«زليخا» في المسلسل
لطالما ساور الشك المشاهد حول دقة الأعمال التاريخية في نقلها الوقائع، لا سيّما تلك المتعلقة بسيَر الأنبياء، وقد تعددت التفسيرات والقصص حول بعض التفاصيل الخاصة بحياتهم ومواقفهم.
في مسلسل النبي يوسف الصديق على سبيل المثال، حفلت حلقة أمس الأول بالعديد من الأحداث المفصلية التي كانت تستطيع ان تكون نموذجاً درامياً رائداً، تحديداً عند تصويرها ما ورد في القرآن من طلب زليخا، زوجة عزيز مصر، حضور يوسف إلى غرفتها وفي نيتها إغواؤه. وبحسب العمل الإيراني المدبلج، يحضر يوسف، وتأمره زليخا بالمثول لرغباتها. اكتفى العمل بإبراز محاولة زليخا جذب يوسف بالأمر والطلب، من دون أن يتضمن المشهد أي نوع من الغنج أو الدلال اللذين لطالما أسبغا على امرأة عزيز مصر المعروفة بجمالها الفائق وغنجها.
ففي كتاب «مختصر تفسير الميزان» للعلامة الطباطبائي يعتبر الأخير ان زليخا لجأت إلى الأمر والإغواء معاً لإيقاع النبي يوسف بشباكها: «إعمال المولوية والسيادة مع إشعاره بأنها هيأت له من نفسها»، ويزيد الطباطبائي في التفسير: «ظاهر الحال كان تنازعاً بين حب وهيام إلهي، وعشق وغرام حيواني». علماً أنه قد جاء في الآية القرآنية: «ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه...»، وتعني الجملة حسب تفسير الطباطبائي: «أخذ بمجامع قلبها.. وكان ذا جمال بديع... وكانت هي فائقة الجمال عاشقة، وإلهة ذات غنج ودلال، وهذه أمور لو توجهت إلى جبل لهدته. ولولا برهان ربه الذي لازمه لأقبل (أي يوسف) عليها بمثل اهتمامها». وفي كتاب «إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن» للشيخ محمد السبزواري النجفي، يفسر ما جاء في الآية نفسها: «همت به: أي مالت إليه وقصدته باهتمام».
بأية حال، لم يظهر المسلسل الإيراني أياً من تلك المظاهر التي لها علاقة بالإغراء والإغواء، بدت الحلقة في أوج الحبكة الدرامية تداري تصوير ما ورد في القرآن صراحة، ما يفتح المجال أمام البحث في الخطوط الحمر التي باتت تتبعها بعض المسلسلات الرمضانية. هنا لا تقتصر الملاحظة على العمل الإيراني وإن بدا التوجه الديني الصارم بارزاً فيه. فقد وقعت معظم الأعمال الدرامية العربية في المطب نفسه عندما تناولت الكثير من المفارقات في الحياة اليومية، لكن البارز هنا ان المسلسل الديني بدا كأنه اختار من السيرة النبوية ما يناسب صنّاعه ومحاذيرهم، حتى ولو كانت واردة في القرآن.
بكل تأكيد، يحق لصناع المسلسل ان يتخذوا القرارات الدرامية التي يرونها مناسبة شرط ألا تخل بجوهر الفكرة وبديهياتها. مثلاً، اختار صنّاع المسلسل تبني وجهة النظر القائلة ان النبي يوسف هم بضرب زليخا عندما أغوته، علماً ان الأمر محل جدال، إذ اعتبر بعض المجتهدين ان الآية التي جاء فيها «ولقد همت به وهم بها..» عنت ان النبي يوسف مال إليها وكاد يطاوعها، لكن صناع المسلسل اختاروا اتباع وجهة نظر وردت في أكثر من كتاب بينها «إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن» الذي فرّق بين التفسير اللفظي والمعنى، أي اعتبر ان «هم بها» أي «هم يوسف بضربها ودفعها عن نفسه».
بطبيعة الحال، وبما ان الامر محل جدال يصبح من حق القيمين على العمل تبني الرؤية التي تتوافق مع خيارهم أي التوجه المائل إلى إلغاء أي «شبهة» غواية عن النبي يوسف. لكن كل وجهات النظر المختلفة حول ردة فعل يوسف أجمعت ان زليخا لم تكتف بالأمر لجذب يوسف، بل مارست إغواء أنثوياً واضحاً «.. وقالت هيت لك..» وتعني حسب تفسير النجفي: «هُيّئت لك، وأعددت نفسي لك»، هذا إضافة إلى التفسيرات التي أوردناها سالفاً عن الطباطبائي والنجفي.
بطبيعة الحال، يمكن فهم حساسيات المسلسل الديني وإن كان لا يمكن إلا الاشارة إليها وإلى مدى تحكمها بلحظة درامية أُفرغت من مضمونها.. وربما لم يكن مطلوباً من المسلسل ان يجاري أعمالاً أخرى تناولت سيرة النبي يوسف، مثلما فعل مثلاً فيلم «المهاجر» للمخرج الراحل يوسف شاهين، إذ قدمت يسرا دور زليخا في مشهد مغو في الملبس والحركات، استطاع أن يوصل للجمهور حجم رغبة زليخا بيوسف ولجوئها إلى استخدام كل مفاتيح قوتها من سلطة تملكها كونها صاحبة البلاط، وإغراء تتقنه كأنثى.
هكذا يبقى في الذهن المشهد الجامع «الفاتر» بين زليخا ويوسف في العمل الإيراني وهي بعيدة عنه أمتاراً .. فولىّ الأخير هارباً.
حنان ضيا
تعرضه قناة «المنار» الثامنة والنصف مساء بتوقيت بيروت
تعليقات: