مادلين أوميواكا: لبنانيّة في إمبراطوريّة الشمس الشارقة

مادلين أوميواكا
مادلين أوميواكا


لن نقع كلّ يوم على لبنانيّة تزوّجت في اليابان وصارت من أهله. لكن ابنة عائلة عبد الجليل التي قذفتها الحرب خارج موطنها، مصيرها استثنائي يشبه الأفلام. لقد اقترنت حياتها بفنّان من إحدى سلالات مسرح الـ«النو»... وقرّرت ألا تكتفي بكيّ الكيمونو، وفكّ شيفرة العواطف الصامتة

سألتقي سيّدة يابانيّة، أو هكذا اعتقدت حين اتصلت بها. هرعت إلى «غوغل» بحثاً عن معنى التحيّة باللغة اليابانيّة، بعدما أقنعت نفسي بأنّ التحيّة الإنكليزيّة قد تبدو غير مبتكرة في سياق كهذا. سبقتني هي، وردّت على اتصالي قبل أن أعثر على ضالّتي. قلتُ متلعثمةً: «مدام مادلين؟»، أجابت: «نعم؟» بالعربيّة، مع علامة استفهام أيضاً، كما يفعل اللبنانيون عادةً. السيدة لبنانية إذاً، لكنّها تتكلّم وتحدد موعداً للقائنا، بنغمة يابانيّة. جميلة هذه النغمة وتلقائيّة أيضاً. من الطبيعي أن تبدو أصليّة، فمادلين عبد الجليل أوميواكا أمضت نصف عمرها تقريباً في الأرخبيل: تعلّمت، ثمّ تزوجت، ثمّ أنجبت ابنةً وابناً وربّتهما بمعاونة دزينة من مربيات الأطفال ـــــ تماماً كما يقتضي أسلوب حياة العائلات الميسورة هناك... لكنّ قصة تلك السيدة التي التقيناها ذات مساء في «مسرح دوّار الشمس» في الطيونة (بيروت)، بضيافة روجيه عسّاف، أكثر تشويقاً من زيجة عاديّة حملت امرأة لبنانيّة إلى بلاد الاغتراب...

«أنا الأجنبية الوحيدة التي دخلت مسرح النو»، تخبرنا. في العرف اليابانيّ، يعدُّ زواج مادلين من ناووهيكو أوميواكا، أحد كبار معلّمي ذلك المسرح، حالةً استثنائيّة. تقاليد المسرح التعبيري الصارمة، سرٌّ تتناقله سلالة أوميواكا منذ ستّة قرون خلَت. طوّرت العائلة ذاك الفنّ المشهدي الطقوسي العريق الذي يجمع بين الشعر والأسطورة والرقص، وجعلته كاراً محظوراً على من لا تربطهم بها صلة دم. عموماً، يندر ارتباط اليابانيين واليابانيات بـ«غرباء» تخبرنا مادلين، ويشتدّ الأمر سطوةً في حالة آل أوميواكا، مالكو أسرار الأشباح والمحاربين العائدين من عالم الأرواح والجنيّات ذوات معاطف الريش ـــــ تلك الشخصيات الأسطوريّة التي مسرحها كانامي كيوتزوغو وابنه زيامي موتوكييو في القرن الرابع عشر.

هي اليوم من الشخصيات العامّة في اليابان وخارجه، وتنظّم عروضاً لمسرح الـ«نو» في كلّ مكان

وصلت كاميرتنا لتقطع الحديث الشيّق... أمام عدسة زميلنا، ارتبكت مادلين قليلاً في شيء من الخجل الذي اكتسبته من أهل اليابان بعد 25 عاماً أمضتها في إمبراطوريّة الشمس الشارقة... صور أخرى في لقائنا كانت باباً للحكاية. من كيس أنيق كثوبها وقرطيها، أخرجت ألبومات العائلة، وصور المسرح، وقصاصات جرائد ومجلات... ترينا صور ولديها ثريا وناووتومو يتمرّنان منذ كانا في الثالثة. المسرح هو غرفةٌ من غرف المنزل، لكنّ والدهما ليس البابا هنا بل «المعلّم»، وواجبهما أن ينحنيا أمامه ويقبّلا قدميه. تتحدّث كثيراً عن ولديها كجميع الأمهات اللبنانيات. ابنتها ثريا متخرجة من «برينستون»، ومخرجة أفلام وثائقية. كذلك ابنها، يعمل في مجال الفيديو.

تماماً كولديها، يتعلّم ممثل النو في عمر صغير التقنين في الكلام والمشاعر، وتحويل الحركة إلى رمز ومصطلح. «هذا الفنّ يكشف الثقافة اليابانيّة كلّها»، تخبرنا السيّدة أوميواكا، شارحةً كيف تسير الحياة اليابانيّة كلّها حسب قواعد صارمة، تماماً كما تحسب الخطوات على خشبة النو بالسنتيمترات. قال لها أحدهم إنّها لن تصمد في هذه الأجواء سنة، لكنّها بقيت 25 عاماً. «طريق العبور إلى هذا الشعب ليس أن تعرفي لغته... كان عليّ احتراف نوع من التواصل خارج الكلام. العاطفة عندهم صامتة، وليست Parole Parole وإطراءات من دون معنى. حين فهمت هذه المعادلة، أدركت أن زوجي موهبة كبيرة وأنّ مهمتي مساعدته».

هكذا قامت بخطوة جريئة وقررت تعميم «مسرح النو». تولّت العلاقات العامّة لـ«فرقة أوميواكا لمسرح النو»، وعملت على تعريف الأجانب واليابانيين على فنّ بقي طويلاً حكراً على الملوك والطبقة الأرستقراطيّة، علماً بأنّ لغة المسرحيات قديمة وصعبة الفهم على اليابانيين أنفسهم. راحت تدعو السفراء إلى عروض تقام في مسرح منزلها الذي يتسع لأكثر من 200 مشاهد، تختار شعار «الخوخة الشابّة» لتضعها على ملابس الفرقة تيمّناً باسم زوجها (ناووهيكو يعني الخوخة الشابّة)... لا تفعل ذلك كأحد شؤونها البيتيّة بل بروح التحدّي: «في عائلة زوجي، على المرأة أن تسير خلف زوجها محافظةً على مسافة ثلاث خطوات، وأن تكوي الكيمونو وتطويه بعد كلّ عرض... أردت أن أبتعد عن هذه الصورة التقليديّة». هي اليوم من الشخصيات العامّة في اليابان وخارجه، تهتمّ بشؤون الجالية اللبنانيّة، تنظّم عروضاً للنو في كلّ مكان ـــــ من الفاتيكان حيث قدّم زوجها عام 1989 عرض «معموديّة المسيح» أمام يوحنا بولس الثاني، إلى «مهرجان قرطاج» التونسي عام 2002 حيث مَسْرَحَ «هنيبعل»، وصولاً إلى لبنان قريباً حيث سيدير ورشة عمل ويلقي محاضرات ويقدّم عرضاً بدءاً من الأسبوع المقبل في «الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة». هي في لبنان الآن إلى جانب والدتها المريضة. «في طوكيو 13 مليون إنسان، لكنني أكاد لا أحسّ بوجودهم... أمّا في لبنان فعجقة وخفقة»، تقول ضاحكةً، مشددة على افتقادها ـــــ رغم كلّ شيء ـــــ دفء العلاقات الإنسانيّة في بلدها الأمّ.

تقلب صفحة الألبوم، فتصل إلى صورتها بجانب زوجها. كيف بدأت القصّة؟ كان ذلك منذ زيارتها الأولى إلى اليابان عام 1975، أي قبل سنوات من زواجها بأوميواكا عام 1982. حينها، تهجّرت ابنة السابعة عشرة مع عائلتها من بيروت بعد اندلاع الحرب، وسكنوا في كوبي بضيافة أختها ماري روز إيشيغورو، المتزوجة أيضاً من ياباني عمل قبل الحرب في «بنك طوكيو» هنا في بيروت. «لم نكن نعرف إن كانت حرباً فعليّة أو مجرّد عراك عابر»، وإذا بالزيارة تطول... فتسجلت مادلين في «إنترناشونال سكول» هناك... “ذات يوم، اقترب منّي زميلي في صفّ الأدب، عرّفني بنفسه ودعاني إلى السينما. لم أكن أتوقع خطوةً كهذه، فالرجال اليابانيون خجولون جداً. لا أحد ينظر إليكِ حين تمرّين في الشارع، بعكس الرجال اللبنانيين الذين يتربصون بالفتاة ليرموا تعليقاتهم «حلوة ومش حلوة»”. قبلت دعوة زميلها إلى السينما، ولم تكن تعرف حينها أنّه يلعب «الشيته» أي الدور الرئيسي في المسرح الذي أبهرها منذ رأته للمرّة الأولى. سافرت قليلاً، درست برمجة الكومبيوتر بين لندن ولوس أنجلس، لتعود إلى اليابان وتتسجل في جامعة أوساكا، وتجد أوميواكا خاطباً فتاة، يملك والدها مجموعة كيمونو يابانيّة قديمة ـــــ توضع في خزنة خاصّة وتحفظ كالألماس، للدلالة على مكانة العائلة وثراها. في النهاية، ترك خطيبته تلك، وتزوّج الفتاة اللبنانيّة التي قرّرت ألا تدع الـ«نو» يبقى حكراً على جدران بيتها.

5 تواريخ

1958

الولادة في بيروت

1982

تزوجت ناووهيكو أوميواكا وأنجبت منه ثريا وناووتومو

1989

عرضت فرقة زوجها عمل «عمادة يسوع المسيح» أمام البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان

2005

أسهمت في تنظيم «الألعاب الأولمبية الخاصّة» في اليابان

2009

تهيّئ لورشة عمل ومحاضرات يلقيها زوجها في لبنان، بالتعاون مع سفارة اليابان و«الجامعة اللبنانية الأميركيّة»، بدءاً من 28 آب (أغسطس) الجاري.

تعليقات: