المطران كفوري يطلق مشروع بناء كنيسة التجلي على الجبل المقدس

شروق الشمس من قمة حرمون والصليب الذي صنعه الأوندوف من الشظايا في موقع التجلي
شروق الشمس من قمة حرمون والصليب الذي صنعه الأوندوف من الشظايا في موقع التجلي


قمة حرمون حيث الشروق و«كلام بين الأرض والسماء..

قمة جبل حرمون:

هنا على قمة حرمون، جبل التجلي، حدثت واقعة التجلي فوق ثرى هذا الجبل المقدس قبل ألفي عام، وفق ما يعتقد أبناء الدين المسيحي. تغير السيد المسيح في هيئته، وظهر في صورة مجد لاهوته، وانعكس مجد الرب عليه «فأضاء وجهه أكثر بهاء من الشمس، وحتى ملابسه أشرقت من مجده..» (لوقا 9:29).

وتميزت مناسبة العام، بإعلان المطران الياس كفوري، إطلاق مشروع بناء «كنيسة التجلي» على قمة جبل حرمون، خلال عظة ألقاها بعد صلاة الغروب في المخيم الذي أعدته بلدية راشيا الوادي.

ولعل أكثر الظواهر التي شدّت أنظار المؤمنين، منذ القدم وحتى اليوم، إلى هذا الجبل المكللة هامته بالثلوج غالبية أيام السنة، ذلك الارتفاع الشاهق والموقع الاستراتيجي المطل على كل ما يسع العين أن تشاهده، من بادية الشام إلى بحيرة طبرية وجبال لبنان، والبحر المتوسط وجزيرة قبرص حتى تركيا. وتذكر المصادر التاريخية، أن الوثنيين الذين عبدوا الشمس، ظنوا أنهم يقتربون من معبودتهم الساطعة فوق الجبل، أكثر من أي مكان آخر. جلال وروعة المنظر، دفعت الكنعانيين إلى تأليه الجبل، فأطلقوا عليه بعل حرمون، وشيدوا فوقه هياكل ومعابد، ما يزال يحمل آثارها إلى اليوم.

كان القدماء يصعدون قمة الجبل أواخر كل صيف، ويقدمون نذورهم وأضحيتهم، وظلت الطقوس الدينية تقوم فوق الجبل إلى العهد البيزنطي، حتى إبّان انتشار الديانة المسيحية. ومن أقدم ما بقي من آثار، المعابد الوثنية فوق بعل حرمون، معبد الإله شوب القابع فوق أعلى قمم الجبل على ارتفاع 2814متراً. ويوجد حول الجبل، تسعة معابد تتشابه فيما بينها إلى حد كبير، تتكامل مع المعبد الكبير القائم فوق قمة الجبل، أحدها معبد بعل جاد في الهبارية، ومعبد عين حرشا، وفي منطقة البقاع، والسفوح الشرقية للجبل من الجانب السوري، وفي هضبة الجولان المحتل.

ويبدو أن الموقع، استعمل في وقت لاحق مكاناً للسكن، لذلك أسماه الناس قصر شبيب، وتداولوا حكاية أقرب إلى الأسطورة تقول إن شبيب التبِّعي كان أميراً يمنياً مات على أيدي أبو زيد الهلالي في إحدى حجرات القصر، الذي عُرف أيضاً بقصر عنترة. ولكن لا قيمة تاريخية لكلتا التسميتين.

هناك أيضاً بناءٌ آخر قريب من القصر، بناه الأمير نجم الشهابي عام 1195، لغرض الاستجمام في فصل الصيف، وفيه فاضت قريحة الأمير ببعض الأبيات من الشعر.

ومن الآثار المتبقية فوق جبل الشيخ أيضاً، تلك الأجران الرومانية قرب تلة الجراجمة، حيث كان الرومان يشعلون فيه النار، فتشاهد من مدينة قبرص على ما يذكر الدكتور فيليب حتّي، وكانت بمثابة رسائل يُعرف قصدها من بعيد، في إشارة إلى إشعال النار فوق الجبل، يوم ارتفاع الصليب الذي اكتشفته القديسة هيلانة في القدس بعد أكثر من ثلاثمئة سنة. فأعطيت الإشارة للقسطنطينية بواسطة «قبولة» النار، التي ما يزال المؤمنون يقيمونها ليلة عيد الصليب في 14 أيلول من كل عام، في حين تقام في معلولا في سوريا، التي ما يزال أهلها يتكلمون الآرامية لغة السيد المسيح، احتفالات ضخمة في المناسبة، وهذه العادة متوارثة من جيل إلى جيل، منذ ما يقرب الألفي عام. وكانت قمم جبل الشيخ في لبنان وجبال القلمون في سوريا، من النقاط الثلاث بعد جبل الزيتون في القدس، التي أرسلت عبرها بشرى اكتشاف الصليب المقدس إلى القسطنطينية في بلاد الأناضول.

إضافة لتلك البقايا الأثرية، هناك نص اكتشف على أيدي الأثري البريطاني جورج سميث عام 1966 م، يعود إلى القرن التاسع ق. م، دوّنه الملك الأشوري شلمنصر، ويصف فيه أعماله الحربية فيقول، «في السنة الثالثة من ملكي، عبرت الفرات للمرة السادسة عشرة»، وكان الملك حزائيل الآرامي الواثق من قوته، قد حشد جيشاً عظيماً وتمركز عند جبل سنير عند مدخل لبنان حصنه القوي». حزائيل هذا كان ملك آرام دمشق، وسنير هو جبل الشيخ عند الأشوريين، إضافة لما عرف به من أسماء كثيرة. فالصيدونيون كانوا يدعونه حرمون سيرون، والأموريون سنير أو شنير، وعرفه العبرانيون باسم سيئون وسعير، كما ورد في العهد القديم، ودعاه الآراميون طور ثلجا، أما اليونانيون ومن بعدهم الرومان، فأطلقوا عليه اسم انتيليبانوس أي المواجه للبنان، وأخيراً أطلق عليه العرب اسم جبل الثلج. فقد جاء فيه في قصيدة لحسان بن ثابت يمدح فيها أميرين من أخواله من آل جفنه الغساسنة.

لا شك أن تسمية «جبل الثلج»، أكثر الأسماء تعبيراً عن علاقة من نوع آخر، قامت بين الجبل ومحيطه القريب والبعيد، إذ كان منذ العصور القديمة إلى وقت قريب، يمد البلدان بالثلج خلال فصل الصيف وقيظه. استورده الفراعنة عن طريق مدينة صور محملاً فوق السفن، كذلك فعل ملوك صيدا وصور ودمشق وتدمر، حتى راجت هذه التجارة وامتهنها البعض من الناس.

إن انتشار البقايا الأثرية فوق جبل الشيخ، لا يقتصر على المواقع المذكورة، وقد تكون وعورة الجبل قد أجّلت قيام مسوحات أثرية فوق سطحه، كما أن وقوع القسم الجنوبي الغربي من الجبل ضمن نقاط الصراع العسكري في إطار الصراع العربي الإسرائيلي، قد منع من دراسة بعض الآثار المنتشرة عند تلك السفوح.

ولعل أكثر أمنية يحلم بتحقيقها كثيرون، رغم صعوبة الطريق والمسالك الوعرة، والبرد القارس ليلاً، هي الوصول إلى قمة جبل الشيخ – الحرمون المقدس، في رحلة الحج إلى حيث تجلى السيد المسيح لثلاثة من تلامذته هم بطرس، يوحنا ويعقوب. وهي رغبة تزخر بها نفوس المؤمنين، وحلم يدغدغ خيال كثيرين، لمشاهدة أروع منظر في الكون، هو منظر شروق الشمس من قمة حرمون، والاستمتاع بمشاهدة القرص البرتقالي وهو يستفيق من سباته، ليشرق شمساً وعافية على الجميع. هذا العام، طاف أكثر من ألف زائر على قمة جبل حرمون، إحياءً لذكرى تجلي السيد المسيح، الذي يصادف في السادس من شهر آب كل عام، وترعى هذه المناسبة وتمولها بلدية راشيا الوادي، التي تعنى بتشجيع السياحة الدينية والبيئية. مناسبة العام تميزت أيضاً بإعلان المطران الياس كفوري، إطلاق ورشة عمل في مشروع بناء كنيسة التجلي على قمة جبل حرمون، خلال عظة ألقاها بعد صلاة الغروب في المخيم الذي أعدته بلدية راشيا الوادي، بالتعاون والتنسيق مع مطرانية صور وصيدا ومرجعيون وراشيا وتوابعها للروم الأرثوذكس، وبدعم ومؤازرة الجيش اللبناني الذي أشرف وتابع ونظم، عمليات انتقال الزوار والوافدين الى الجبل، من مناطق لبنانية مختلفة. منظـر عجيب ومشهـد عـام غـريـب علـى جـبـل حرمون! نـور سـطـع علـى الجبل، فأضـاء مـنـه جـبـل ثابور، السيد المسيح ظهر في صورة مجد لاهوته، كــمـا يهتـف المـلك داود نـبـويـاً، «ثابـور وحـرمـون بـاسمـك يتهـللان».

فبينما كان السيد المسيح بصحبة تلاميـذه في نواحـي مدينـة قيصرية فيليبس، وهي مدينـة بانياس الحالية، الواقـعة عـنـد سفـح جـبـل حـرمـون، سـأل تـلاميـذه، «مـن يقول الناس أني أنـا». وبعد أن أجابـوه بما يفيد حـيرة الشعب وباختلاف آرائهم، سألهم مباشرة، «وأنتـم مـن تقولـون بأنـي هو؟». وهنا أعترف التلاميذ وأعلن سمعان بطرس، «أنـت هـو المسـيح أبـن اللـه». لـذلك يقول متـى البشـير، «ومـن بـعـد ستة أيـام، أي ستة أيام من هذا الوعد، ويوم التجلي، أخذ يسوع تلاميذه بطرس يعقوب ويوحنا، وصعد بهم إلى جبل عال وتجلى أمامهم، فأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور، وظهر لهم موسى وإيليا يتكلمان معه، والنور الإلهي الذي يتمتع برؤيته ملائكة السماء قد شاهده تلاميذه». (متى 16:16).

إن تجلـي السيد المسيح على جبل التجلي وظهوره في صورة مجده، يمكن أن يفهم من الترانيم والتراتيل الكنسية التي كانت تخترق الهدوء الطاغي، ونسيمات الفجر الباردة، ورددها عشرات المؤمنين فوق قمة حرمون، وهم يهللون ويمجدون يسوع المسيح، هنا على جبل التجلي، حيث «تغير وجهه وانعكس مجد الرب عليه، وأضاء وجهه أكثر بهاء من الشمس، وحتى ملابسه أشرقت من مجده..» (لوقا 9:29).

السادسة إلا عشر دقائق، أطلت من البعيد فحبست الأنفاس من روعة المشهد الذي انتظره الجميع. أشرقت الشمس فأضاءت المكان، وظهرت بحيرة طبريا، والجولان السوري، ومدينة دمشق وريفها وبادية الشام، ومزارع شبعا وسهل البقاع، والجبال العالية تشرئب فوق الغيوم، فتبدو القمم الشامخة تجاور السماء والنجوم وطود صنين، إلى البحر الأبيض المتوسط وجزيرة قبرص. بالإضافة إلى المراصد التي انتشرت على امتداد القمم. مرصد الإندوف فوق قصر شبيب، وآخر لجيش الاحتلال الإسرائيلي، فضلاً عن المواقع السورية. وللحال انهمك الجميع بالتقاط الصور، وسط رهبة المشهد وجلال المكان، رغم الطبيعة القاسية التي تكتنفه.

بعد الشروق اجتاح الضباب الحضور على قمة الجبل، وانتهت الرحلة لدى البعض ليعودوا أدراجهم إلى منطقة المخيم، فيما ظل آخرون للمشاركة في قداس العيد الاحتفالي، الذي أُقيم إحياءً لواقعة التجلي التي حدثت على قمة الجبل قبل ألفي عام.

تعليقات: