ستنقرض المهنة بعد 20 عاماً على ابعد تقدير
لم تستطع الحداثة والآلات المتطورة القضاﺀ عليها نهائياً. فما زال بعضهم يتمسك بها بعد ان ورثها "ابا عن جد" ولكن ينظر بعين الخائف على مستقبلها. لم تسلم مهنة تبييض النحاس ابداً من التكنولوجيا بعد ان اجتاح "الستليس" مطابخ سيدات البيوت ما غيب الاواني النحاسية. لم يعد "تبييض الطناجر" كما يقال في المثل الشعبي يأخذ من تفكير ربات المنزل، فالله يبارك بالجديد على حساب القديم. التبييض مهنة على طريق الزوال، تتشبث بذكريات "ايام العز" وتحاول ان تغمض عينيها عن مستقبل مجهول.
يعتبر عمر المهنة في حياة أبو فادي صغيراً جداً إذا ما قورن بعمرها في حياة ابو احمد زميله في المهنة في احد احياﺀ البسطة التحتا, لكن ثلاثين عاماً قضاها أبــو فــادي في صناعة النحاس كفيلة بأن تحجز في حياته مساحة أثيرة يطيب الكلام عنها. يحدثك أبو فادي عن مشواره في هــذه المهنة التي أكــل عليها الــدهــر وشــرب حسب قوله "بــدأت العمل في المهنة وعمري 12 سنة فكان والدي مبيضا للنحاس وأجبرني على العمل معه, ولم أكن أحب هذه المهنة ولكني مع الأيــام وجدت ما يربطني بها.. ورغم ذلك لا أريد لأي مــن أولادي تعلمها فاليوم باتت المهنة محدودة الانتشار, ولم يعد الناس يستخدمون الأدوات النحاسية رغم فائدتها الكبيرة فهي تعطي الطبخ نكهة مختلفة ولكن لم يعد أحد يكترث بها اللهم الا أصحاب المطاعم وبائعي الحلويات".
ويرسم أبو فادي مستقبلاً اسود لمهنة تبييض النحاس فهي برأيه لن يستمر العمل فيها طويلاً نتيجة انكفاﺀ جيل الشباب عن العمل بها بسبب مردودها المتواضع ويقتصر العمل فيها اليوم على جيل تخطى الستين من عمره لذا فما اتوقعه ان تنقرض "ستنقرض على الأكثر بعد 20 سنة, فالنساﺀ اليوم يبتعدن عن استخدام وعاﺀ النحاس الذي يحتاج تبييضاً كل 5 - 6 أشهر, ويقبلن على استخدام أوعية الستانلس ستيل ما يعني ضعف مهنتنا أكثر فأكثر".
يحدّث أسد "عن مهنته من داخل محل صغير في منطقة الشياح؛ محل مليﺀ بــأوان نحاسية على مختلف أنواعها لم يعد يتسع لها المكان من كثرتها. بدأ المعلم أسد ممارسة مهنة التبييض فــي السبعينات حيث تعلمها من والده وهو من قرية جنوبية تشتهر بهذه المهنة قديماً.
يقول أسد إن مهنة التبييض مهنة شرقية قديمة تختص بتنظيف النحاس على أنواعه عندما يتأكسد ولا يعود صالحاً للاستعمال. هناك كثير مــن الــزبــائــن الــذيــن مــا زالــوا يستعملون هذه الأواني النحاسية كالطناجر الكبيرة في الطبخ وبخاصة فــي الافـــراح والــمــآتــم والمناسبات الإسلامية التي تقدم فيها الولائم، وطبعاً بعد الانتهاﺀ من الطبخ تحتاج هــذه الأوانـــي إلــى التنظيف ويتم التنظيف عادةً بالتبييض.
ينقع المبيض الحلة بماﺀ النار وينظفها بعدها بماﺀ ثم يضعها على نار يحميها على درجة عالية من الحرارة، بعدها يجلب القصدير ويضع منه على المكان الذي يريد تبييضه، فإن كان يريد تبييضها من الداخل يضع القصدير عليها من الداخل أما إذا كان يريد تبييضها من الجهتين فيضعه من الخارج والداخل.
ويــضــيــف أســــد أن الأوانـــــي النحاسية إن لم تتبيض كل فترة لا تعود صالحة للاستعمال وتعرض الشخص للتسمم إذا ما طبخ فيها وهي تبدو أنها بحاجة للتبييض من مادة الجنزير التي تظهر عليها.
وهناك نــوع آخــر من التبييض يــتــحــدث عنه المعلم أنـــور الــذي يستعرض معنا التحف النحاسية داخــل محله الــمــوجــود فــي "طريق صيدا القديمة" بجانب عين الرمانة فــي بــيــروت. يــقــول أنـــور إن هــذه المهنة أصبحت من المهن التراثية القديمة ولكن لها زبائنها الخاصيين الذين لديهم هواية في التحف النحاسية القديمة؛ "فكثيرا ما يأتي أشخاص إلى محلي طالبين أن أبيّض لهم ثريات وشمعدانات ومصابيح وتماثيل أثرية كانوا قد توارثوها من أجدادهم وتحتم عليهم التقاليد أن يحافظوا عليها لأنها تعتبر إرثا عائليا إلــى جانب قيمتها المالية المرتفعة وجمالها الأثري".
يضيف المعلم أنــور أن عملية التنظيف لهذه التحف تكون مختلفة عن تبييض الأواني الأخرى وطريقتها أصعب، أولاً يفصل المبيّض سلك الكهرباﺀ من التحفة وبعدها يفككها إلى قطع صغيرة ويضع كل قطعة على فــرشــاة كهربائية خشنة ثم ينظفها على فــرشــاة ناعمة وبعد ذلك يضع دواﺀ اشبه بمادة الصابون خاصا بالتبييض. وعند الانتهاﺀ من تنظيفها يقو م بتلميعها جيد اً وبعدها يجمعها لترجع جديدة تبرق كما كانت من قبل.
تعليقات: