هل الحمير في طريقها إلى الانقراض؟
سؤال لا يطرح في المدينة، بل في القرى الزراعية التي باتت أعداد الحمير فيها تتضاءل يوماً بعد يوم، بل إنها اختفت تماماً في بعض القرى. حتى إن إحدى العائلات الجنوبية لم تتردد في التوجه إلى بلدة عيترون، لالتقاط صورة لأفرادها على «صهوة» حمار كما يروي العبد عباس ناصر.
هذا الرجل السبعيني حزين لما آلت إليه أوضاع الحمير. يقول: «عيترون بلدة زراعية، وكانت من أكثر البلدات الجنوبية اقتناءً للحمير. وحتى مطلع التسعينيات كان الحمار موجوداً في كل منزل من منازل البلدة تقريباً، أما اليوم فلا يوجد فيها أكثر من سبعة حمير».
ربما يكون السبب أن سنوات الاحتلال لم تكن تسمح لسكان تلك القرى بالمغامرة بأي عمل استثماري بعيداً عن الزراعة بخلاف الوضع بعد التحرير حين انتشرت المصالح والمحال التجارية الخاصة، بل يمكن القول إن تحرير القرى الحدودية من الاحتلال في عام 2000، ساهم بدوره في تحرير «الحمير» من العمل الشاقّ الذي كان ملقى على عاتقهم، في ظلّ الحرمان الشديد الذي كان يعيش في ظلّه المزارعون الفقراء في تلك المنطقة. أبناء المزارعين من النازحين والمغتربين عادوا إلى ذويهم، وأمّنوا لهم البديل الحديث عن الحمير ليخفّفوا عنهم مشقّة العمل في الزراعة، وخاصّة زراعة التبغ. يقول سليمان عيسى (عيترون) هو مثلاً «من الذين استغنوا أخيراً عن اقتناء الحمير، لكنّ ابني حسن لا يزال يحافظ على حماره، رغم أن لديه سيارة وجرّاراً زراعياً. هو يحب الحمار ويعتني به، ويعتبره جزءاً من تراث البلدة الذي يجب المحافظة عليه».
وهذا أمر محزن للمزارع ناصر، وخصوصاً عندما شاهد أخيراً سباق الحمير الذي نظّمه المجلس البلدي في عيترون. «أصبحوا يعتبرون الحمار وسيلة للّعب والترفيه، بينما كان هو الوسيلة الوحيدة التي نعتمد عليها في زراعة أرضنا ونقل بضائعنا، وتأمين قوتنا اليومي». ناصر الذي يملك حماراً يساعده على فلاحة أرضه ونقل أمتعته، يقول «كل إنسان يعيش حسب مقدرته، وأنا لا أجيد قيادة السيارة، لذلك أحتفظ بحماري، الذي أعتني به كما يعتني صاحب السيارة بسيارته، وسأبقى أعتني به إذا استغنيت عن خدماته».
يذكر أن سباق الحمير في عيترون أصبح تقليداً سنوياً ينتظره أبناء البلدة، وخاصة المغتربون. وبحسب نائب رئيس البلدية نجيب قوصان فإن البلدية بدأت بتنظيم هذا السباق منذ عام 2005، بهدف الترفيه والمرح والتذكير بالتراث والعادات القديمة، لكنّنا نلاحظ أن عدد الحمير يتضاءل كلّ عام، حتى بتنا نضطرّ إلى استعارة بعض الحمير من خارج البلدة لإجراء السباق الذي توزّع في نهايته الجوائز على الفائزين، وهي عبارة عن مبلغ مئة ألف ليرة ومدّ شعير للمركز الأول وخمسين ألف ليرة ومدّ شعير للمركز الثاني».
وجديد هذا العام أنّ منسّق نشاط السباق محمد منصور ألقى كلمة بالنيابة عن الحمير، تحدّث فيها عن «مطالب الحمير وأوضاعهم المعيشية الصعبة التي يعانون منها منذ زمن بعيد، وخاصة تلك المتعلّقة بأنثى الحمار التي كانت تعاني من هجرة ذكرها الجنسية لأنه مخصيّ من أصحابه كي لا يهيّج ولا يطالب ولا يرفس». في بعض القرى الأخرى، انقرضت الحمير أصلاً، مثل عيناتا وشقرا وبنت جبيل وحاريص وجويا، والجيل الجديد لم يعد يعرفها. هنا يبدي العبد ناصر استغرابه من أسرة قصدت زيارته من خارج البلدة بهدف الجلوس على الحمار والتقاط الصور معه، فيقول «طلبوا منّي تلبية رغبتهم هذه مقابل بدل مالي، فضحكت كثيراً قبل أن ألبّي طلبهم ولكن بالمجّان».
تُوزَّع في الإعاشات!
ساهمت حرب تمّوز 2006 في انقراض ما بقي من الحمير في القرى الجنوبية. فيقول سليمان عيسى، ابن بلدة عيترون، إن البلدة فقدت العدد الأكبر من حميرها في الحرب بسبب القصف والعطش. وهذا ما حصل أيضاً في بلدتي يارين وأمّ التوت، اللتين تعتمدان على الزراعة البدائية.
اللافت أن الجمعيات المهتمة بمساعدة القرى، التفتت إلى هذا الأمر. فقد عمدت إحدى المنظّمات الإسلامية اللبنانية إلى إرسال «إعاشات حمير» إلى البلدتين الأخيرتين، تعويضاً عن الحمير والبغال التي نفقت خلال العدوان. الطريف أن الحيوانات المرسلة كانت «مريضة وغير قادرة على الحمولة» تقول عزبة غنّام (يارين). وقد تبيّن أنّ «حمير الإعاشات مريضة وكبيرة في السنّ، وقد نفق أغلبها، والباقي منها عالة على أصحابها».
تعليقات: