرى أحزاب وقوى سياسية رافضة لاتفاقية القاهرة أساسا، ورافضة لأي وجود فلسطيني في لبنان، بغض النظر عن طبيعته، سواء أكان مسلحا أم مدنيا. وهكذا كان جوهر المشكلة ان لبنان ما كان ممكنا له ان يكون هانوي، ولا مرتكزا للثورة حتى ولو لمرحلة.

لسنا بصدد تفصيلات المرحلة الفلسطينية ـ اللبنانية، لكننا نتوقف إزاء الضربات الاسرائيلية التي كان أولها وأبرزها الإغارة التي قام بها الكوماندوس الاسرائيلي على بيروت، في 10/4/,1973 بقيادة إيهود باراك، بهدف تصفية القيادة الفلسطينية. وصل الاسرائيليون الى شارع فردان ومنطقة الفاكهاني، وتمكنوا من اغتيال ثلاثة من القادة هم محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، أما الاشتباك الذي حصل في الشهر التالي بين الجيش اللبناني وتنظيم فلسطيني، فقد كان تمهيداً للتطورات اللاحقة بانقسام لبنان الى معسكرين، واحد يساند المقاومة والآخر يعارضها ويقاتلها.

يمكن القول ان سنوات السبعينيات الماضية كانت الأهم ـ فلسطينيا ـ على مختلف الصعد:

على صعيد المقاومة، أو الكفاح المسلح، أو الثورة، أو العمل الفدائي ـ وكلها من تسميات المرحلة ـ شهدت تلك السنوات عمليات جريئة قام بها منفذوها في قلب اسرائيل، وما عادت القاعدة «اضرب واهرب»، بل «اضرب واصمد»، وكانت عملية دلال المغربي في قلب تل أبيب من أبرز هذه العمليات، نوعية وجرأة، وهكذا لم تعد الكاتيوشا عن بعد وحدها أداة النضال، غير ان المبالغات في بيانات الفصائل، والتسابق على «أبوة» العمليات استمر كذلك. وتزامن تصاعد العمل الفدائي من الخارج مع تحركات الداخل التي كان أبرزها الاحتفال بـ«يوم الأرض»، كما بات التنسيق بين عدد من الجبهات والتنظيمات مع فلسطين المحتلة عملا يوميا، ولعل أهم المؤسسات المعنية بالمتطلبات على أرض فلسطين كان «القطاع الغربي»، بتوجيهات خليل الوزير «أبو جهاد»، أحد مؤسسي حركة فتح، وهو من كان يمد «الداخل» بكل الإمكانيات المتاحة، وفي مختلف الميادين.

يضاف الى هذا تطورات عامة في ميادين التعليم والمرأة والنقابات، وغيرها، لكننا نخص بالذكر المؤسسات العلمية والثقافية الفلسطينية التي تطورت بشكل مواز وإن لم يكن متفوقا أحيانا على تطور العمل الميداني، حتى بات الكتاب عن القضية الفلسطينية، أو الصهيونية، أو الصراع العربي ـ الاسرائيلي، منتشرا بين صفوف الفدائيين والمخيمات والتجمعات الفلسطينية، وابتدأ الأهل في فلسطين، حتى في فلسطين المحتلة سنة ,1948 يعيدون طباعة الكتب الصادرة في الخارج، ومن أبرز المؤسسات ذات الأثر الكبير كان مركز الأبحاث الذي أنشأته منظمة التحرير، والذي ارتبط اسمه بأنيس صايغ، كذلك كانت مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وهي مؤسسة مستقلة ارتبط اسمها بوليد الخالدي، وانسجاما مع موضوع هذه الورقة، ولو كان للمفكرين رتب عسكرية، لحمل كل من صايغ والخالدي رتبة جنرال، على أقل تقدير.

على صعيد العلاقات العربية والدولية حصلت تطورات بارزة، فبداية كان يُقال المنظمة «و» الفصائل (مع التشديد على أهمية واو العطف)، غير ان إقرار المنظمات والجبهات المتعددة بأبوة المنظمة، ولو جاء متأخرا، هو الذي أدى الى الإقرار العربي بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وذلك في مؤتمر القمة بالرباط سنة ,1974 ومن الساحة العربية أصبح الانتقال سهلا الى الساحة الدولية، الى الأمم المتحدة، فاستمع العالم الى خطاب أبو عمار الشهير، بتاريخ 13/11/,1974 وهو يعلن نهجه الفدائي المقاتل والمسالم بقوله: «لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية الثائر.. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي». ثم اختتم خطابه بقوله: «الحرب تندلع من فلسطين.. والسلم يبدأ في فلسطين».

من المبالغة التصور أن قوة العمل الفدائي كانت السبب الأوحد في قبول المنظمة عضواً مراقباً في المنظمة الدولية، فالواقع ان قوة العالم الثالث من مجموعة دول عدم الانحياز والدول الاشتراكية والدول الاسلامية والعربية، باتت لها الأغلبية الكبرى في الجمعية العامة، أي ان المنظمة الدولية في السبعينيات أضحت منظمة مختلفة تماما عما كانت عليه سنة ,1947 أما عدد الدول المخالفة أو الممتنعة عن التصويت الى جانب الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، فكانت نادراً ما تتعدى أصابع اليد الواحدة، وعادة كانت هذه الدول هي الولايات المتحدة، واسرائيل، وربما كندا أو بريطانيا وبعض الدول الصغيرة الدائرة في الفلك الاميركي.

على صعيد العلاقات الثنائية شهدت هذه المرحلة سنوات «العز الفلسطيني»، ان جاز التعبير، إذ توالى فتح المكاتب الرسمية والاعلامية والسفارات والممثليات في العواصم، وباتت كوفية الفدائي رمزاً للنضال العالمي في المؤتمرات والمهرجانات، وتقدم هدية ثمينة، وكان أبو عمار أو «عرفات»، كما كانت تدعوه وسائل الاعلام الغربية، يُستقبل في العديد من العواصم كرمز من رموز النضال من أجل الحرية، وواحد من قادة حركة التحرر الوطني في العالم، أمثال غيفارا وكاسترو ومانديلا، ودخلت كلمة «فدائي» وكلمة «فدائيين» القاموس الأجنبي، وحين ترجموها قالوا «مقاتلون من أجل الحرية» (Freedom Fighters)، فأين هذا الماضي القريب البعيد من يومنا هذا؟ ولماذا أصبحنا في القاموس نفسه «إرهابيين» (Terrorists)؟

وحدها الساحة اللبنانية كانت ساحة التماس مع العدو الصهيوني، أما بالنسبة الى الفرقاء اللبنانيين المتصارعين فكراً وسلاحاً، فكان منطقياً وطبيعياً أن تنضم القوى الفدائية الفلسطينية الى الحركة الوطنية اللبنانية، بينما كان على الجانب الآخر قوات الجبهة اللبنانية المؤلفة من مليشيات حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار.

غير أن «الاشتباكات المتواصلة» على الأراضي اللبنانية، أو «الحرب الأهلية»، أو «حروب الغير على أرضنا»، كما يحلو للبعض تسميتها، والتي لم تتوقف حتى بعد حرب السنتين في منتصف السبعينيات، فقد أضيفت اليها الاشتباكات التي دارت بين المنظمة والجيش السوري سنة ,1976 وهذا كله بينما الاعتداءات الاسرائيلية ضد المخيمات كانت تتواصل، فإسرائيل كانت قد أبادت مخيم النبطية سنة ,1974 ولم تكن لتتوقف عن ضرب القرى الجنوبية والمخيمات، وكان الجيش الاسرائيلي هو المشرف على تدمير مخيم تل الزعتر سنة 1976 (هذا ما أعلنه شارون مخاطباً بيريز في الكنيست في أثناء السجال حول مسؤولية شارون في صبرا وشاتيلا)، ثم كان الاجتياح الاسرائيلي للجنوب سنة ,1978 وأثبت فيه المقاتلون صلابة وصموداً، غير أن الولايات المتحدة التي تدخلت لأول مرة لوقف القتال، ثبت في ما بعد أنها فعلت ذلك كي لا «تخرب» عملية السلام التي كان يستعد لها الرئيس أنور السادات، معلناً بدء العملية بزيارته للقدس ليلقي كلمته في الكنيست!

تنتهي هذه المرحلة مع الاجتياح الاسرائيلي للبنان في صيف ,1982 مع ان قيادة المنظمة احترمت اتفاقها فلم تطلق كاتيوشا طوال العام السابق للاجتياح، لكن الاعتداءات الاسرائيلية ليست بحاجة الى ذرائع، فلا الكاتيوشا ان ضُربت، أو صمتت، هي السبب، ولا محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن هي السبب، فإسرائيل ما اهتمت لتؤكد في ما بعد ان كان قد مات أو عاش! اسرائيل هدفها القضاء على الثورة الفلسطينية، وعلى الشعب الفلسطيني، وهدفها الهيمنة على لبنان، لذلك قامت بهذه الحرب المدمرة وحاصرت بيروت ثلاثة أشهر متواصلة، وتشهد بيروت على صمود أهلها وصمود المقاتل الفلسطيني واللبناني، غير ان القوات الفلسطينية غادرت بعد انتهاء الحرب لبنان بحرا وبرا، فكان هذا هو الخروج الثالث بعد الخروج من فلسطين، ومن الأردن.

المرحلة الرابعة (1982 ـ 1987)

هي مرحلة المنافي الجديدة من الجزائر حتى اليمن، وقد استمرت زمنيا حتى اتفاقية اوسلو وانتقال القيادة الى فلسطين المحتلة وعهد السلطة الوطنية، لكننا نتوقف في عهد المنافي، في منتصفه، اي مع قيام الانتفاضة سنة ,1987 ذلك ان الانتفاضة باتت هي المنعطف لما قبلها وما بعدها.

استقرت القيادة الفلسطينية في تونس، واعتقد البعض ان عهد المنافي لا بد من ان يكون موقتا، وشطح البعض بخياله الى ان «تجييش» الميليشيات الفدائية المسلحة أمر لا بد من حدوثه! ولذلك فلا بأس من البقاء بعيدا عن حدود فلسطين لمرحلة، فالمهم هو الاستعداد للمعركة التي لا بد قادمة! أما الواقع فكان بعيدا عن ذلك كله، وبعيدا حتى عن المشكلة الرئيسية الشكلية او المرئية وهي تشرذم المقاتلين جغرافيا. فقد أثبتت الأيام، ان تحقيق الوحدة الوطنية بين التنظيمات المتعددة هو التحدي الأساسي، بالاضافة الى مأساة الاقتتال بالسلاح بين الإخوة، سواء ما عرف منها بحرب طرابلس، او بحرب المخيمات بينهم وبين حركة أمل، او بينهم مجددا في مخيمات بيروت، وهي الاشتباكات التي انتهت بسيطرة الفريق المعادي لعرفات في مخيمي شاتيلا وبرج البراجنة. فأين هذا كله من المقاومة ضد العدو الصهيوني؟

تصاعدت العمليات من الجنوب اللبناني، حتى سمي صيف 1987 بالصيف الحار، ففي شهري تموز وآب فقط تمت 133 عملية ضد القوات الاسرائيلية في حزام الأمن الحدودي وضد الميليشيا العميلة لها (جيش لحد)، وكانت العمليات متنوعة من الهجوم بالأسلحة الفردية، والكمائن، وزرع الألغام، والعبوات، والصواريخ، بالاضافة الى معركتين هامتين جرتا قرب ياطر وحاصبيا، كذلك شهد شهرا أيلول وتشرين الاول 186 عملية تميزت بتطور نوعي وتخطيط دقيق ما أدى لأول مرة الى ان يتضاعف عدد الجرحى من الجيش الاسرائيلي وجيش لحد على عدد الجرحى من المقاومة. وشهد شهر تشرين الثاني عملية كانت الاولى من نوعها، إذ تمكن فدائيو الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة من الهبوط بطائرة شراعية بسيطة ذات محرك واحد بالقرب من معسكر للجيش الاسرائيلي على الحدود الشمالية، وفوجئ الجنود بقائد الطائرة يطلق عليهم النيران بغزارة، ما أدى الى مقتل ستة ضباط وجنود وجرح تسعة.

ما كانت هذه الوقفة في «الصيف الحار» الا للإشارة الى أن مقاومة نوعية كهذه لم يعرفها تاريخ الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وقد أضحت مثلا يحتذى لأهل فلسطين على أرض فلسطين، غير أنهم ما اكتفوا بالمراقبة، بل ابتدأوا مقاومتهم، ما استطاعوا إليها سبيلا، وهذا بينما كانت القيادة الفلسطينية في تونس تبحث عن مسالك دولية ومؤتمرات دولية.

أخذت المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تتصاعد منذ نهاية سنة ,1986 وأول الشهداء كانوا من طلاب جامعة بير زيت في اشتباك مع رجال الشرطة في 4/12/,1986 وما ان هبت المدن والقرى والمخيمات تعلن الاضراب وتتظاهر حتى ردت السلطات بسياسة القمع، ومنع التجول، وإعلان هذه المنطقة او تلك منطقة عسكرية. وما كان امام الفتيان سوى الرد بالحجارة. وشهدت سنة 1987 انتفاضات صغيرة ومتلاحقة، فكانت التمهيد الذي لا بد منه للانتفاضة الجبارة التي قامت في نهاية سنة .1987

المرحلة الخامسة (1987 ـ 1993)

كان ممكنا ان ينتهي حادث استشهاد العمال الفلسطينيين الأربعة وجرح إخوانهم التسعة، بالقرب من حاجز «إيرز» العسكري في قطاع غزة بتاريخ 8/12/,1987 مع اضراب وتظاهرات كما يحدث في كل مرة، غير ان الاحتقان الشعبي كان قد وصل الى مداه، فتحولت التظاهرات في اليوم التالي، في التاسع من كانون الأول، الى انتفاضة لم تشهدها فلسطين من قبل. وما لا شك فيه ان النضوج المتكامل للأسباب المتعددة، دوليا وعربيا وفلسطينيا، مهد للانتفاضة الباسلة، وهي التي نوجزها بالقول: دوليا وإقليميا، سيطر جمود او تجميد للقضية الفلسطينية ناشئ عن التصلب الاميركي، والأولوية السوفياتية لنزع السلاح النووي وحرب النجوم، والرفض الاسرائيلي لفكرة عقد مؤتمر دولي للسلام. عربيا، تراجع بند القضية الفلسطينية في مؤتمر القمة العربي المنعقد في عمّان، في تشرين الثاني ,1987 الى أدنى المستويات. فلسطينيا، أدرك الفلسطينيون في فلسطين المحتلة صعوبة المرحلة في القيام بأي كفاح مسلح من الخارج، وأدركوا ان نظرية التحرير من الخارج قد سقطت، وان الدور بات دورهم، كذلك ساهم تصاعد المقاومة الاسلامية من جنوبي لبنان في رد الاعتبار لإمكانيات الكفاح المسلح.

وكان الرهان: هل تستمر الانتفاضة أسبوعا؟ او شهرا؟ ولم يجرؤ أحد على التكهن بأنها سوف تستمر، وبأنها سوف تصبح منهج حياة. وليس المجال للحديث المفصل عن الانتفاضة التي فرضت حتى اسمها على الاعلام العالمي، فباتت الاشارة اليها بالاسم: (Intifada)، غير ان السؤال الرئيسي هو كيف؟ كيف صمدت حقا ووحدت بين مختلف القوى؟ وهي التي انطلقت انتفاضة شعبية عارمة، من غير ان يطلق زعيم ما رصاصة، او يصدر بلاغا، إيذانا بانطلاقها.

ارتأت قيادات الأحزاب والهيئات المحلية ضرورة تشكيل قيادة مسؤولة، وقد باشرت القيادة فعلا مهماتها بعد أسابيع قليلة، كما أعلنت عن وجودها مع انتهاء الشهر الأول للانتفاضة، وأصبحت نداءاتها توقع باسم «القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة». وعبثا راح الفضوليون يبحثون عن توزيع العضوية والمهام بين القوى المعروفة في الساحة.

من نتائج الانتفاضة، في عامها الأول، أنها تمكنت على الصعيد الاعلامي من إزالة صورة الارهاب عن الفلسطيني، وتمكنت على الصعيد النضالي من تحويل الكفاح المسلح الى كفاح جماهيري، وتمكنت على الصعيد السياسي من تحويل المسيرة كلها من حركة تحريرية الى حركة استقلال وطني. لذلك، يوم وافق المجلس الوطني الفلسطيني، من الجزائر، على وثيقة «الاستقلال الوطني» في 15/11/,1988 استنادا الى الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، كان النقاش حادا في كل بيت فلسطيني، وتساءل البعض ان كان شعب الانتفاضة يوافق عليها؟ أم لا؟ من الواضح ان شعب الانتفاضة وافق، وعلق الوثيقة في المسجد الاقصى، والواقع انه لولا الانتفاضة لما كان سهلا ـ أساسا ـ إعلان الاستقلال.

لمّا عُقد مؤتمر مدريد للسلام سنة ,1991 برعاية اميركية وسوفياتية، كان الوفد الفلسطيني من أهل الضفة والقطاع، وترأسه الدكتور حيدر عبد الشافي، أحد المناضلين الرواد، غير ان المؤتمر الذي كان عنوانه السلام، قام على أكثر من مفهوم للسلام، وما أبعد الفارق بين السلام القائم على العدل والاستسلام! وما يعنينا قوله ان الانتفاضة كانت مستمرة بينما المفاوضات كانت ايضا مستمرة، طوال عامين، لكن ما تكشفت عنه الأيام هو ان مفاوضات سرية كانت تجري في الخفاء، وأنها هي التي انتصرت، وان اتفاقية اوسلو قد وقعت، وان القضايا الرئيسية قد أجلت!!

المرحلة السادسة (1993 ـ 2006)

هذه المرحلة الأخيرة التي تمتد زمنيا من اتفاقية أوسلو حتى يومنا، هي التي شهدت كيف تمكن شارع الانتفاضة في أكثر من مناسبة من فرض قناعاته على القرارات السياسية، وكيف توحد الفلسطينيون حول «مخيم القدس» في مرج الزهور، داخل الاراضي اللبنانية، حين قامت السلطات الاسرائيلية بعملية الإبعاد الجماعية الاولى لمئات المجاهدين من حركة «حماس» والجهاد الاسلامي.. وبينما كانت الصحف العربية تتنبأ باقتتال داخلي بين المؤيدين لمنظمة التحرير والمؤيدين لـ «حماس»، صدر بيان مشترك لقيادة الانتفاضة وحماس باسم «نداء المبعدين»، يدعو الى التصعيد بكل أشكاله، والى التنسيق الميداني بين «القوات الضاربة» التابعة لقيادة الانتفاضة الموحدة، وبين «السواعد الرامية» التابعة لحركة «حماس» (20/12/1992)، وتبعته خطوات تنسيقية بين «حماس» والجهاد الاسلامي، ولقاءات مكاشفة ناجحة بين وفد «فتح» برئاسة الرئيس ياسر عرفات، ووفد «حماس» برئاسة الدكتور موسى أبو مرزوق، في مدينة الخرطوم، وهي اللقاءات التي عقدت بمساع من الدكتور حسن الترابي، وانتهت الى اولوية الاحترام المتبادل خطابا ولغة وعملا سياسيا، والى اهمية استمرار المساعي للتنسيق في إطار الكفاح المسلح.

كانت الخلافات السياسية قبل عملية الإبعاد الى مرج الزهور، قد تراكمت ووصلت الى حد اعتبار عدم الاقتتال بين الاخوة هدفا بحد ذاته، غير ان تجربة «مخيم القدس» في مرج الزهور قلبت المقاييس، فاعتمد المبعدون من الفريقين، من «حماس» والجهاد الاسلامي لغة مشتركة في ما بينهم، هي لغة العقل والايمان، لغة الصمود والمحبة، لغة السياسة المرنة والمبادئ الصلبة، لغة الإسلام الذي تمتد آفاقه الى الإنسان في كل مكان. هكذا اعادت احاديث الدكتور عبد الله الرنتيسي والشيخ عبد الله الشامي، الأمل بالغد، كذلك تفوقت هذه التجربة بأهمية السلوك اليومي للمبعدين، من شيوخ ورجال وفتيان، فأعادوا الى الذاكرة الفلسطينية ايام القسّام، واحراش يعبد.

وكان الموعد الثاني مع الأقصى في 28 ايلول ,2000 حين تحدى شارون العرب بزيارته للمسجد المبارك، ودخل مع مئات الجنود المدججين بالسلاح، وما ان غادر المكان حتى ابتدأت المجابهات بين العرب ورجال الشرطة الاسرائيليين، وفي اليوم التالي كانت انتفاضة الأقصى قد بعثت في فلسطين كلها، وقام الصهاينة بالرد على الصغار الذين يرشقونهم بالحجارة التي تستطيع أياديهم حملها، وكان ردهم بالسلاح والقتل المتعمد. في هذه الانتفاضة قتل الجنود الصهاينة، بدم بارد، عدداً كبيراً من الفتيان والصغار! ألم يقتل هكذا الفتى الصغير محمد جمال الدرة وهو مع والده يتكومان على جانب طريق في مدينة غزة؟ كان الصغير تارة يصرخ بخوف وألم، وتارة يحاول إبعاد الرصاص عن وجهه بيديه، وتارة يختبئ وراء أبيه. تلك صورة لا تمحى من ذاكرة كل من شاهدها. تلك هي صورة فلسطين نفسها وهي تحاول صد الهجمات الشرسة طوال قرن من الزمان.

وقعت عدة اتفاقيات بعد «اتفاقية اوسلو»، وكانت أسوأ منها، لسبب بسيط، هو انها جاءت بعدها من دون ان تتمكن من حل قضية رئيسية واحدة من القضايا المؤجلة.

أما المنعطف الأكبر في التاريخ المعاصر للشعب الفلسطيني، بعد منعطف الانتفاضة، فما لا شك فيه انه حين تمكن الشعب من ايجاد قيادة وطنية منتخبة له على أرضه، حتى ولو كانت أرضه مقسمة، محتلة، وقد ارتفع فيها جدار عنصري، وقد فصلت المستوطنات والحواجز ما بين مدنها وقراها، وحتى بين شوارعها، وحتى لو فاقت فيها الاعتداءات الاسرائيلية كل التصورات، ضد البشر، والحجر، والأرض، والشجر، وحتى لو طالبت الولايات المتحدة بشجب حكومته المنتخبة، لكونها ليست على هواها. إن انتخابات ديموقراطية تجري في ظل اوضاع كهذه، وتنتهي بانتخاب اصحاب النهج المقاوم، لهي البرهان على ان الشعب هو المقاوم.

أما على صعيد التجمعات الفلسطينية في الشتات، فهذه المرحلة الاخيرة شهدت تضاؤل الحلم بالعودة، وشللا في أطراف الجسم الفلسطيني، وموتا سريريا بطيئا لمنظمته التي ناضل تحت لوائها، كأن تشرذم الشعب اصبح القاعدة.

خاتمة

لعله من المبكر الحكم على تداعيات اتفاقية اوسلو، بكل ما عليها، وما لها، ومن غير المنطقي ان نكتفي بتسليط الضوء عليها وحدها، متجاهلين مستجدات الاوضاع الدولية التي تجابه لاول مرة الهيمنة الاحادية الاميركية، او متجاهلين الاوضاع العربية التي لم تشهد يوما ترديا كما يجري في هذه الايام، او متجاهلين ما آلت إليه اوضاع فلسطين، والشعب الفلسطيني، داخلا وخارجا، حتى بات شعار المرحلة الاول مجرد الحفاظ على الوحدة الوطنية، ومجرد الحفاظ على منظمة التحرير في غرفة الإنعاش.

ونختم باستعادة ما قاله الرئيس عرفات، رحمه الله، في الامم المتحدة، «لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية الثائر.. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي». لم يخطر على بال احد، يوم دخول المنظمة الى الامم المتحدة، ان بندقية الثائر هي التي سوف تسقط، اولا، مع التوقيع على «اتفاقية اوسلو» والاتفاقيات الشبيهة اللاحقة، في ظلال الهيمنة الاميركية، لا قرارات الامم المتحدة التي يمتد تراثها عبر خمسين عاما. اما غصن الزيتون، فهو لا يرتفع ـ اصلا ـ إلا مع بندقية الثائر.

تعليقات: