الملك أبو علي ملك الجلاب والتمر والسوس (بلال قبلان)
يشبه أبو علي ضوء النهار. هو مثله يظهر باكراً ويختفي عند المساء. شرابه الحلو الأسود يروي ظمأ عطاشى الصيف. والرجل ليس بائعاً للجلاب والتمر الهندي وعرق السوس فحسب، أو «ملكهم» كما يطلق على نفسه عبر اللافتة المعلقة. في قبعته وثوبه البرتقاليين ومنشفته المبللة، المعلقة أبداً على خصره، جزء من مهنة وتراث ومنطقة وناس وصيف.
لم يتعلم ابن الثانية والسبعين صناعة الشراب على يد أحد. يقول إنه أتقنها وحده عن طريق «النظرية»، أي بالتجربة. كان هذا منذ خمسين عاماً. شاب يجر عربته إلى وسط بيروت. تحديداً إلى ناحية قريبة من موقف الشام، في منطقة المعرض. إحدى صور الصحف التي تزين عربته الخشبية توثق هذا الأمر. تنتشر هذه الصور بكثرة على العربة العتيقة. يحب المصورون لقطة بائع الجلاب وعربته، لا سيما حين يكون من الأكثر شهرة في هذه المهنة العتيقة.
في زمن الوسط طلب منه أحد أصحاب محلات الجلاب المعروفين أن يعمل لديه. لم يفهم من العرض إلا لوضع حد للمنافسة التي شكلتها عربته لصاحب المحل. رفض العرض المغري يومها. أبو علي حر، ويريد أن يبقى حراً.
أمام زاوية مسجد عائشة بكار يقف يومياً بعربته. الجميع تعود أن يراه بشكل يومي. إذا تغيب لسبب أو لآخر يترك فراغ مكانه أثراً لافتاً. أبو علي وعربته جزء أساسي من مشهد المنطقة الشعبية. مع هذا، وبرغم لهجته البيروتية «القحة» في بعض الأحيان لا يعرف كثيرون أن جذور الرجل جنوبية.
اسمه الكامل حسن قبيسي. من بلدة زبدين. تزوج مرتين. زواجه الأول لم يثمر أطفالاً ولاحقاً تطلق «لسبب خاص». ثم تزوج ثانية. حصته من الحياة شاب واحد، علي. لا يجيد علي مهنة والده، على الرغم من أن أبوعلي كان يتمنى ذلك. أم علي هي السبب. يتهمها بأنها أسرفت في تدليل الولد الوحيد. يغضبه أنها لا تريد له أن يتعلم المهنة التي يعيش منها أبوه. ما زال علي، الشاب العشريني، يبحث عن هدفه في الحياة.
مع الفجر يحضر أبو علي إلى الغرفة الصغيرة التي يملكها في زاروب حمود ليطبخ الجلاب والسوس والتمر الهندي. هذه المهمة تأخذ نحو الثلاث ساعات من الوقت أو أكثر بقليل. الجلاب يصنع من حب الزبيب، أي العنب المجفف و«عبقة» البخور. السوس الناعم «يضرب» بالمياه.
عند الانتهاء من الطبخ والتحضير، حيث تكون الساعة قد قاربت الثامنة والنصف، يصل لوحا الثلج. تجهّز العربة. يملأ الجلاب والسوس في إبريقين نحاسيين كبيرين. أما الإبريق الثالث فمخصص لمياه الخدمة. شراب التمر الهندي يوضع في قنان بلاستيكية. الثلج مكانه في خزانة زجاجية خاصة. كل شيء بات جاهزاً للانطلاق.
في الماضي دار بعربته في المناطق. اليوم لم تعد السن تساعد. شد العربة صار أقوى من الجسد الكهل لذلك قرر قبل بضع سنوات اتخاذ نقطة ثابتة له. والزبائن يحفظون هذه النقطة. يأتونها مشياً وعلى الدراجات النارية وبالسيارات أحياناً.
فستق وصنوبر وقضامي
ليس طعم شراب أبو علي ما يميزه، بل هي علاقته الملتبسة بالزبائن. فعلى عكس الكثير من البائعين البشوشين يبدو الرجل جافاً إجمالاً في تعاطيه معهم. الأغرب أن هذا النوع من التعاطي لا يؤثر في الزبائن بل هم تعودوا على مزاج أبو علي العكر. وأبو علي نفسه لا ينكر صعوبة مزاجه. يعترف دونما خجل: « الزبون المزعج أعامله بلؤم». والزبائن فيهم الخلوق وفيهم غير الخلوق. لذلك من الممكن أحياناً سماع شتيمة أبو علي.
يطلب شابان مراهقان كوبين من السوس. يهم بصب الأول منهما في كوب من الستانلس المخصص لهذا النوع من الشراب. لكن الشابين يسارعان إلى طلب شرابهما في كوبين من البلاستيك. يقول أبو علي «إن اليوم الجميع يريد أن يشرب بكوب البلاستيك».
لماذا يا أبو علي؟
«هاك موديلو».
وعلى السائل أن يستنتج وحده أن العبارة الأخيرة تعني أن الزبون يعتبر أن الكوب البلاستيكي أكثر نظافة، لأنه يستخدم لمرة واحدة. يعلق أحد الشابين بأن الكوب البلاستيكي يصغر حجمه في كل مرة. فيرد عليه أبو علي: «هيك بدّو المخرج». والمخرج هو طبعاً، أبو علي.
زبون آخر، أربعيني بسحنة سمراء وشعر أبيض فوق السالفين، يطلب منه كوباً من الجلاب. حين يهمّ بصبه له بكوب من البلاستيك، يرفضه. يريد شرابه بكوب من الزجاج. برأيه أن الكوب الزجاجي يسع أكثر من البلاستيكي. يستغرب أبو علي هذه الفكرة التي تفتقت من مخيلة الزبون فيتحداه: «أتراهن على هذا الأمر؟».
بداية تحضير الكوب تبدأ بحفه بلوح الثلج من أجل أن يمتلئ بالثلج المهشم. لكن الزبون الذي لم يعد يتحمل حرارة الشمس على رأسه بعدما سرقت عربة الجلاب ظل الشجرة كله، يعلق متأففاً: «صارلك ساعة بتحفر بالثلج!». فيرد عليه أبو علي بنبرة لا تخلو من حدة وعصبية: «طول بالك!». بعد أن يصب الجلاب من الإبريق يطلب الزبون منه أن يكثر له من المكسرات. والمكسرات هنا تعني حبات الفستق الحلبي الأخضر والصنوبر المنقوعة في المياه حتى تحفظ نضارتها. والصنوبر غال. لماذا تستخدم الصنوبر إذا؟ يجيب بشيء من التهكم: «شو بعمل؟ بحط قضامي؟!».
يتناول الشاب الأسمر الذي يتصبب عرقاً الآن الكوب الزجاجي ويبدأ بهزه يمنة ويسرة كي يذيب الشراب الثلج فيصير أكثر إنعاشاً. وبثلاث جرعات فقط يبلع الشاب محتوى الكوب. ثم يعلق ما معناه أنه في شهر رمضان «تطوف»، أي تكثر، الزبائن عند أبي علي. لا يستسيغ أبو علي هذه الدعابة التي تنطوي على شيء من الحسد. يقطب حاجبيه دون أن ينبس ببنت شفة ويتابع عمله. يضع الشاب الكوب الفارغ على الغطاء الجلدي الأحمر الذي يزين أرضية العربة بعد أن يدعو لأبو علي بسلامة اليدين. لكن هذا الأخير لا يرد عليه. يتناول الكوب ويبدأ بغسله بالماء والصابون، فالنظافة عنده تحل قبل أي شيء. وعندما ينتهي من غسيل الكوب في الوعاء البلاستيكي الذي يتواجد تحت إبريق الماء النحاسي يحمل ما فيه و«يطرشه» في الشارع.
يركن «ميكانيكي» عشريني دراجته النارية قرب العربة ثم ينزل عنها. أظافر الشاب الملونة بأسود شحم محرك السيارات تدل على نوعية عمله. يدعو بصوت عال الزبائن ألا يشربوا من عند أبي علي «لأن مشروباته مش طيبة». نكتة سمجة لا تلقى أي صدىً. يعود الشاب إلى جديته بعدما لم يلق أي اهتمام ويطلب كوباً من عرق السوس. فيكثر له أبو علي من نقاط ماء الورد المرشوش من قنينة زجاجية في الكوب عل هذا يزيد من حلاوة لسانه. يفرح الزبون. يصبح أبو علي عندها «أبا الطيب». وتستمر المناكفات على هذه الشاكلة طوال النهار إلى أن ينفد الشراب قبيل الغروب.
يبدأ موسم المشروبات في أول الصيف وقد يمتد إلى التشرينين «إذا كانا حارين». في الشتاء يتوقف بيع الجلاب والتمر والسوس. الشراب المثلج لا يصلح للبيع في فصل البرد والصقيع. تنقلب العربة إلى تقديم شراب الليمون العصير وصحون القطايف بالقشطة. وفي الشتاء فقط، يصبح مضطراً إلى توسيع منطقة بيعه، ولو زاد هذا من تعب الجسد. يصل إلى فردان حيث تتواجد مكاتب وشركات الموظفين. «أصبحت المهنة متعبة. والمهنة تستر عائلة في الصيف لا في الشتاء. أما إذا العائلة كبيرة.. فلا تسترها».
تعليقات: