المرحوم حسين خليل الذي اقترح على السهل الشاسع صحبة ودكانا صغيرا
كنا في عزّ الصيف، وعزّ الموسم السياحي الذي سيكسِّر الدنيا على ما يقول وزير السياحة وبقية المسؤولين.
عزّ السياحة هنا في بيروت وقرى الاصطياف الجبيلية وساحل كسروان. حيث يتهادى إخواننا العرب في طريقهم لِغَرْفِ ما تشتهيه العين واليد والروح. وما تشتهيه العين واليد والروح متاح وكثير، من المناظر الطبيعية الخلابة إلى الفواكه الجبلية الطازجة إلى ما تبقى من مواقع أثرية ومهرجانات وحفلات صاخبة، المستور منها والمُعْلَن.
الموسم السياحي هنا في وسط لبنان . أمَّا حسين خليل السبعيني، صاحب الوجه المتجعد والنظرات التائهة في الصفصاف والحور، فإنه يجلس وحيدا في وسط سهل الخيام. رجله اليمنى ملقاة على رجله اليسرى بثقل السنوات والتعب. السيجارة المتدلية من فمه تكاد، من احتراقها السريع بفعل قوة الهواء، تَلْدَغ شفتيه.
حسين الذي اقترح على السهل الشاسع، ومنذ تحرير الجنوب عام 2000 ، صحبة ودكانا صغيرا، لم يُفْلِح، بعد تسع سنوات، في ان يحول الصحبة إلى حياة، والدكان إلى مشروع. لكنَّ فضيلته أنه صمد ولم يستسلم خصوصا بعد حرب تموز التي حرثت في السهل اعماقه ودمرت المنتزه الوحيد «الجنة لاند» القريب منه، والذي لم تقم قيامته بعد.
ظَلَّ حسين خليل وحيدا بمؤانسة الحور والصفصاف. وظلت دكانه صغيرة ومتواضعة تحت سقف الوحدة وعواء الريح.
صحيح أن المغتربين من أهل الخيام والقرى المجاورة بدأوا بالعودة التدريجية لقضاء فصل الصيف والسياحة، لكن حسين خليل، وعلى الرغم من أمله في أن يحرك هؤلاء سكون وِحْدَتِه ودُكَّانه، لم يكن معنياً بالاستعداد.
القادمون من بلاد الله الواسعة لا تعنيهم دكان حسين ولا السهل ولا الحور والصفصاف، حسين يعرف ذلك. يعرف أنهم سوف يقودون سياراتهم الفارهة داخل شوارع القرية الضيقة، او يكزدرون بملابسهم الأنيقة مباهاة ولفتا للأنظار. هو يعرف أنهم لم يأتوا لأن لديهم سهلاً وحوراً وصفصافاً وبركة ماء في الوسط ونبع قريب وهضاب. وحسين مقتنع بأن دكانا متواضعا على الطريق العام في وسط السهل لا يعني، في العرف السياحي، أي قيمة مضافة كتلك التي تروج لها التلفزيونات وإعلانات وزارة السياحة. لذلك هو لا يرفع رجله اليمنى عن اليسرى ولا ينفض السيجارة من فمه ولا يغير من اتجاه بصره الساهم في امتداد السهل إلا حين تهبط الشمس وراء الهضاب الغربية.
هكذا، في تموز وآب وغليان السياحة، وبينما تقول الإحصاءات ان مليوني سائح ينفقون في لبنان (أي في بيروت وقرى الاصطياف الجبلية وساحل كسروان) مئات ملايين الدولارات، تتلوَّى سهول الجنوب وهضابه ومواقعه المائية من الليطاني إلى الحاصباني فالوزاني وعشرات الآلاف على شاكلة حسين خليل.. في الوحدة والتخلي.
وإذا استثنينا مدينة صور التي يناضل نفر من أهلها لجذب السياح بجهودهم الخاصة وإمكاناتهم المتواضعة، لن ترى سائحا واحدا في طول وعرض الجنوب ما خلا نفر من اوروبيين تغريهم زيارة جنوبية لأسباب متعددة بينها الاستئناس بالنظر إلى جنود اليونيفيل ودواع خاصة أخرى.
وحال الجنوب، اغلب الظن، كحال غالبية مناطق البقاع والشمال وجزء من أطراف الجبل حيث يوجد أيضا من يشبه حسين خليل وتكثر النماذج لدكانه.
خذ مثلا نظير، عامل الكهرباء المتقاعد الذي ورث عن عائلته بناء متواضعا وبضعة امتار في شخروب جبل صنين. نظير حوَّل البناء إلى «موتيل نظير»، والأمتار المحاذية إلى حديقة فيها الزرع والأشجار. لكن الرجل وزوجته وابنه وزوجته، منذ سنوات، على انتظار ظلال لسائح مغامر في اتجاه الجرد. هناك حيث ينفجر الماء وتتفتق عبقرية الأشجار بثمار عسلية الطعم، لا يحل موسم السياحة ولا من يحزنون.
«التكلة» كما يقول أبو إبراهيم (موتيل مونت صنين) على حَميَّة بعض العائلات والأفراد من محبي الطبيعة الهادئة ورياضة المشي. فصنين كما يقول المقيمون هناك لا يدخل في حسابات وزراة السياحة. على الرغم من أن الجبل هو هبة الله للبنان وبستانه وخزان مائه إلاَّ أنه متروك ومهمل ومعتِّم ومُسْتَبْعَد عن الخارطة السياحية، حتى ان مشروع «صنين زينة لبنان» حاربوه واوقفوا تنفيذه.
لكن حسين خليل ونظير وأبا إبراهيم ليسوا بانتظار آلاف السيّاح. هم يعرفون أن البرامج السياحية وحملات الترويج في الداخل والخارج لا تأخذهم في حسابها، تماما كمشاريع التنمية التي تفصلهم عنها سنوات ضوئية. فحساب تكسير الأرقام السياحية مبني على بنك اهداف سياحية محددة بدقة وموزعة بعناية مَنْ يعرف مَنْ أين تؤكل الكتف.
حسين خليل مات، قبل أن تقوم السياحة، في سهل الخيام.
تعليقات: