في مطار بيروت: «باي باي لبنان»... و«أهلاً رمضان»!
يصعب الجمع بين السياحة والصوم فإما لا يقبل صيامنا، أو تصبح السياحة مملة!
رجل الأمن المتمركز بتنبّه عند مدخل الوصول في مطار رفيق الحريري الدولي، يمّل من الانتظار الطويل. قلة تخرج من هذا الباب، وبالتالي، قليلة هي السيارات المخالفة المتوقفة امام البوابات السفلية. «رزقة» الضوابط المخالفة لا تقارن بشيء مما كان «يكسبه» عند بداية الموسم السياحي و«انهمار» السياح على البلد. ها هو يتوقف عن الدوران المستمر حول نفسه، يركب دراجته النارية وينطلق بسرعة في جولة أوسع، آملاً أن يحالفه الحظ.
الوضع مختلف تماماً في الطابق الأعلى، عند بوابات المغادرة. رجال الأمن يكررون نداءاتهم للسيارات المتوقفة عرضياً، لتسريع تفريغ حمولة المسافرين. هؤلاء كثر، وأغلبهم من السياح الخليجين الوافدين من قطر، والسعودية، والكويت، والبحرين، والإمارات العربية المتحدة، وسواها، اختتموا إجازاتهم في لبنان مع حلول بداية شهر رمضان، بالإضافة إلى عدد من اللبنانيين المغتربين. في السنوات الماضية، كانت إجازاتهم تطول لتطال الشهرين والثلاثة، أما هذه السنة فيعودون إلى ديارهم «في عز الموسم السياحي»، لقضاء رمضان مع عائلاتهم في بلادهم.
تسمعهم يكررون شوقهم الدائم لبيروت ولقضاء الإجازات فيها حتى اللحظة الأخيرة، ويحكون روايات كثيرة عن أيام «وايد حلوة» في ربوع هذا المصيف. وعلى الرغم من تأجيل بدء العام الدراسي في أغلب بلدانهم لما بعد عيد الفطر، إلا أن القرار ما زال نفسه: «رمضان يجب أن يكون في بلدنا، ومع جمعة العائلة».
تتكرر هذه الجملة، كلما تسأل سائحا يحمل حقائبه الكثيرة متجها نحو «المغادرة» عن أسبابها. ويبقى الوعد الأخير الذي يحلم به كثر «إن شاء الله نعيّد عندكم».. أو «نلاقيكم على الثلج بعد كام شهر».
في شوارع لبنان ومقاهيه وفنادقه وحفلاته الأخيرة، تجد أعداد السائحين الخليجين إلى تدني. السيارات الفخمة التي تجول الطرقات بأرقام غير محلية شبه اندثرت مع مطلع هذا الأسبوع.
حيّان هو شاب سعودي يودع لبنان تلبية لطلب العائلة المقتنعة بأنه «من الصعب الجمع بين السياحة والصوم، فإما أن يكون الأخير غير مقبول، أو تكون السياحة مملة!». يقول حيّان الذي أقام في لبنان لمدة أربعة أسابيع مع أربعة من أصدقائه، ان الصوم يمنعه من السباحة والسهر، ويصعب التجوال طوال النهار في ظل درجات الحرارة المرتفعة ومع الحرمان من أي مشروبات أو مأكولات حتى مغيب الشمس.
طوال الأسابيع الأربعة الماضية، قضى الشاب العشريني ما يعتبره اليوم «أجمل إجازة في حياتي، مليئة بكل شيء، كثير من المرح والسهرات والزيارات لأماكن أثرية، وارتياد السينما والمهرجانات الضخمة، لا سيما تلك التي أحياها أعظم الموسيقيين و«الدي جايز» في العالم».
تبدو الصورة مختلفة قليلاً من وجهة نظر أبو حمد القطري، الذي قضى وعائلته الشهرين الماضيين في إجازة طويلة في فيلا يملكها في منطقة ريفون. الرجل الذي اعتاد على التمتع بإجازة تمتد لأشهر ثلاثة في لبنان، يعبر عن فرحته البالغة لازدهار السياحة في هذا الموسم، بفضل الأوضاع الأمنية المستتبة.. «إلا أن الازدهار سبّب ازدحاماً خانقاً في كل الوجهات السياحية التي حاولنا زياراتها وفي المطاعم والمقاهي وعلى الطرقات.. فأصبحت الإجازة صاخبة بدلاً من أن تكون هادئة، ويمكن من الآن ان نتنبأ بأنه إذا ما استمرت الحال على ما هي عليه في السنة المقبلة، وزار لبنان مليون سائح وثلاثة ملايين مغترب، لن تحتمل البنية التحتية هذا العدد الضخم من السائحين. أو لنقل لن يبقى هناك مياه كافية للشرب! لكن، في مطلق الأحوال، لا يمكننا إلا أن نعشق لبنان كيفما كان».
كل هذه الأسباب ليست ما يدفع أبو حمد وعائلته المؤلفة من شابين وثلاث فتيات، لمغادرة لبنان بعد شهرين فقط من الإقامة فيه.. وإنما «العادات الاجتماعية والتقاليد التي نحب الالتزام بها في قطر، وأولها الإفطار الجماعي لكل العائلة واللقاء المسائي حتى وقت السحور، بالإضافة إلى نقطة هامة جداً، وهي أن رمضان في قطر غير شكل».
قد تكون أسماء من القلة التي تسمعها تعترف بأن «لبنان في كل الأوقات جميل، وأظن رمضان فيه يجنن، نرتاح طوال النهار، ونقوم بشوية شوبينغ، ونعود لنرتاح ونقضي أحلى إفطار على مأكولات ومازات لبنانية لا تتكرر طعمتها حتى في المطاعم اللبنانية في الخارج. لكن، تحكمنا رغبة الوالدة بأن تعود إلى بيتها».
السيدة الثلاثينية التي قضت وطفليها نور وجاسم، ووالدتها، إجازة هادئة في واحد من أهم الفنادق في بيروت، تعترف بأن «الاصطياف ونحن صيام يختلف عن الأيام خارج رمضان، وقد نضطر إلى النوم حتى ساعة متأخرة، كي لا نشعر بطول النهار، لا سيما أن موعد الغروب في بيروت يتأخر عن بلدنا ساعة كحد أدنى. ومن جهة ثانية، قد يصعب علينا التسوق خلال النهار، وسيكون علينا قضاء الليل في السهر والحفلات الفنية، وهي نشاطات غير محبذة بالنسبة إلينا في هذا الشهر.. إذاً، الوالدة قد تكون محقة، علينا العودة إلى الكويت، لننام في منازلنا بدلاً من أن ندفع ثمن المنامة في الفندق هنا».
عندما تسأل أحمد، الشاب الإماراتي، عن سبب مغادرته لبنان الآن، يتجاهل كل الأسباب المتعلقة بالإجازة الصيفية وحلول رمضان، ليركز على الوضع السياسي «المتأرجح على حافة»، ويردد: «يعني ما ندري أي ساعة كل شيء يرجع ينفجر، فهذه حال لبنان دوما، إلا أن المختلف هذه المرة هو عدم وضوح الصورة تماماً، فنحن لا نفهم متى تولد الحكومة؟ وماذا يحصل على صعيد المفاوضات السين ـ سين (السورية ـ السعودية) ولا تلك الأميركية ـ السورية؟ ولا كيف تتقاسمون الحقائب كقطع قالب الحلوى اللذيذ والمر في آن.. والأهم، أنني أنا شخصيا لا أفهم كيف تحترسون من انفلونزا المكسيك؟!». أحمد، المدمن على السياسة اللبنانية، والذي يطرح عشرات الأسئلة في الدقيقة الواحدة، يختم حديثه بالقول: «أتظنون أن كل ذلك يمنعنا من العودة إلى هنا؟»، الشاب يخرج من جيبه بطاقتي سفر، واحدة ليستخدمها الآن وهو في طريقه إلى دبي، وثانية تعود به إلى بيروت، بعد ثلاثة أسابيع: «فنحن لا نقدر على فراقكم وايد».
تعليقات: