قد يستغرب كثيرون حين يعلمون أن هذا النص الذي أعددته لهذه المناسبة، هو أول نص أكتبه عن أستاذنا الكبير ومؤسس المدرسة الفكرية التي تعلمت منها الكثير، "الاستاذ" ميشال عفلق، رغم أن الرجل الكبير لم يغب بفكره وتجربته وسيرته وخصائله يوماً عن ذهني...
وكنت دائماً أتساءل لماذا أحجم عن الكتابة عن هذا المفكر الذي أذكره دون توقف في جلساتي ومقالاتي منذ أن تعرفت إليه في اوائل الستينات، وأهداني رغم صغر سني آنذاك كتابه الثاني "معركة المصير الواحد" ليملأ ثقة في داخلي ما زلت أدين بالفضل فيها، بعد الله، إلى الرجل الكبير ثم إلى محبة إخواني ورفاقي. ولقد أدركت من خلال هذا الإهداء مقدار التواضع الذي يتحلى به "الاستاذ" ومقدار اهتمامه بالتواصل مع الأجيال الجديدة في الأمة.
وأعتقد أن إحجامي عن الكتابة عن مؤسس البعث منذ رحيله قبل عشرين عاماً ناجم عن الإحساس بأن ما من نص مهما برعت في إنشائه قادر أن يستوعب فكر الرجل وسيرته، أو حتى أن يستوعب عمق العلاقة الفكرية والوجدانية التي ربطتني به، بل كنت دائماً أخشى أن تتغلب عاطفتي نحو الرجل على الموضوعية في تقويم تجربته، أو أن يتغلب حرصي على تجنب اتهامي بالعاطفية على كتابتي عنه فأسلب الرجل الكبير الكثير مما يستحق.
لكنني اليوم، وإزاء طلب كريم من رفاق كرام، وجدت نفسي مندفعاً إلى مغامرة الحديث عن رجل بحجم ميشال عفلق أملاً أن تسامحوا في حديثي أي تقصير أو مجاملة قد يبرزان هنا أو هناك...
قبل حوالى ست سنوات تنادينا إلى لقاء لاستنكار ما تعرض له ضريح "الاستاذ" في بغداد من جرف على يد قوات الاحتلال الأميركي وأدواته، وكان موقفنا جميعاً يومها إن هذا الإجراء اللانساني واللاحضاري واللاخلاقي من طرف المحتل لم يكن تعبيراً عن حجم الحقد على فكر الرجل وعلى سعيه الحثيث لنهوض أمته فحسب، بل كان كذلك شهادة بسلامة النهج الذي أطلقه، والفكر الذي حمله، والرؤية التي جسدها، رغم كل ما انتاب مسيرته من عثرات أو كبوات أو انتكاسات.
واذكر يومها اننا اجمعنا على انه لا جرف الضريح، ولا اجتثاث البعث، قادران على إخماد جذوة الحياة في حركة لعبت في حياة العرب المعاصرة دوراً بايجابياته وسلبياته لم تستطع حركة أخرى أن تلعبه، وعلى هذا المدى الزمني الطويل، فهي ما زالت تقاوم في قطر، وتمانع في قطر آخر، تبشر في إقليم، وتناضل في إقليم ثانٍ.... بل قلنا يومها أيضاً إنها ولادة جديدة للبعث من رحم المقاومة التي تتجدد في وهجها أمم وشعوب، فكيف بحركات وأحزاب. ولادة نأمل أن تطور ما عرفته مسيرة البعث من ايجابيات وان تعالج ما رافقها من سلبيات، فالشجاعة الحقيقية تكمن في مواجهة الأعداء ومواجهة الأخطاء في آن معاً، بل إن مواجهة الأخطاء وتصحيحها هي ضمانة الانتصار في مواجهة الأعداء..
والحديث عن الولادة المتجددة هو حديث ملازم للبعث الذي هو في معناه ولادة متجددة ونهوض متواصل وقيامة مستمرة. بل هو حديث عن واحدة من ابرز سمات "الاستاذ" الشخصية وخصاله واعني بها تلك الروح التأسيسية التي لم تفارقه على مدى السنوات والعقود التي عاشها منذ التأسيس الرسمي لحزبه في 7 نيسان 1947 بل قبله في سنوات التمهيد...
فأمام كل نكسة أو تراجع أو هزيمة كانت تواجهها الامة، أو تلحق بالحزب، كان الرد عند ميشال عفلق هو في العودة إلى البدايات أي إلى الجماهير، والى أصل الفكرة، وروح الأمة، ولذلك لم يكن من قبيل الصدف أبدا أن يختار "الاستاذ" لأول كتاب أصدره بعد نكسة حزيران 1967، عنوان (نقطة البداية) والذي كان في الوقت ذاته عنواناً لمقالته الأولى بعد تلك النكسة القومية الكبرى، فإذ بإبن الستين آنذاك يعود إلى البدايات من جديد متقمصاً روح سيزيف الذي استمر في محاولاته إيصال الصخرة إلى رأس الجبل غير آبه بالصعوبات التي يلاقيها، ولا باضطراره في كل مرة تتدحرج فيها الصخرة إلى اسفل أن يبدأ من جديد.
ولو حللنا بالعمق هذه الروح التأسيسية المتواصلة لدى مؤسس البعث لاكتشفنا أنها مزيج من إيمان راسخ بالأمة، ومن فكر علمي يغوص في قلب حركة التاريخ ويسبر قوانينها ويسترشد بهديها، ومن ذوبان للذات في مسار الامة، وللشخص في أعماق المجتمع، فالعمر المهم بالنسبة لامثال "الاستاذ" ليس عمر الإنسان ذاته، بل هو عمر أمته في حراكها نحو الحرية والوحدة والتقدم.
وإذا كانت هذه الروح التأسيسية الطافحة في شخص "الاستاذ" حتى رحيله، جعلته يبادر وهو في باريس إلى دعوة عدد من كبار مفكري الأمة ومناضليها إلى جلسات طويلة أراد لها عنواناً هو "العمل المستقبلي العربي"، فان سمات أخرى في فكر عفلق وتجربته قد شدتني أيضاً اليه، سأتوقف عند بعض منها لأن المجال لا يتسع لها كلها.
من تلك الأمور البارزة ان "الاستاذ" كان يدرك تماماً إن مشروع النهوض بالأمة، أو قل انبعاثها من جديد، لا ينحصر فقط بالأهداف التي يدعو إليها هذا المشروع أو بعناصره، ولا بالتحليلات والدراسات العميقة التي يستند اليها، بل هو أيضاً يرتبط بالطريق الموصلة إليه وبالأدوات التي تحمل لواءه، إذ ما قيمة أي مشروع نهضوي، مهما اجتهد في صياغته مثقفون وأكاديميون، إذا لم يكن مقروناً بسبل تحقيقه وبوسائل النضال من اجل تجسيده...
لذلك سعى "الاستاذ" عفلق ورفاقه المؤسسون إلى العمل على مستويات اربعة مترابطة في آن واحد، أولها تحديد اهداف المشروع وثانيها تعبئة فكرية وروحية جذرية تضمن بناء جيل عربي جديد، مؤمن وواع ومسلح فكرياً وخلقياً، وثالثها اطلاق حركة نضالية شاملة على مستوى الأمة قادرة على أن تتكافأ في قوتها مع قوة أعداء الأمة الذين يخططون على مستوى المنطقة كلها للهيمنة على مقدراتها ورابعها ترابط أهداف المشروع وعناصره، اي ترابط الوحدة العربية والحرية والاشتراكية، ترابطاً وثيقاً جدلياً لا يمكن معه مقايضة هدف بآخر، بل أن يصبح لكل هدف نظريته الخاصة المتكاملة مع النظريات الأخرى، ونضاله الخاص الذي يصب مع النضالات الأخرى في حركة استنهاض الأمة.
وبهذا المعنى لم يكن البعث مجرد حركة سياسية كالكثير من الحركات العاملة في الشأن العام يوم تأسيسه، كما لم يكن أيضاً مجرد حركة فكرية نخبوية معزولة عن الناس، بل سعى لأن يجمع الأمرين معاً بجدلية خلاقة، وبأفق رحب، فالفكر عنده يحصّن السياسة ويرتقي بها إلى مصاف الرسالة، والسياسة معه تمتحن الفكر وتحدد له ابرز التحديات المدعو لمواجهتها.
هنا لا بد من الاستدراك بالقول: هل نجح البعث فعلاً في إقامة التكامل المطلوب بين المهمات الفكرية والانشغالات السياسية، ألم تطغى مقتضيات السياسة، وأحيانا السلطة، على الاهتمام الفكري؟ ثم ألم تهرب في المقابل نخب بعثية مخلصة من زلازل السياسة إلى ملاذ الفكر.. أسئلة كان "الاستاذ" دائماً يطرحها على نفسه، وعلى رفاقه، بل على الأمة كلها، فبقدر ما كان مسكوناً بالهم التأسيسي كان داعية للمراجعة الدائمة لأنه كان يخشى أن تتحول الأفكار إلى أصنام، والأحزاب إلى أصنام، والقادة إلى أصنام، فتتعطل الأفكار، وتتجمد الأحزاب، وينحرف القادة ويغرقون.
وما دفعني ايضاً إلى الاهتمام بفكر ميشال عفلق هو تلك المعادلة الدقيقة والمبكرة التي رسمها للعلاقة بين العروبة والإسلام حيث حدد بوضوح ان "العروبة جسد روحه الإسلام" مصححاً بذلك خللاً كبيراً اعتور تلك العلاقة في إطار تداعيات انهيار الدولة العثمانية.
لقد أراد أعداء العروبة والإسلام من القوى الاستعمارية المتربصة شراً بهذه المنطقة، والطامحة إلى الاستيلاء عليها وعلى ثرواتها، أن يستخدموا الشعور القومي لدى أبناء الأمة العربية كأداة لضرب الدولة الإسلامية الكبرى مستغلين أخطاء وقع فيها القيمون على تلك الدولة، لا سيما خطيئة التتريك، وان يستخدموا في المقابل المشاعر الإسلامية، لضرب الهوية العربية كرد فعل على وقوع بعض دعاة العروبة في فخ التحالف مع الغرب ضد الدولة الإسلامية.
فكر ميشال عفلق أعاد الاعتبار إلى المعادلة التكاملية الصحيحة بين العروبة والإسلام، موضحاً إن الأولى هوية قومية للعرب، مسلمين وغير مسلمين، والثاني عقيدة دينية يعتنقها مسلمون في كل إنحاء العالم بينهم عرب وغير عرب، ملاحظاً أن العرب ينفردون دون سائر الأمم بكون "يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية"... ومشدداً على "إن الإسلام هو الضمانة أن لا يشتط العرب في قوميتهم... فبالإسلام لا خوف أن تبلغ العروبة عصبية البغي والاستعمار"... ومع الاسلام لا يمكن للعروبيين بالتالي ان يسقطوا في مهاوي المصطلحات أو الممارسات العنصرية أو الشوفينية أو العرقية أو الطائفية أو المذهبية.
في محاضرته بـ"ذكرى الرسول العربي" على مدرج جامعة دمشق في 5 نيسان 1943، والتي هي في نظري بمثابة البيان التأسيسي الفكري الاول لحركة البعث قبل اربعة اعوام من التأسيس الرسمي عام 1947، لم يقفز عفلق فوق دور المسيحيين العرب، بل أكد انه "عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الأصيل سيعرفون ان الإسلام لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصوا على الإسلام حرصهم على أثمن شيء في عروبتهم"، داعياً الجيل الجديد من المسيحيين العرب إلى "مهمة تحقيق هذه الامنية بجرأة وتجرد، مضحين في سبيل ذلك بالكبرياء والمنافع، إذ لا شيء يعادل العروبة وشرف الانتساب إليها".
ويبقى السؤال الذي كان يقلق "الاستاذ" دوماً هو هل حافظ البعثيون على هذه المعادلة الذهبية في إدراك عمق العلاقة بين العروبة والإسلام، أم أن العديد منهم، وتحت وطأة الغلو والالتحاق بتيارات يسارية وعلمانية جذابة في حينها، قد تنكّروا لواحدة من أهم المساهمات الفكرية للبعث، والحركة القومية العربية المعاصرة؟ والسؤال الآخر الذي يقلقنا أيضاً هل ينجح البعثيون اليوم، ومعهم كل القوميين العرب، في الحفاظ على تلك المعادلة الدقيقة في ظل الظروف الحالية بكل تداعياتها بعيداً كذلك عن أي غلّو أو مغالاة؟
أما الأمر الثالث الذي شدني إلى فكر ميشال عفلق والى رؤيته فهو في نظرته إلى العلاقة بين "لبنان والعروبة" رافضاً يأس بعض "الثوريين العرب" من لبنان ومن "إمكانية انفتاحه على العروبة" لأنه حسب "الاستاذ" "لا يجوز للعروبة الثورية أن تيأس من جزء من أجزاء وطنها وشعبها، لأن الثورة العربية ليست الا الانكباب على مواطن الألم وأسباب التأخير والفرقة في مجتمعناً، ومعالجتها من الأعماق والجذور بروح مشبعة بالإيمان والتفاؤل".
وفي هذا الإطار رفض عفلق منذ عام 1960 في مقالة له بعنوان "لبنان والعروبة" "تقسيم الشعب في لبنان إلى قسمين، قسم مع العروبة وقسم ضدها" معتبراً أن "مشكلة لبنان لم تطرح حتى الساعة بشكل صحيح ونزيه، وأول ما يتوجب تصحيحه هو الاعتقاد بأن لبنان يكون مشكلة فريدة في الوطن العربي في حين ان فيه مشكلة ولكنها ليس أكثر المشاكل العربية صعوبة".
ودعا "الاستاذ" في ضوء هذه الحقيقة إلى "وضع حد للاعتقاد الخاطئ الذي يعتبر كل نقص أو خطأ في تصرفات بعض الدول العربية نقصاً في القومية العربية" ليصل إلى استنتاج بالغ الأهمية "مشكلة لبنان مع العروبة ليست إلا مشكلة تقدمية العروبة"، ويمكن أن نضيف اليوم وديموقراطيتها ايضاً وحرص دعاتها أن يروا فيه تكامل وطنيات لا إلغاء للوطنية، وان يعتبروا أن العروبة هي فيض في الوطنية وليست نقصاً في الانتماء الوطني، كما حاول كثيرون القول...
ومن هنا ذهب عفلق إلى ابعد من ذلك حين رأى أن "للبنان دوراً أساسياً في تصحيح وتعميق وتكامل الحركة العربية الثورية، حتى ولو كان الذين يخاصمون العروبة فيه لا يقصدون التصحيح، إذ المفروض في العروبة الحديثة أن تكون قادرة على قبول هذا التحدي والإجابة عليه بمزيد من توضيح تقدميتها وتعميق إيمانها بالحرية والإنسانية". وإذا كان عفلق في المعادلة ذاتها، وفي مقالات أخرى، أشار إلى مشكلات أخرى يواجهها الوطن العربي من مغربه إلى المشرق، فانه في التعامل مع هذه المشكلات العِرقية أو العنصرية أو القومية قرر رفض اعتماد "الحلول النابعة من اليأس التي تتراوح بين بتر الأجزاء المسببة للمشاكل أو الاحتفاظ بها بالقوة والقهر".
وبالتأكيد، هناك جوانب كثيرة في فكر الراحل الكبير وسلوكه تستحق وقفة تقدير؟ منها انه كان قدوة في الزهد والحياة البسيطة الخالية من كل أشكال الاستعراض، كما كان رغم هدوئه المميز، صلباً في مواقفه، ثابتاً على مبادئه، حريصاً على تغليب الرؤية القومية والإنسانية الأوسع على الرؤية الحزبية الضيقة، مدركاً إشكالية العلاقة بين التطلعات القومية الواسعة للبعث وبين الإمكانات المحدودة للسلطة في القُطْر، مشدداً على مركزية القضية الفلسطينية رافضاً الرهان على الأنظمة في تحريرها، داعياً إلى احتضان ثورتها وشعبها حتى ولو بدرت منها أخطاء، مولياً جزءاً مهماً من جهده وفكره لكل قطر وإقليم عربي.
لقد توجه عفلق في وقت مبكر إلى اقطار المغرب العربي منبهاً لاهمية دورها مطلقاً عبارته الشهيرة عن الثورة الجزائرية بعد انطلاقها بأنها "مفاجأة العروبة لنفسها"، كما ابدى اهتماماً باليمن الذي رأى في ثورته عام 1962 ثأراً من جريمة الانفصال قبل عام، وهي الجريمة التي رفض عفلق التهاون معها ومع مرتكبيها منذ اللحظة الاولى.
وقد لفتني في "الاستاذ" عنايته بالنص عناية استثنائية، فالمضمون الراقي عنده يحتاج إلى أسلوب راق، ونهضة الأمة كعمل إبداعي شامل تستدعي إبداعا في الكلمة والعمل، في الفكر والممارسة، في الرؤية والحركة على حد سواء، فجمعت مقالاته بين قوة النص الأدبي وعمق النص الفكري.
ومما تميز به عفلق أيضاً هو إدراكه العميق لدور مصر وأهميتها في حياة العرب، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، لذلك استبشر بجمال عبد الناصر بعد سنوات على ثورته، وبقي مقدراً لأهميته ودوره واستثنائيته طوال حياته، رغم كل ما طفا على السطح من خلافات وإشكاليات مؤذية في العلاقة بين ناصر والبعث، ولا أنسى كيف رفض عفلق على مدى يومين بعد رحيل عبد الناصر أن يستقبل أحداً أو يحادث أحداً فلقد خلّف ناصر برحيله حسب عفلق "فراغاً كبيراً" في الأمة يصعب ملؤه. ولقد أثار ذلك الوصف لغطاً كبيراً في أوساط بعض البعثيين آنذاك لأنهم اعتبروه استهتاراً بدور حزبهم فيما اعتبره عفلق إقراراً بالحقيقة، وتجاوزاً لخلافات وحساسيات، وإنصافاً لدور القائد الكبير والقطر الكبير الذي كان يرى في غياب حركة كالبعث عن الحضور في مصر نقصاً كبيراً كان يسعى إلى تجاوزه دائماً، خصوصاً ان البعث، نجح قبل حل نفسه مع قيام الوحدة عام 1958، في استقطاب مجموعة من خيرة مثقفي مصر ومبدعيها.
أما العراق فقد احتل دوماً موقعاً مميزاً في عقل "الاستاذ" ووجدانه، منذ أن بدأت الإرهاصات الأولى لولادة البعث من خلال لجان نصرة العراق في سوريا عام 1941، إلى أن بات فرع البعث في العراق احد أهم فروع الحزب الذي انطلق من دمشق ليعم أقطار الأمة كلها، كما بات مناضلو البعث في العراق مدرسة في الصلابة والتضحية والبذل تألقت في الخمسينات والستينات لتستعيد وهجها بعد الاحتلال من خلال مقاومة أذهلت العالم كله وساهمت في إعادة صياغته.
إن نظرة عفلق للعراق كانت تنطلق من أهمية هذا القطر العربي القوي والغني والعريق، وهي الأهمية ذاتها التي جعلت العراق هدفاً لأعداء الأمة يسعون لتدميره وتمزيقه وإبادة شعبه ونهب موارده، ولم يخيب بعثيو العراق وقادتهم أمل أستاذهم ومؤسس حزبهم بهم فقدموا رئيساً وقيادة ومناضلين هم اليوم أمثولة في الصلابة والشجاعة والإيمان في مواجهتهم المحتل وسجونه وإرهابه ومنصات إعدامه.
لقد حان الوقت لإنصاف هذا المفكر العربي الكبير الذي اجتمعت على ظلمه وتشويه صورته وتزوير مواقفه قوى متعددة، بعضها من داخل حزبه وبعضها من خارجه، بعضها من داخل تياره وبعضها من خارجه، بعضها من داخل امته وبعضها من خارجها وفي جميع الحالات، كان الظلم يتضاعف حين يستسهل البعض التهجم عليه بإيحاءات تفوح منها رائحة تعصب فئوي ذميم.
إن إنصاف ميشال عفلق لا يعني إغفال الجوانب السلبية في التجربة التي قادها، وهي ليست قليلة، بل ان ندرك ايضاً الجوانب الايجابية في تلك التجربة وهي كثيرة، وفي جميع الاحوال فان عفلق لم يكن الوحيد بين الكبار في هذه الامة، وهذا العالم، الذين تعرضوا لظلم غير مبرر.
ولعل نقطة البداية في عملية الإنصاف هذه تكمن في أن نعيد جميعاً، وأقول جميعاً بعثيين وغير بعثيين، قراءة ميشال عفلق والتعمق في مسيرته.
ولعل من ابرز ما يمكن عمله في هذا المجال هو إنشاء مؤسسة ميشال عفلق للدراسات القومية، كما عقد مؤتمر فكري سنوي في ذكرى رحيله لمناقشة أفكاره وتجربته من ضمن أفكار الحركة القومية العربية وتجاربها...
استقبلت في احد أقطار المغرب العربي منذ أشهر، وفداً من الطلبة الجامعيين الذين فوجئت بمستوى وعيهم وثقافتهم واستعدادهم النضالي، وفوجئت أكثر انهم بعثيون من مدرسة ميشال عفلق رغم أن اغلبهم قد ولد بعد رحيل المفكر الكبير... شعرت حينها بالطمأنينة لأننا في امة تحيا بصدق قادتها وشهدائها ومناضليها وعلى مدى العقود والقرون، وتأكد لي فعلا اننا ما زلنا امام نقطة البداية من جديد...
* المنسق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية
تعليقات: