سمير القنطار وعقيلته الزميلة زينب برجاوي في منزلهما
يأتي الصوت من وراء جهاز «الأنترفون» مألوفاً وإن كان اقل رسمية مما هو عليه في وسائل الإعلام. يقول سمير القنطار «أهلاً.. تفضلوا». يمضي المصعد سريعاً إلى الطابق السابع لنجده في انتظارنا عند الباب. يده إلى صدره مرحباً وباسماً بود بعيد عن المسافة التي أطل بها على الوفود التي احتفلت به أيام خروجه من المعتقل. لا مصافحة مع النساء. المسألة محسومة لناحية التزامه الديني المنسجم مع الخط الذي اختاره قبل عدوان تموز 2006 بأشهر، يوم أضحى عضواً ملتزماً في حزب الله من وراء القضبان.
مع طلته عند الباب تطل الأنثى في حياة سمير القنطار. وجهه اقل حدة وجدية مما كان عليه، في عينيه ذلك البريق الذي نجده في عيني العاشق، وعلى ثغره بسمة تشي بانسيابية نفسية وبارتياح الرجل لرفيقة درب طال انتظارها. إنه اكتمال العثور على نصفنا الآخر.
البيت نفسه ينسجم مع سيدة قلب صاحبه. لون الزهر لمطبخ مرتب بعناية «ستاتية» دقيقة تكسر من حدة سواد رخام الأرض. ويكمل بنفسج الكنبة الكبيرة في صدر الصالون لعبة الألوان التي تؤديها قطع سجاد تراوح ما بين الرمادي بلونيه الفاتح والداكن ومعه البنفسجي. وتُرك الأسود والأبيض لستائر تخفي من نور الشمس ما يلزم لمنح إضاءة الديكور وظيفتها المبتغاة.
ومن المدخل يبدو السرير الدائري في غرفة النوم وتحت حافته يتثاءب جلد نمر أحمر يتمرد على كلاسيكية الأسود والأبيض المخطط على السرير وتذكر بالأحمر الخفيف في غرفة الجلوس.
سمير نفسه بالقميص الشبابي الأبيض ذي الياقة العالية، من «التافتا» المطرزة باللون عينه، يبدو مختلفاً عنه في البزة العسكرية والأخرى الرسمية اللتين كان يطل بهما. يساهم بنطال الجينز في رسم صورة لرجل يبدو اصغر بعشر سنوات مما كان عليه.. أهو طعم الحرية أم سحر «زوزو»، كما ينادي زوجته زينب بين حين وآخر، في حياته؟
لزينب سحرها عليه، تقول ذلك عيناه اللتان تستديران طوال الوقت ناحيتها، تلمعان بالشكر وهي تحيطه بحبها واهتمامها واحتضانها. البيت «ذوقها». أرادت أن تفاجئه بالديكور والألوان، وأن تؤسس له «قفصاً» ذهبياً يعوض ثلاثين عاماً من الاعتقال. وأحب سمير البيت لأنه «ذوق زينب وأكيد حلو».
ثلاثون عاماً مرت بقسوتها، لكن سمير القنطار صدّق حريته «منذ اللحظة الأولى للإفراج» عنه. أتى المجتمع اللبناني من موقع المتابع لأدق التفاصيل، وبالتالي العالم بالمدى الذي بلغه «تغيُّر القيم والمبادئ ومزاج الناس واهتماماتهم». وضع نصب عينيه «ما آلت إليه الأمور من كذب ونفاق وعدم مصداقية». أمور تتناقض مع مجتمع الأسرى كـ «قوة جماعية منظمة وملتزمة ومتحدة». هناك ينسلخ الفرد الأسير عن خصوصيته العائلية لصالح الجماعة، وتتحول الأموال إلى «الصندوق الوطني» الذي يمول شراء ما يلزم من احتياجات وتوزيعها بالعدل على الجميع.
خرج سمير من «أرقى العلاقات الإنسانية والتعاضد» إلى المجتمع اللبناني وصعوباته وخصوصاً إلى قمة الانقسامات السياسية التي تطال الأسس التي ناضل وضحى بثلاثين عاماً من شبابه في سبيلها.
وكخط دفاع أول، خفّض سمير من توقعاته من المجتمع ورفع من مستوى متطلباته من نفسه، «أي أنني سأبقى كما أنا» كمن توقع الاحتمال الأسوأ ليتهيأ له.
من التزامه العقائدي، إلى انخراطه في مجتمع المقاومة وحزب الله بالدرجة الأولى، ارتاح سمير القنطار الى محيط ينسجم مع مبادئه وقيمه التي يتمسك بها، «وهذا ما خفف من الصدمة» التي جاءت اقل مما خاف منه وتوقعه.
بعد عام على الحرية ماذا بقي من المعتقل؟
يبتسم سمير فيكتسي وجهه بطفولة تتخيل معها كيف لسيرة الاعتقال أن تترك له هذا الهامش من الارتياح. للمعتقل «الذاكرة الأوسع» من حياته، حتى وهو يجالس زينب، ويتحدث في أمور حياتية عادية تحضره تفاصيل المعتقل وناسه وهموم من بقي هناك بعيداً عنه.. يسرح العقل إلى خزينه الأكبر فيخرج المعتقل بتفاصيل وسيرة حياة وصداقات وعلاقات والكثير من الذكريات. يقول سمير انه يروي ما يرويه عن المعتقل من ذاكرة تصالحت مع نفسه بعيداً عن «فوبيا» العودة إلى الاعتقال.
الإيجابية التي استُقبل بها وحب الناس والهالة التي أحاطوه بها في لبنان وسوريا وكوبا واليمن وإيران، عززت لديه المسؤوليات التي لم تغادره أصلا، «وحملّته التزامات اكبر».
أخجلته «أبوة» السيد حــسن نصرالله التي أحاطه ويحـــيطه بها واهتمامه بأدق تفاصيل حياته. أخجله لسان حال عائلات شهداء المقــاومة، ومن بينهم شهداء حرب تموز الذين قالوا له «بعودتك عاد أولادنا إلينا».
عاد سمير القنطار من ثلاثين عاماً من النضال في معتقل لم يستكن لسجنه وتعذيبه وضغوطات سجانه. عاد وفي جعبته خزين نضالي قل أن يمتلكه مقاوم آخر. لكنه في المقلب الآخر للحياة، في المقلب الاجتماعي والحياتي والشخصي كان عليه أن يبدأ من الصفر.
ومن الصفر بدأ فعلاً.
أمام صاحب الدكان الأول الذي دخله، اخرج سمير القنطار ماله ووضعه أمام البائع وقال له «خذ قيمة ما اشتريته». لم يكن يعرف المال ولا قيمته ولا كيفية الدفع ولا الفارق ما بين هذه القطعة النقدية وتلك. «تشويش» بالكاد خرج منه عشية دخوله عامه الثاني من الحرية.
أما الفارق في المتطلبات والمصاريف فتركه لزينب التي تولت تجهيز البيت واهتمت بالتفاصيل كافة. «أردت أن أؤسس مملكته في قلبي»، تقول زينب، وهي ترمقه بنظرة دلال يعكسها الزجاج الأسود اللّماع للطاولة، كما تأثيرها على حياته.
«المرأة، يعني زينب، أضفت طراوة فائقة على حياتي» يعترف سمير بتأثير ارتباطه بـ «زوزو» على كامل حياته. فـ «زينب ليست شريكة حياة ولا حبيبة فقط»، هي متفهمة لالتزامه بالمقاومة وتحترم خياراته، لا بل هي من صلب المدرسة عينها.
إثر زواجه، بثت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي تقريراً قالت فيه إن «زينب برجاوي قد تقنع سمير القنطار الآن بعدم الرجوع إلى إسرائيل». أما زينب فلن تكتفي باحترام خياراته، لكنها «مستعدة للعودة معه إلى فلسطين المحتلة، وهذا ليس للاستهلاك الإعلامي».
تضحك زينب وتقول إنها، في الأساس، تعرف أبعاد خيارها، وها هي تتشهد مع اللحظة الأولى التي تضع قدمها في السيارة مع زوجها «المستهدف»، والمحاصر بإجراءات أمنية غالباً ما يتفلت من «طقوسها» ومتطلباتها.
الإجراءات الأمنية نفسها هي التي تحد بعض الشيء من علاقاته الاجتماعية وصداقاته كما «الآخرون». هو لم يعتد المرافقين ومستلزماتهم كثيراً، ويتكل «على الله» بالدرجة الأولى ويبدأ يومه بما رسم لنفسه من خط مقاوم واضح.
الخط العسكري المقاوم هو ما اختاره من خيارات أربعة كانت متاحة له في مناقشة مستقبله مع السيد حسن نصر الله. الشق السياسي العام، أي النيابة، أو الحزبي ضمن حزب الله، أو الاجتماعي في قلب مؤسسات الحزب، أو العسكري. واختار سمير القنطار الجناح العسكري من دون تردد.
ثلاثون عاماً من النضال ومن دفع فاتورة انسحبت على ثلاثة أرباع العمر حتى الآن، تشكل خزيناً لأسير محرر قد يرغب في اختيار طريق أقل خطراً وإن بقي في صلب المقاومة.
بالنسبة لسمير القنطار، «المقاومة ليست وظيفة نتقاعد منها. هي خيار حياة ومصير». وعليه اختار الحياة نفسها والخط عينه.
خيارات لا علاقة لها البتة بحزب الله وبالوعد الصادق. كان سمير القنطار في قلب المعتقل عندما اختار خط حزب الله ومقاومته. لا علاقة «للعرفان بالجميل» بذلك الرابط القوي مع الحزب ومع السيد حسن نصر الله.
علاقته بالسيد وتواصله معــــه بدآ منذ كان في داخــــل سجنه في المعتقلات الإسرائيلية، والوسيلة «سرية» لها خصوصيتها وارتباطها بالمقــاومة.
خياره الجناح العسكري للحزب كنضال ومقاومة ينسحب على تفاصيل حياته ويومياته وبالتالي «سرية».
وعلاقته بالسيد حسن تخضع لقواعد الأمن والظروف الأمنية للسيد خصوصاً. اسعد لحظات الحرية هي التي وجد نفسه فيها أمام السيد «وفي حضرته». يومها شعر بأن الدنيا «مش سايعتني». وتوالت اللقاءات إلى أن ترتبت حياة سمير القنطار وفقاً لخياراته. لقاءات لم تنته وإنما طبعت بوتيرة عملية وفقاً لمتطلبات العمل والمقاومة.
العائلة من أهل وأقارب لهم خصوصيتهم ومكانتهم عند سمير. وهم احترموا ويحترمون خياراته في كل شيء. كبر الأخوة والأخوات ورفاق الدرب والنضال وأصبح لكل منهم حياته. حتى اللقاءات بالأسرى المحررين من أصدقاء المعتقل محكومة بظروف كل منهم وبحياته وتفاصيلها.
يوم دخلت زينب برجاوي مع وفد قناة «العالم» منزل سمير في عبيه لتهنئته بالحرية تركت أثرها في نفسه.
استفسر سمير عن مقدمة البرامج وعن رقم هاتفها. وبعد شهر تقريباً، وبينما كانت زينب ترتاح من يوم رمضاني طويل رن هاتفها لتجد سمير القنطار على الخط.
«أريد أن أشكرك على زيارتك لي، أنا اشكر جميع من زاروني»، قال لها رداً على استغراب نبرتها عندما عرَّف بنفسه.
انتهت المكالمة وأقفلت زينب الخط وشعرت بغرابة الاتصال والسبب المبرر.
في اليوم الثاني عاود الاتصال بها تحت ذريعة الاطمئنان إلى صحتها. وفي كل يوم كان يخترع سبباً مختلفاً، إلى أن طلب منها زيارتها في بيت أهلها و«كان النصيب».
تقول زينب إنها «خفضت سقف» توقعاتها من سمير الزوج، ذلك الأسير المحرر الذي قبع ثلاثين عاماً في المعتقلات الإسرائيلية. ماذا عساه يعرف عن المرأة وعن طريقة معاملتها، وعن كل تلك التفاصيل التي تعشقها في التعاطي معها.
لم تكن متطلبة، تقول، وكان ملماً أكثر مما توقعت. في عيد ميلادها الأول بعد تعارفهما وزواجهما كان لها احتفاله الخاص بها، وعلى طريقته، من الورد إلى قالب الحلوى وإلى اختيار المشاركين في خصوصية المناسبة وبالتحديد احتفاظه بعنصر المفاجأة. وفي اللفتات الصغيرة للمرأة يعرف كيف يرضيها بانتباه كانت لا تتوقعه.
تسألهما عن موعد قدوم «المقاوم الصغير» فيضحكان بتواطؤ من يريدان بعض الوقت مع بعضهما البعض «إن شاء الله إذا بقينا بخير السنة الجاية».
تعليقات: