موائد زاخرة بما لــذّ وطاب في رمضان فيما الفقراء يبحـثون عن كــسرة خبز

مأدبة إفطار رمضانية
مأدبة إفطار رمضانية


مع أن شهر رمضان هو شهر الخير والكرم والإيمان والتقوى..

من حــلّــل تحــويــل مـــآدب الإفــطـــار مــنـــاســـبــة للـــترويـــج الســـيــاسـي ؟

يمتاز شهر رمضان المبارك عن بقية شهور السنة. فهو الشهر الفضيل ، تسمو فيه الفضائل الذاتية والمجتمعية التي تنعكس في البيت والأحياء والشوارع والأسواق وفي نواحي الحياة كلها، ذلك ان الناس يعيشون فيه حالاً من الصفاء الروحي تتجلى في الأخلاق السامية الحقة. وابرز مظاهر هذه الأخلاق، الترفّع عن الأذية وغفران الإساءة والتكافل الإجتماعي بشكل عفوي وصادق من خلال مساعدة الميسورين، جيرانهم من العائلات الفقيرة والأيتام.لكن هناك من يستغل المناسبة الدينية لاهداف سياسية وربما مالية، فتفرّخ الجمعيات الخيرية ولا احد يراقب او يحاسب.

من المسلم به ان شهر رمضان يبدأ مع ظهور القمر وفقاً للتقويم القمري. وفي لبنان كثيرون لديهم وسيلة اخرى تنبئهم ببداية هذا الشهر الفضيل، لكن الخلاف في تحديد بداية الشهر المبارك كان ولا يزال محط خلاف بين الدول الاسلامية والمرجعيات الدينية. ويتميز المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله بانه اول من يحدد بداية شهر رمضان ونهايته استناداً الى حسابات فلكية وعلمية، مع التذكير انه في عصرنا الراهن اضحى من السهولة بمكان وعلى سبيل المثال تحديد اوقات الخسوف والكسوف قبل اعوام من حصولهما فكيف تظهر الصعوبات قبل 24 ساعة للتأكد من ظهور الهلال ولماذا الخلاف فقط على تحديد بداية شهر الصوم عند المسلمين؟ يبدو ان السياسة تحدد وهي اصلاً لا تدخل في مسألة الا وافسدتها. تجد بعض الجمعيات في حلول شهر رمضان مناسبة لتفعيل نشاطها السياسي تحت مسميات عدة، منها العمل الخيري ومساعدة المحتاجين عبر توزيع المساعدات الغذائية وغيرها، وهذه الانشطة كلها تهدف الى غايات سياسية، وخصوصاً قبل الانتخابات النيابية والبلدية.

ومن هذه الجمعيات من يدعي انه يعمل في سبيل الخير العام والاصلاح المجتمعي. لكننا نرى ان رئيس هذه الجمعية او تلك ما لبث ان استبدل سيارته باخرى اصبحت تليق بما جمعه من اموال "الزكاة"، أو غيّر مكان سكنه، او زوّج ابنه وغيرها من "مظاهر العز". المهم انها كلها مؤشرات الى بداية "اعمال الخير" لجمعيته.

شهر الخير في زمن الشر

شهر رمضان هو من افضل الشهور عند المسلمين لانه مناسبة سنوية للتقوى والورع وعمل الخير في زمن الشر، ولا يختلف اثنان على صعوبة الحالة المعيشية والاقتصادية للناس.

ويأتي رمضان مع كل عام ليعيدنا الى الخالق وعظمته، في محاولة لرأب الصدع الذي اصبح قائما بين الانسان وخالقه في بقية اشهر السنة.

ولكن الصعوبات التي تحل على الانسان في بداية رمضان، لناحية غلاء المستلزمات الاساسية من المأكل والمشرب، تبقى من المعوقات التي لا يمكن تجاهلها وعلى سبيل الذكر لا الحصر ان صحن "الفتوش" وهو من الوجبات الاساسية للصائمين والمكون من الخيار والبندورة والخس يرتفع سعره الى اكثر من الضعفين في رمضان، وحسب احد الاقتصاديين فإن تكلفة "الفتوش" لاربعة اشخاص تصل الى 12 الف ليرة وتهبط الى 4 الاف ليرة بعد رمضان. هذا الامر وغيره يجعل المواطن يبحث عن لقمة عيش لأولاده واسرته، بدلا من التقرب من ربه.

وفي مشهد مختلف، وبينما يبحث كثيرون عن كسرة خبز تحميهم من الجوع، تنتشر تخمة الموائد الزاخرة بما لذ وطاب، من دون حاجة اصحابها، الا للتفاخر والاعتزاز بأن لديهم القدرة على عرض كل انواع المآكل في العالم... اذا تطلب الامر ذلك. ومن يراقب الترف في حفلات الافطار اليومية يصدم بكميات الماكولات التي ترمى في سلات المهملات بعد الافطار، في وقت يبحث فيه آخرون عن كسرة خبز.

بعد العشاء: "إفعل ما تشاء"

شهر رمضان، شهر الصوم والاحسان، شهر التقوى والغفران، شهر العبادة والصلاة. اين نحن من كل ذلك في خيم "الطقش والفقش"، وتجلي الليل بمفهوم مغاير لمضمون هذا الشهر؟ ومن النافل التذكير بالخيم الرمضانية التي غزت لبنان، وخصوصاً العاصمة بيروت بعد منتصف التسعينات من القرن الفائت وكان بعضها يحيي الليالي الرمضانية على انغام الراقصات شبه العاريات وقرقعة زجاجات المشروبات الروحية قبل ان تتدخل دار الفتوى وتضع حداً لهذه المهزلة.

وهذا لايعني ان الدين الاسلامي هو دين الانغلاق والانعزال، بل يعني احترام الاصول والمبادىء التي فُقدت في زمن غابت فيه الضوابط.

ويتلطى عدد من الصائمين خلف عبارة: "بعد العشاء افعل ما تشاء". والعبارة تتردد على السنة البعض، وكأن الخالق يراقب ويحاسب قبل العشاء، ويغض النظر مساء. ويعاود هؤلاء حياتهم اليومية وكأن شيئاً لم يكن وما من داع لذكر بعض التصرفات المشينة التي تتناقض مع المبادىء الاخلاقية والاجتماعية، علماً ان الاخيرة امور توافقية بين كل الأديان ولا يشرعها دين وينقضها آخر. واذا كان رمضان يعيدنا الى هذه المبادىء، كما في اشهر الصوم لدى الاديان الاخرى، فمن الأجدى ان يلتزم الانسان المبادىء الاخلاقية في بقية الاشهر، لانه لا يوجد شهر للخير وآخر للشر.

شهر الكرم

يرسم المؤرخ حسن البديع عمار صورة رمضان بالقول "... قبل ايام من مجيء شهر رمضان، كان الإنسان "يللي الله عاطيه" وحالته جيدة يحمل المساعدات الغذائية، مثل الرز والسكر والبن والسمنة والزيت واللحم، ليلاً وسراً الى بيوت المحتاجين فيضعها على الأبواب ويختفي قبل ان يراه احد... وبعد ايام ينتشر الخبر بين النساء، انه في الامس وجدت على باب البيت مساعدة غذائية. وكان الخبر يعم الجميع... كانوا يعيشون بسعادة وخير وفرح". ويعرض عمار، من خلال ذكرياته في برج البراجنة، اجواء الشهر الفضيل خلال القرن الماضي في البلدة وكيف عايشوا ايامه ولياليه وصولاً الى عيد الفطر. من جهتها تعتقد زينب منصور ان ايام شهر رمضان كانت ايام بركة ومحبة وايمان وادعية وتلاوة للقرآن وتواشيح تفتح فيها ابواب السماء. وتضيف: "ابناء الضاحية الجنوبية يمتازون بالكرم وحبهم للخير، وكنا ننتظر حلول شهر رمضان بفارغ الصبر، لأنه شهر مقدس ولا تصادف انساناً فاطراً. وبعد الإفطار نقوم بزيارات للأقارب والمحبين والجيران، ونحافظ على صلة الرحم... كلهم كانوا يهنئون بعضهم بحلول شهر رمضان، شهر الخير والبركة والتسامح. معظم الخلافات كانت تحل في شهر رمضان لأنه شهر التسامح والغفران، لكن الوضع اختلف اليوم...".

وعن علاقة الميسورين بالفقراء تقول "البيوت المستورة والمحتاجة كانت مونتها تصل من الناس الميسورين ورجال الخير. ام احمد كانت تطبخ لأم حسين، وام علي كانت تطبخ لأم حسن، وام محمود كانت تطبخ لأم خليل. اكياس الرز والسكر والعدس والبرغل والفول والحمص والخروف المعلوف كانت تتوزع على معظم الناس المحتاجين.

اما مونة السنة فكان يقال "متى انوجدوا القمحات والدهنات والزيتات والبرغلات والحطبات بيرتاح البال"، او "في ايلول دبر المكيول للعدس والحمص والفول"، او "ان حضر القمح والزيت تسوكرت مونة البيت". البيت ممون من كل شيء من حبة الملح وطالع وعايشين بألف خير...".

من جهته يقول محمد درويش "مونة رمضان كانت التمر والتين المجفف والزبيب وقمر الدين والجوز واللوز ودبس الخروب والقورما والملوخية المجففة، وادوات الفتوش كانت دايماً حاضرة ناضرة. جل البيت قريب، ومن خيركم وخير الله كل شي موجود وقريب لان ارضنا ارض زراعية وكل بيت امامه جنينة فيها الخس والفجل والنعناع والبندورة والبقدونس والبصل والسلق والملفوف. وقبل موعد الإفطار بربع ساعة، كان الجميع في انتظار ان يضرب المدفع او ينتظر حتى يسمع آذان الشيخ توفيق دحال، او يسمع آذان الشيخ محمود العرب من جامع العرب، والبعض يحمل كباية عصير او جلاب او سوس ينتظر اذاعة مصر. واذا اطل شهر رمضان بالصيف، كانت الجلسة على السطيحة او على المصطبة. والقعدة العربية على الحصيرة وطاولة الخشب عليها التمر الهندي والجلاب والسوس او كازوز جلول وشوربة العدس. واذا اطل رمضان في الشتا كان الافطار داخل البيت حد "كانون" النار (المنقل) حيث الدفء والسهر والحكايات والكستناء المشوية والبطاطا الحلوة والبلوط".

المسحراتي والطبّال

ومن ابرز مظاهر رمضان في لبنان المسحراتي او الطبال، وهو شخص متطوع لإيقاظ الناس عند السحور، ويردد "قوموا على سحوركم جاي النبي يزوركم، قوموا على سحوركم جاي رمضان يزوركم". بهذه العبارة وبعض التواشيح كان يجول المسحراتي في الشوارع. وكان الناس عند سماعهم صوت المسحراتي يضيئون غرفهم فـ"تشعشع" كل البيوت بالنور، فيعرف الطبال انهم على السحور. لكن اليوم لم يعد للمسحراتي اي عمل بعد اتساع شبكة الإتصالات والتقدم التكنولوجي، واختفت رويداً رويداً ظاهرة المسحراتي لتقتصر على بعض البلدات واحياناً المدن، ولعل مسحراتي صيدا هو الشاهد على ذلك.

رصد الهلال

عند حلول آخر يوم من ايام رمضان ترى الناس يقفون على السطوح لرؤية القمر، ابو علي يقول "اليوم لن يظهر القمر، في غيوم". ابو حسن يقول "نحن سنعيد ونفطر مع السعودية". اما ابو حسين فيصر على اكمال الـ 30 يوماً كما اوصى الرسول محمد (صلعم).

ويحل العيد، وفي اول يوم منه يخرج الطبال ومعه ولد صغير وينقر على طبلته فيتجمع الأولاد او يطلون من الشبابيك والشرفات، ويتسابق الرجال والنساء لمعايدة المسحراتي واعطائه ما تيسر من مال "عيدية"، فيفرح المسحراتي ويقول لهم كل "سنة وانتم سالمين، فطر سعيد، واول ايام العيد: صبحية وزيارات للمقابر وقراءة الفاتحة وورود وزهور ورياحين ومعمول وبقلاوة...

تعليقات: