من سلطان باشا الأطرش إلى السيد حسن نصر الله السلاح الذي خذلته السياسة

شيخ الثوار سلطان باشا الأطرش
شيخ الثوار سلطان باشا الأطرش


يشاء القدر أن يجعل شهر آب شاهدا على ملحمتين عسكريتين قل نظيرهما في تاريخنا المعاصر. معركة وادي الحجير في حرب تموز/آب 2006 فوق أرض جبل عامل. والأخرى منسية ولكنها في قلب التاريخ سبقتها بواحد وثمانين عاما. وقد شهدتها بطاح جبل العرب في سوريا بين الثوار الدروز والفرنسيين. إنها معركة «المزرعة».

والحقيقة أن المقابلة بين الحدثين ليس فيها أي افتعال. فكلاهما يجتمعان على أكثر من وجه للشبه.

الأول. أنهما جرتا في ظروف انعدم فيها التكافؤ العسكري مع العدو. ومع ذلك جرى في الأولى سحق لواء إسرائيلي مدرع. وفي الثانية شبه إبادة لحملة فرنسية معززة بالمدرعات والطيران قوامها ثلاثة آلاف عسكري بحسب المصادر الفرنسية. أو قرابة ستة آلاف بحسب المصادر المحايدة.

الثاني. أن الاشتباك لم يتم وفق أسلوب حرب العصابات الكلاسيكية بل إنها مواجهة استمرت أياما عدة متواصلة.

الثالث. أن هاتين المعركتين لم تكونا حدثا عابرا في الزمان والمكان. بل كانتا جزءا من حراك عسكري كبير على رقعة جغرافية واسعة. وترتب عليها نتائج سياسية. وللإشارة فإنه سبق معركة «المزرعة» معركة «صلخد» ثم «الكفر» التي أُبيد فيها ثلثا فوج فرنسي من الفرسان وقتل جميع ضباطه السبعة بمن فيهم قائده نورمان. وهذه الأرقام نستقيها مما أورده الجنرال هونتزيغر في مؤلفه «الكتاب الذهبي لجيوش الشرق من عام 1918 ـ 1936». فبعد المعركة الأخيرة هذه انهارت القوات الفرنسية ما أدى إلى تحرير الجبل. وعليه فقد كانت مهمة القوات الفرنسية التي واجهها الثوار في «المزرعة» هي استعادة المنطقة، وفك الحصار عن حامية مدينة السويداء المحاصرة في قلعتها.

ربما يغيب وجه الشبه في أمر واحد. وهو أن نصيب ثوار جبل العرب من السلاح كان قليلا نسبيا. حتى أن بعضهم شارك في معركة المزرعة وليس معه أكثر من سيف أو بلطة. كما أن خبراتهم العسكرية لم تتعدّ ما ألفوه بالسليقة أو بوتائر الخبرات المتوارثة. وبالرغم من ذلك فقد استطاع هؤلاء تكبيد العدو «أبلغ الخسائر» حيث ذكر هونتزيغر بالوصف أن نار الثوار تناولت الدبابات «عن مسافة قريبة»، ومن زوايا لا يمكن أن تطالهم رشاشاتها حيث كانوا يسددون رصاصهم «إلى داخلها من فوهات الرماية والمنافذ الأخرى».

لكن ما سبق كان بالتحديد صباح 3 آب حيث ذروة الالتحام. أما المعركة فقد بدأت فعليا يوم 30 تموز مع محاولات قطع خط الإمدادات على القوات الفرنسية. غير أن الطيران الذي وفّر الاستطلاع لها والدعم الناري حال دون الثوار وذلك. حتى جاء ليل 2ـ 3 آب فتستر الثوار بعتمته موجهين ضربة قاصمة، فصلت مؤخرة القوات الزاحفة عن مقدمتها. فيما زحف آخرون تحت جناح الظلام إلى مواقع متاخمة للقوات الفرنسية في المقدمة. فما ان بزغ فجر 3 آب حتى بدأ الخيالة من الثوار بالهجوم من المؤخرة مستهدفين مواقع المدفعية. بينما أخذ المشاة الالتحام مع المدرعات في المقدمة وبحسب ما سبق ذكره. حتى إذا ما جاء الظهر أسفرت المعركة عن هزيمة نكراء أو بحسب الجنرال الفرنسي اندريا: «مأساة». فقد وصف مشهد المعركة بقوله إنه «حقا منظر للدمار فظيع.. العظام مبعثرة فوق التراب، ومومياء الأجساد التي جففتها شمس المشرق ملقاة في كل مكان... سيارات مجهزة بالرشاشات معطلة، وقد تكدست إلى جانبها جثث ركابها».

ربما أقرب التقاطعات بين الأمس البعيد ذاك، وأمسنا القريب أنهما أكدا أن الإنسان هو العنصر الأهم لتقليص الفارق في ميزان القوى. فكما أن صيف 2006 وذروته معركة وادي الحجير قد أسقطت وهم التفوق الاسرائيلي. فإن الذروة الأخرى في المزرعة قد بددت الرهبة واليأس الذي خلفته واقعة ميسلون ودخول فرنسا إلى دمشق وباتت مدخلا للثورة السورية الكبرى بعد أسابيع قليلة، والتي بالرغم من إخماد نارها بعد سنتين من اندلاعها فإنها شكلت بالمنحى العام منعطفاً تاريخياً تحول بعده النضال إلى وتائر متصاعدة بما أدى إلى استقلال سوريا بعد عقدين.

وكما في صيف 2006 كذلك مع تلك الثورة قبل 81 سنة واجهها العديد من المتضررين. حتى عندما أراد المندوب السامي الفرنسي ساراي البحث عن تسوية مع الثوار طالب (حاكم دولة سوريا) آنذاك صبحي بركات بمتابعة القتال «مهما كلف الأمر من ضحايا وخسائر».

وكما أسقط انتصار 2006 مشروع تفكيك المنطقة الى دويلات بدءا من لبنان في ما أسمته رايس «... صناعة الشرق الأوسط الجديد»، فإن معركة المزرعة وجهت ضربة قاصمة لمشاريع التقسيم التي أقدمت عليها فرنسا من سوريا، ومنها «دولة جبل الدروز»، فقد شكلت هذه الملحمة استنهاضا للمشاعر القومية بعد نداء الثورة الشهير لسلطان الأطرش الى السوريين: «إلى السلاح إلى السلاح...» ولعل انتقال عدوى الثورة بقدر أو بآخر إلى عدة مناطق ومبايعة سلطان الأطرش قائدا لها، قد شكل نواة موضوعية لالتفاف السوريين وبعض اللبنانيين لكسر ما اصطنعته فرنسا من حواجز بحيث بات نضال الوطنيين في سوريا ولبنان يتمحور آنذاك حول عنوانين «الوحدة السورية» و«الاستقلال الناجز».

لقد رأى بعض المؤرخين أنه كان ممكناً للاستقلال ألا ينتظر عقدين لو استثمر رجال السياسة الإنجازات العسكرية لثورة الجبل وصمموا على تعميمها بالوتيرة والحدة ذاتيهما.

لكن البعض آثر الذهاب في زواريب التسويات الآنية، أو أغلق على نفسه الزوايا وانحصر في ضيقها. كذلك كان الحال مع انتصار صيف 2006 الذي يستوجب حجمه وتأثير ما هو أبعد من «مشروع النقاط السبع» الذي قدمه الرئيس فؤاد السنيورة إلى مؤتمر روما، وتلقفه الأميركيون ليتأسس عليه القرار 1701.

كلا الأمرين وبالرغم من الفاصل الزمني الطويل يتقاطعان في نتيجة واحدة: «السلاح الذي خذلته السياسة».

ما بين معارج (جبل العرب) و(جبل عامل) قاسم مشترك يتصل بشخصية القائدين سلطان الأطرش، وحسن نصر الله. فكلاهما دخلا التاريخ ليس بما صنعاه من أحداث وحسب بل بما خلفته هذه الأحداث من منعطفات تاريخية جعلتهما رمزين وشخصيتين عابرتين للطوائف والحدود.

لكن بالرغم من هذا، إلى جانب السيرة الذاتية لكليهما عفة وتواضعا، وتساميا عن متاع الدنيا، فلقد بقيا أسيرين لطبيعة المكان الذي لم يفسح لهما أكثر مما أخذوه.. إنه سجن المكان.. أو لعله المكان الذي لا يتسع للرجال الكبار.

* كاتب من لبنان

تعليقات: