«خـط سـير» تلفزيـون لبنـان: إلـى أيـن؟

محطة تلفزيون لبنان: إعادة بثّ ما تبقّى لديها من برامج أنتجتها سابقاً
محطة تلفزيون لبنان: إعادة بثّ ما تبقّى لديها من برامج أنتجتها سابقاً


دأبت محطة «تلفزيون لبنان»، منذ أعوام طويلة، على إعادة بثّ ما تبقّى لديها من برامج أنتجتها سابقاً، لملء فراغ مدقع في البرمجة الراهنة، الخالية من الإنتاج الجديد السليم والجدّي إلى حدّ كبير. أعيد بثّ بعض هذه البرامج مراراً وتكراراً، بينما لم ينل بعضها الآخر شرف الإطلالة مجدّداً على المشاهدين إلاّ نادراً. ثم إن أعمالاً قديمة عُرضت في «أوقات الذروة»، ما أتاح لها فرصة التواصل مع بقايا جمهور هذه المحطّة المترهّلة كترهّل البلد ومجتمعه، بينما تُركت برامج أخرى إلى منتصف الليل.

من هذه البرامج الأخيرة، واحدٌ حمل عنوان «خطّ سير» (الترجمة الحرفية للعنوان الفرنسي: Itineraire الذي أُنتج مطلع السبعينيات الفائتة، والذي قدّمته مونيك سيبيل، والذي شكّل محطّة إنسانية عكست تفاصيل السيرة الذاتية والمهنية والحياتية لشخصيات فاعلة في البلد حينها، بعيداً عن الهمّ السياسي المباشر؛ أو لشخصيات عالمية اقتنص معدّوه فرصة وجودها في بيروت لإجراء حوار تلفزيوني معها. وعلى الرغم من البهتان التقني للصورة، جرّاء مرور الزمن على أشرطة التسجيل التي لم تعرف صيانة أو حماية من الاندثار، إلاّ أن جمال الأسود والأبيض منح المُشاهد المهتمّ متعة استعادة لحظات تاريخية وأناس لفظتهم الحرب اللبنانية أو منعطفات الحياة، بعدما أثروا المشهد الإنساني برؤى وأفكار وأنماط عيش. علماً أن حيوية البرنامج واستناده إلى لغة فرنسية مبسّطة في سردها العمق الفكري والتحليل الاجتماعي، ساهما في جعل الحلقات متنفّساً هادئاً للمشاهدين من ضغط الأعمال التلفزيونية الأخرى، في تلك الفترة كما اليوم. ذلك أن معدّي البرنامج ركّزوا على شخصيات امتلكت خطابها الثقافي الخاصّ، وأضاءت جوانب مختلفة من معاني الحياة والموت، واشتغلت في تحديد ملامح العيش وأنماط العلاقات والوعي والمعرفة والسلوك، وعاشت اختباراتها المنبثقة من عمق وعيها المعرفي والتزاماتها الثقافية والفكرية. وإذا بدت اللغة الفرنسية المستخدَمة في الحوارات متينة ومتماسكة ومعبّرة عن إدراك عميق لخصوصيتها وسياقها ومفرداتها، فإن الترجمة العربية لم تكن أقلّ أهمية وقيمة منها، على الرغم من هنات بسيطة اعترتها، بين حين وآخر. وهذا على نقيض ما يجري اليوم، في ظلّ تنامي ظاهرة التسطيح اللغوي في البرامج التلفزيونية واللغة المستخدَمة في الحياة اليومية، إذ إن الغالبية الساحقة من اللبنانيين لا تفقه شيئاً من اللغتين العربية والفرنسية معاً (ناهيك عن الإنكليزية أيضاً)، بل يطغى عليها جهلٌ واضحٌ في أصولهما وآلية نطقهما ومعاني مفرداتهما. وهذا جليّ في برامج تلفزيونية عدّة، تفتقد حُسن الترجمة لفقدان العاملين فيها المعرفة اللغوية السليمة.

نبش ذاكرة؟

لا أعرف مدى اهتمام الشباب اللبنانيين اليوم باستعادة حقبة تاريخية مهمّة عرفتها بيروت في الفترة الفاصلة بين نكسة العام 1967 واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، عبر برنامج كهذا، أو بأشكال أخرى. لا أعرف مدى رغبتهم في نبش بعض الذاكرة، للاطّلاع على معنى أن يكون السياسيّ اللبناني ممتلئاً ثقافة حيّة وفكراً إنسانياً خلاّقاً، يتيحان له مقاربة العمل السياسي اللبناني، وامتداداته العربية والدولية، بحكمة أكبر ونضج أخلاقي أقوى؛ وعلى صورة رجل الدين الناطق بلغة انفتاح جوهريّ، بعيداً عن ادّعاء إيماني، والمثابر حقيقةً على تطوير الأسس الطبيعية للعلاقات المختلفة بين الجميع، وغير المختبئ في جلباب الدين لممارسة نقيضه، لأنه يعيش إيمانه وقناعاته بحبّ جذري للحياة ودينه معاً. لكن البرنامج المذكور سلّط الضوء على تلك الحقبة، باستضافته شخصيات ارتبط بعضها بالغليان اللبناني حينها، إن لم يكن أحد أبرز مسبّبي هذا الغليان، بمعناه الثقافي السجالي الديموقراطي والمنفتح والموضوعي؛ وعرف بعضها الآخر تجارب حياتية جديرة بسردها على الشاشة الصغيرة. والحلقات الأخيرة التي أعيد بثّها في الأيام القليلة الفائتة قدّمت أسماء لامعة أدركها الموت قتلاً أو انتحاراً، ككمال جنبلاط وصبحي الصالح وداليدا وغيرهم.

تُحرِّض إعادة بثّ حلقات هذا البرنامج على طرح مسألتين اثنتين: اهتمام المحطّة التلفزيونية بهذا النوع من البرامج الغائبة، حالياً، عن المشهد التلفزيوني اللبناني والعربي، لانهماك إدارات المحطّات الفضائية والأرضية بشتّى أنواع التجهيل الحياتي والثقافي والملل السياسي والأعمال الدرامية التي يفتقد معظمها مقوّمات الإبداع التلفزيوني الجدّي؛ والتنبّه إلى الغياب الآنيّ القاتل للثقل الفكري/ الفلسفي/ الإنساني/ الأخلاقي، وهو ثقل حمله أناس عملوا في الحقل السياسي العام، مرتكزين على وعي ثقافي ومعرفي لا تُدركه الغالبية الساحقة من سياسيي هذه المرحلة اللبنانية البائسة.

تعليقات: