خلف المتراس في جلسة مع المقاتلين في بيروت في تموز

هكذا عاش مازن سقوط بيروت قبل اجتياحها وشارك في عمليتي «بسترس» و«محطة أيوب»..

أن تدفع مازن إلى الكلام، فذلك أمر صعب. الرجل حذر بشدة في روايته للمشاركة في اليوم الأخير من القتال قبل سقوط بيروت أمام الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982. ويصير أكثر حذراً حين يتطرق إلى قيامه مع اثنين من رفاقه بعمليتي «بسترس» و»محطة أيوب» ضد الجيش الذي كان قد احتل بيروت لتوه. يحتاج إلى تفكير طويل قبل أن يجيب. يظل متوجساً من أن يؤذي كلامه أحداً من رفاقه، أو أن يبدو شخصاً متشاوفاً مدعياً... وقبل ذلك يصر على أخذ الإذن من القيادة الحزبية.

كان في الخامسة عشرة حين تفرغ في الحزب الشيوعي اللبناني في العام 1975. خلال الاجتياح الإسرائيلي كان مسؤول طوارئ بيروت في الحزب، أي على رأس نحو مئتي مقاتل. دوره القتالي تعدى العاصمة إلى صيدا، وخلدة، والجبل، وصولاً إلى الخيام والباروك.

مع هذا يرفض مازن أن يتحدث عن هذه التجربة بشكل شخصي، لأنها «جزء من نضال أكبر لا يحق إلا للحزب الحديث عنه». وهو لا يرى في العمليتين اللتين شارك فيهما في بيروت إلا نقطة صغيرة في بحر عمليات أكبر، شارك فيها رفاق آخرون، فاستشهدوا أو أسروا سنوات طوال على إثرها... فضلاً عن آخرين مثله، لا تستطيع أن تميزهم عن غيرهم في المدينة.

حتى زوجته لم تعرف بالمهمات التي شارك فيها إلا بعد أربع سنوات من زواجهما، وبالصدفة، وعن طريق آخرين. فبكت.

في مثل هذا اليوم، السادس عشر من أيلول العام 1982، وكان اليوم التالي لبدء الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة، وجه الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي محسن إبراهيم، والأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، نداء مشتركاً إلى جميع أبناء الشعب اللبناني دعوا فيه إلى انتظام جميع الوطنيين اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الإيديولوجية والطائفية والطبقية في «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية».

ولم يكد البيان يخرج إلى العلن حتى كرت سبحة عمليات المقاومة ضد المحتل، واستمرت بشكل تصاعدي.

من مازن، الذي أصر على توجيه التحية لكل الشهداء الذين سبقوا، ومن بينهم شهداء الحزب في العام 1948، والحرس الشعبي، والأنصار، وأولهم علي أيوب وإلى الأسرى. إلى كل هؤلاء، تحية...

ولمازن، ولكل المقاومين الذين عملوا في صمت من أجل تحرير الوطن، تحية، ووردة حمراء.

كانت بيروت قد سقطت بالكامل وهم ما زالوا يقاتلون على محور جامعة بيروت العربية. الأسلحة في الأيدي كانت عبارة عن قذائف «إنيرغا» و»بي 7» ورشاشات «بيكاسيه» و»كلاشينكوف» وقنابل يدوية.

مجموعات شيوعية ومعها مجموعات صغيرة من «حزب العمل الاشتراكي العربي» و»الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». هذا المحور صمد أربعا وعشرين ساعة إضافية عن المحاور الأخرى. لكن الاتصال بالقيادة كان قد انقطع وهناك مسؤولية أكثر من خمسين مقاتل عسكري. فكرا سوية، الرفيقان مازن وعمار، وقالا لبعضهما البعض: «هل نقتل الناس الذين معنا؟».

كانت الرؤية قد باتت واضحة. بكى عناصر الجبهة الشعبية. رجوا المجموعات الشيوعية أن تبقى.

لكن كل شيء كان قد انتهى.

بدأ انسحاب المجموعات. هذه المجموعات كان يجب أن تخرج من الطريق الجديدة، لا سيما أبناء البسطة والمصيطبة والظريف والحمراء وبشارة الخوري والخندق الغميق. كان يجب أن تمر بطريق كورنيش المزرعة، الذي كان خطاً للقناصة الإسرائيليين. جرى تأمين مرورها وانسحابها.

طلب مازن من الرفيقين أبو موسى وفؤاد أن يبقيا إلى حين وصول الإسرائيليين.

أبو موسى وفؤاد معروفان بقوة قلبيهما. جرى إحضار «لاندين» عسكريين ووضعت الذخائر المتبقية فيهما من أجل أن يتم تفجيرهما بالإسرائيليين عندما يقتربون. ركن «اللاند» الأول قرب مسجد عبد الناصر على كورنيش المزرعة وركن الآخر قرب أحد المقرات العسكرية للحركة الوطنية، لجهة بربور، من الناحية الأخرى. حمل كل من أبو موسى وفؤاد قاذفة «بي 7» وانتظرا وصول الإسرائيليين. وعندما باتت القوات المجتاحة على مقربة من اللاندين، وفي مرمى نيرانهما، قصفوهما. ثم غادرا على الدراجة النارية التي كانت معهما إلى داخل منطقة بربور حيث اختفيا.

عندما رآهما مازن، لاحقاً، قالا له إنهما «قاما بواجبهما». بعبارة أخرى: «نفذت المهمة».

كان مازن وعمار قد وصلا في هذا الوقت إلى منطقة البسطة حيث اشتريا ورق لعب، ودخلا أحد الملاجئ، من أجل التمويه. في الملجأ، حاولت مجموعة من الشبان الفلسطينيين التحرش بهما. وفي وقت كان يفترض الحذر الشديد، قررا أن يغادرا الملجأ.

في البسطة التقيا بالرفيق أبو علي ش. الذي صاح بهما: «ما هذه الهيئة التي أنتما عليها؟». كانت ثيابهما ملطخة بالشحم ووجهيهما يحملان اللحى التي لم يمسها موس الحلاقة منذ فترة طويلة. كان واضحاً من هيأتيهما أنهما مقاتلان. صعدا مع أبو علي إلى منزله حيث استقبلتماها والدته. قالت لهما أن سخان المياه جاهز، وطلبت منهما التوجه مباشرة إلى الحمام. استحما وحلقا لحيتيهما وغيرا ملابسهما وغادرا. بعدها، توجها إلى حيث كان يجب أن يلتقوا بالرفاق الباقين، في منزل، في منطقة الظريف.

هناك وجد مازن مجموعة الرفاق متجهمة، غير أن أحداً لم يفصح عن أسباب كل هذا القلق. كان قد وصل خبر أن شقيق مازن قد استشهد. وهو كان ضمن مجموعة مقاتلة مقابل ثكنة الحلو، في شارع مار الياس. لاحقاً، أطل الشقيق، فانفجر الجميع بالضحك. عندما وصل الشاب المراهق قال إنه ظل يطلق النار حتى الرصاصة الأخيرة. فرط رشاشه «البيكاسيه» وصار يرمي قطعة منه كلما مشى مسافة نصف كيلو متر.. لم تكن لديه أي خبرة عسكرية.

عملية بسترس

في ذلك الوقت كانت الناس ترمي الأسلحة في النفايات وكانت بيروت خالية من المسلحين. صار المقاومون يذهبون إلى المستوعبات للتفتيش عنها. استدعى الياس عطا الله، وكان مسؤول الجهاز العسكري في الحزب، مازن واعلمه بوجود دبابتين إسرائيليتين في شارع مار الياس، لجهة الزيدانية، وطلب منه استطلاعهما. كانوا ثلاثة الذين نفذوا الاستطلاع. مازن، وعمار، و»رفيق عضو في اللجنة المركزية في الحزب». وعندما ذهب مازن وعمار إلى مركز الحزب القريب من النقطة الإسرائيلية، والكائن في الزيدانية، من أجل إحضار السلاح لتنفيذ العملية، وجداه خاوياً، فغادرا.

اجتمع مازن بالياس عطا الله وبـ «رفيق عضو في اللجنة المركزية (خ. م). طلب منه عطا الله أن يجمع من الشبان بقدر ما يستطيع فأبلغه: «هناك عمار وفهد». فطلب منه عطا الله التكتم على أنه ينسق معه ومع «الرفيق عضو اللجنة المركزية» حتى تبدو العمليات كأنها مبادرات فردية. وفي اليوم الثاني تم إيصال مازن بأمين «الذي كان حاضراً في كل شيء».

قبل هذا بفترة، خلال حصار بيروت، كان الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، جورج حاوي، قد اجتمع بكوادر بيروت في الحزب وأبلغهم التالي: «يا رفاق كل الناس تتوقع أن تصل إسرائيل إلى حدود بيروت من دون أن تدخلها، بينما تقديرنا الحزبي وتحليلنا السياسي كحزب يقول إنهم سيدخلونها. الصلة والاتصال قد ينقطعان بين الشيوعيين. المطلوب من كل كادر لديه الإمكانية أن يبدأ بتنفيذ العمليات ضد الإسرائيليين ألا يتأخر..»

العمل الذي سينطلق الآن هو من وحي ما قاله الرفيق جورج، فالأمر القتالي كان قد صدر.

كان ذلك مساء الاثنين ـ الثلاثاء (20ـ21 أيلول 1982). تم الاستحصال على قنبلتين يدويتين عن طريق الرفيقة بلسم. وتحدد الهدف: مجموعة إسرائيلية قرب صيدلية بسترس. وكانوا ثلاثة سيتولون التنفيذ: مازن، وعمار، وفهد.

عندما توجهوا مساء نحو الهدف، كانت الساعة تشير إلى الثامنة تقريباً. وبما انه على كل شخص أن يرمي قنبلة واحدة اختلف الثلاثة في من يرمي القنبلتين. بعد جدال، أقنع مازن فهد بأن «التالية»، أي الضربة التالية، ستكون من نصيبه. تم الاتفاق أن يرمي القنبلتين كل من مازن وعمار وأن يلتف فهد ليتأكد من أن القنبلتين وفقتا بالإصابات. كان الإسرائيليون متحلقين حول نار أشعلوها قرب الشجرة المنتصبة على مقربة من صيدلية بسترس. قال مازن: «نرمي القنابل في وسطهم».

وقف مازن وعمار من الجهة الأخرى، أي من زاوية «تكسيات دعبول». عدّا معا: واحد. اثنان. ثلاثة. ورميا القنبلتين. علا الصراخ.. ثم انطلقا بالركض.

وعندما وصلا إلى حيث يقع مركز توفيق طبارة حالياً كانت سيارات الإسعاف قد بدأت بالوصول. التقى الثلاثة مجدداً في منزل الظريف الذي كانوا انطلقوا منه. تعانقوا واحتفلوا وشربوا نخب العملية.

وقد أدت هذه العملية إلى مقتل وجرح ما لا يقل عن ثمانية جنود للإسرائيليين.

إثر العملية وصلت إلى مازن الجملة التالية على قصاصة من الورق أرسلها الأمين العام: «إنه لشرف عظيم لكم أن تكونوا أنتم من أطلق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية».

عملية محطة أيوب

في اليوم التالي، بدأ الرفاق الثلاثة التحضير للعملية التالية وكان هدفها مجموعة من ثلاث ملالات إسرائيلية عند برج المر. أبلغ الرفاق القيادة بالمهمة التي ينوون تنفيذها عبر أمين. العنصر البشري كان البريد ووسيلة التواصل الوحيدة وقتها.

عندما ذهبوا إلى برج المر لم يجدوا الملالات. كانوا أمام خيارين، إلغاء المهمة أو البحث عن هدف آخر. قال مازن لرفيقيه «أصبح عند القيادة معلومات بأننا سننفذ عملية، معنى هذا أننا يجب أن ننفذ العملية».

كان يريدون أن ينقلوا سلاح العملية لكنهم لم يملكوا وسيلة نقل. قصد مازن وعمار صديقاً من أجل استعارة سيارته. قال مازن لصاحب السيارة أن صديقاً له يريد أن «يخطف» فتاة من أجل أن يتزوج بها من دون علم أهلها وطلب منه أن يعيرهما سيارته، فوافق بعدما أقنعه أن المهمة لن تستغرق أكثر من «مشوار الطريق».

غير أن «العروس» لم تكن سوى ذخيرة العملية التي سيضعانها في الصندوق.

عندما وصلت السيارة المحملة بقاذفات «بي 7» و»كلاشينكوف» ولم تجد الملالات عند برج المر قال مازن: «نستطلع بسرعة نقطة محطة أيوب وأنا أمر بالسيارة على الحاجز الإسرائيلي». بلسم أيضاً شاركت في الاستطلاع. واتفقوا أن يمر مازن وحده بالسيارة: «إذا تخطيت الحاجز نتابع العملية، وفي حال تم القبض علي ترونني وتغادرون». لم يكن هناك من خيار لتنفيذ العملية سوى المرور على الحاجز الإسرائيلي. والحاجز كان على زاوية منزل السفير البريطاني سابقاً، المقابل تماماً لمحطة أيوب، في منطقة زقاق البلاط.

نجح مازن في عبور الحاجز وتوجه إلى ناحية بسطة خضار قريبة حيث لاقاه رفيقاه قربها وادعى الثلاثة أنهم يقومون بشراء الخضار. بسطة الخضار هذه تقع في آخر الشارع حيث تتمركز نقطة ثابتة للجيش اللبناني حالياً، قرب مدرسة «مار يوسف الظهور».

تحضر الرفاق الثلاثة للتنفيذ، إنما ظهر ما يهدد العملية كلها. الجنود الإسرائيليون كانوا يلاعبون ثلاثة أولاد صغار. كان عليهم انتظار مغادرة الصبيان الثلاثة. أما شرط فهد الأساسي فهو إطلاق النار بيده في هذه المرة.

بعدما غادر الصبية الصغار وصعد الجنود على متن الملالتين فتح الرفاق صندوق السيارة من أجل وضع الخضار التي اشتروها فيها. أسرع فهد وتناول قاذفة «البي 7»، كذلك فعل عمار. وهنا، حاول بائع الخضار أن يصرخ بعدما رأى مشهد الشبان المسلحين أمامه فما كان من مازن إلا أن نهره بقسوة. الملالتان تفحمتا بالكامل تحت وقع القذيفتين. صعد الرفاق الثلاثة في السيارة وانطلقوا. ثم خلع كل منهم القميص الإضافي الذي كان يرتديه فوق قميصه الأصلي للتمويه ورموها. وبعدما وصلوا إلى المنزل ركنوا السيارة واحتفلوا للمرة ثانية. وعندما أرجع مازن السيارة لصاحبها طلب منه ألا يتجول فيها. لم يسأل صاحب السيارة عن السبب. كان قد بدأ يشتم رائحة شيء ما في الموضوع.

وبعد هاتين العمليتين كرت سبحة العمليات في مناطق بيروت. الحمراء. منظمة التحرير (المزرعة). الرملة البيضاء. «الويمبي». عائشة بكار. الجناح. الكونكورد..

وقبل مرور عشرة أيام أو أكثر بقليل على احتلال العاصمة، بدأ الإسرائيليون ينادون عبر مكبرات الصوت: «يا أهالي بيروت. لا تطلقوا النار على جيش الدفاع. نحن منسحبون من بيروت».

أنور ياسين يروي تفاصيل عملية جبل الشيخ وتجربة «التثقيف الحزبي» داخل المعتقل

سعدى علوه

كان الشاب المراهق النحيف يشي بالرقة أكثر مما يوحي بـ «العنف»، وهو كان يحرس المركز الرئيسي للحزب الشيوعي في منطقة وطى المصيطبة، ويدرس في المعهد اللاسلكي المدني في عائشة بكار.. لم يكن هو، في ذهن الكثيرين، الشاب نفسه الذي اعتلت صوره نواصي الشوارع والمكاتب والجدران فجأة وقد ذيلت بعبارة «الأسير البطل.. بطل عملية الشهيد جمال ساطي».

كان ذلك في 17 أيلول من العام 1987، في اليوم الثاني لتنفيذه عملية جبل الشيخ.

فجأة طوى أنور ياسين، الشاب الذي أتمّ لتوه الثامنة عشرة من عمره، الصورة النمطية في أذهان الحزبيين ومعارفه وحتى أهله، وخرج إلى البندقية باكراًً، ليقدّم مساهمته وبإسهاب في مسيرة «جمول»، وليطوي من بعدها ستة آلاف يوماً من عمره في غياهب الاعتقال.

قصة العملية، والتي بدأت في 16 أيلول 1987، جاءت في سياق سابق. فالمقاوم هو أبرز منفذي عملية جبل الشيخ، التي أسفرت عن مقتل ضابطين وجنديين اثنين، وجرح خمسة جنود آخرين. وهو سليل عائلة مقاومة وبلدة عرفت سر الصمود بزيتونها وحقولها في وجه الغزاة. وعندما أرغمت العائلة على ترك الدلافة، اتجهت إلى عرين الحزب الشيوعي اللبناني على البوابة الجنوبية.. إلى الرميلة. في الرميلة، في العام 1986، كان الحزب الشيوعي اللبناني في أوج عطاءاته ونضالاته. كان ذلك هو العام الرابع على إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في 1982، وقد شكل الحزب يومها المدخل الناجح والمشع إلى العمل المقاوم.

ارتاح أنور الشاب إلى الخطوط العريضة للحزب: أجواء علمانية، تربية ضد الطائفية، ونضال طلابي يساري، وكل ذلك بعيداً عن «الجزء النظري، وعن الفكر المعمق وعن القراءات الضرورية لأي التزام»، كما يتذكر أنور اليوم. أنور الأسير سيقرأ «رأس المال» و»المادية التاريخية» و»المادية الدياليكتيكية».. وغيرها من الكتب في مكتبات المعتقلات الإسرائيلية التي ناضل المعتقلون، وخصوصاً الفلسطينيين منهم، لفرضها على سجانيهم.

كان المقاوم ـ التلميذ بالكاد قد بلغ الثامنة عشرة من عمره عندما اعتلى صخور جبل الشيخ وفتح نيرانه على عناصر الكومندوس الإسرائيلي الذين كانوا ينفذون مهمة استباقية، قاطعين الطريق على العملية الأساس التي كان أنور ورفاقه في طريقهم إلى تنفيذها في الأراضي الجنوبية المحتلة.

أمضى أنور فترة طويلة من اعتقاله بمعزل عن المتحولات السياسية الخارجية. بقي، كالذين انتظروه خارجاً، الأسير اليساري المقاوم الذي لا يلين. بقي رمزاً لحنين شريحة كبيرة تعيش على أمجاد المرحلة الذهبية لإطلاق «جمول» والعمليات النوعية التي نفذها أبطالها. ستة آلاف يوم هي الفترة التي قضاها أنور ياسين متنقلاً بين عذابات المعتقلات الإسرائيلية. ستة آلاف يوم، أي ما يوازي 16 سنة ونصف السنة تقريباً، لم تكن سنوات مرت والسلام. بل شهدت، وخصوصاً بالنسبة إلى المقاومة الوطنية اللبنانية، التغيرات الجذرية التي رسمت وأثرَّت في مسار المقاومة ككل، وخصوصاً في نتائجها.

انتظر أنور حتى ما بعد العام 1992، وبالتحديد بعدما تحرر رفاق له ومن بينهم نبيه عواضة، ليعرف بعض الأجوبة عن تساؤلات محيرة تقاسمها رفاق الدرب والحزب الواحد في المعتقل حول «جمول» وحزبهم والتحولات الأساسية التي منعت رفد المعتقلات بمزيد من المقاومين من اللون عينه.

لكل تلك التطورات التي طرأت في غيابه يحمل أنور مثلاً يتيماً يرد به: هو جواب المناضل الشيوعي التشيكي يوليوس فوتشيك في كتابه «تحت أعواد المشانق» عندما روى كيف قال له سجانه «ستخرج ولن تجد شيوعياً واحداً في الخارج»، فرد عليه: «سأبدأ بنفسي».

فالوعي والالتزام عند أنور هما للفكر وللمجتمع العادل وليس للأشخاص والتجربة، سواء تلك التي آلت إلى ما آلت إليه في الاتحاد السوفياتي، أو الظروف التي أحاطت بوضع الحزب الشيوعي في لبنان.

لا أعرف إن كنا جميعنا نعرف بتفاصيل ما حصل مع أنور في جبل الشيخ. كل ما نعرفه أنه مقاوم بطل يصنفه الإسرائيليون من ضمن «أصحاب الأيادي الملوثة بدماء الإسرائيليين»، وأننا كنا ننتظره بطلاً من زمن التنوع.

نضال البندقية

كانت الدراسة هي الحجة التي استخدمها أنور لتغطية غيابه عن منزل عائلته. كانت أم علي وأبو علي، اللذان سبق أن تذوقا علقم القلق على أبنائهما المقاومين، قلقين لغياب «صغيرهما» المستمر. في الوقت عينه، ضاق أنور ذرعاً بالنضال المدني داخل الحزب، بينما الجنوب ساحة مفتوحة، فطلب الانتساب إلى «جمول». يومها، بالإضافة إلى تأثره بشقيقيه علي وحيدر، كان لوقع عمليتي الشهيد جمال ساطي والشهيدة لولا عبود الأثر الأكبر في وعيه المقاوم. كان أنور مقتنعاً بفائدة معرفته بالطبيعة الجغرافية للأراضي الجنوبية المحتلة بالنسبة للمقاومة. لكن المسؤولين في «جمول» أقفلوا الباب في وجهه. «ما في مجال» هي الإجابة الحزبية الرسمية التي دفعته إلى أخذ إجازة مفتوحة من الحزب: «كنت اعرف أن مكاني الطبيعي هو على الجبهة في الجنوب ولم يعجبني الرد، فتوجهت إلى الجبهة الشعبية». وعندما خرج أنور في أول «طلعة» استطلاعية مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أدرك الشيوعيون أن الشاب المراهق جاد في البحث عن دوره، وإن خارج إطارهم، فبدأوا بإعداده.

في جبل الشيخ، وبالتحديد عندما اصطدمت مجموعة عملية الشهيد جمال ساطي بكومندوس إسرائيلي، وهي في طريقها إلى مرجعيون لتدمير موقع إسرائيلي - لحدي مشترك، سقطت الخطط الجاهزة، وحلت المبادرة الفردية للمجموعة التي كان أنور من بين عناصرها. وفي مركز الانطلاق نحو العملية، وبالتحديد عندما جُهز المقاومون برشاشات «ب.ك.س» روسية الصنع، طلب أنور من مسؤوله تزويده برشاش «كلاشنكوف» أيضاً. ضحك المسؤول ونظر إلى أنور وهامته الصغيرة، وقال له «أنت زموط بالـ «ب.ك.س» وذخيرته وأغراضك وخلّص جبل الشيخ، واوصل على الموقع وما حدا قدك».

في جبل الشيخ، وإثر اصطدام مجموعة أنور مع قوة الكومندوس التي كانت قد نفذت إنزالاً للتو، انسحبت المجموعتان الأخريان اللتان كانتا في أساس العملية المقاومة. بدأت المواجهات بقتل الضابط قائد القوة ومن ثم نائبه، بعد ذلك لم يعد أنور يسمع صوت إطلاق نار من جهة مجموعته، فاعتقد أن رفيقيه قد استشهدا. انصب اهتمام أنور، وبما أنه صار وحيداً، على «تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة، قبل الإستشهاد». كان الإسرائيليون يطلقون نيرانهم باتجاه التلة التي يتمركز فيها أنور، وبسبب الصخور المحيطة بموقع المواجهة واصطدام النيران العدوة بها اعتقد الغزاة أن هناك قوة مقاومة وليس فرداً واحداً كما هو الحال.

بعد وصول قوة الإسناد العدوة، بدأ الإسرائيليون بصعود التلة، إلى أن أحاطوا بأنور بشكل «القوس». حينها كان مصاباً إصابة مباشرة في عضل الكتف مع شظايا في الرأس وكان ينزف... بعد أربع ساعات ونصف على بدء المواجهات.

مع بدء الجولة الثالثة من المواجهات على التلة تعطل سلاح أنور فأصلحه. أطلق ثلاث طلقات، وتعطل رشاش «ب.ك.س» للمرة الأخيرة. لحظتها تذكر أنور قصة الـ«كلاشنكوف» وجواب مسؤوله، وبدأ بالإنسحاب منسلاً بين الصخور والساعة تقارب الواحدة ليلاً، والقنابل المضيئة تملأ السماء. كان الجنود يحيطون بالمقاوم الوحيد من الخلف ومن الأمام، وأضحى الوصول إلى المنطقة الحرجية القريبة من المستحيلات. وجد أنور شقاً بين صخرتين، وبدأ بسحب الحجارة من الشق ليغرز جسده مكانها. صار رأسه إلى الأسفل وجسده إلى الأعلى كأنه مزروع في الأرض، وهذه فكرة راقت له: «جميل أن تستشهد وأنت مغروس في الأرض التي تدافع عنها». عند الصباح، ولما سمع وقع أقدام الجندي الإسرائيلي الأول فوق الصخرتين اللتين ينحشر بينهما، أدرك أنور أنه ما زال حياً. بدأ الجندي بالصراخ، وبدأت مسيرة أنور مع عذاب الانتقام.

تجمع الغزاة، وما إن تأكدوا من عدم حيازته سلاحاً (إذ كان قد تركه في أعلى التلة بعد تعطله)، بدأ الركل والضرب والتعذيب. حوّل الجنود رأس أنور إلى «كرة قدم» كما يقول، إلى أن جاءت المروحية وسحبته إلى موقع عسكري مخصص أساساً لاستيعاب المجندين الإسرائيليين الجدد داخل فلسطين المحتلة.

حوّل الإسرائيليون مجدداً تلك «الرقعة المهترئة»، كما يصف أنور نفسه، إلى «مزار للتشفي ورفع المعنويات بعد الخسائر التي كانوا قد منيوا بها». وهناك وقعت على المعتقل الشاب وصلة انتقامية جديدة من الضرب والركل. وبعد نقله إلى مستشفى ميداني، حيث خيطت جراحه كـ «خيشة التبن» وقُص شعره كمن يُسلخ جلده عنه، بدأت رحلة التحقيق والتعذيب التي استمرت مئة يوم وهي «أصعب ما يكون». كان جميع الإسرائيليين، من محققين وجنود، يعرفون تفاصيل العملية وأنها أدت إلى قتل ضابطين وجنديين وجرح خمسة جنود إسرائيليين... إلا أنور. كان الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني آنذاك، جورج حاوي، قد أعلن عن العملية وتبناها الحزب وروى تفاصيلها، في حين تيقن المحققون من أن كل ما يرويه أنور عن «محمد علي الهادي»، وهو الاسم الذي ادعاه، لا يمت إلى الواقع بصلة. بالنسبة إليهم هو أنور ياسين الذي أعلنته «جمول» بطل عمليتها في جبل الشيخ، أنور الذي «تلوثت» قبضتيه الفتيتين بدم إسرائيلي.

في سجن عتليت، الذي نقل إليه بعد شهر ونصف على أسره، قابل أنور الصليب الأحمر الدولي للمرة ألأولى. وللمرة الأولى نزع الكيس عن رأسه فعجز عن الرؤية للحظات بعدما شعر بالضوء كـ «قنبلة ذرية» وقد انفجرت في وجهه بعد أربعين يوماً من ظلام الكيس الأسود. غطى أنور وجهه بيديه، ثم ازاحهما تدريجياً عن عينيه إلى أن تمكن من اعتياد الضوء ورؤية ماركوس زيمب.

يتذكر أنور تفاصيل لقائه بزيمب، ممثل الصليب الأحمر الدولي، الذي منحه «الجرعة الأولى والأكبر من المعنويات». من زيمب عرف أنور بأخبار العملية، قرأ رسالة شقيقته رحاب المنشورة في جريدة «النداء» تحت عنوان «لماذا لم تأخذني معك». ومن أخبار الصحف التي حملها له زيمب عرف حجم الخسائر التي كبدها للعدو، وأن رفاقه في العملية قد عادوا سالمين، ويومها كتب الرسالة الأولى إلى والديه من المعتقل. وقبل أن يتركه زيمب عبأ له جيوبه من سلة الفاكهة الغنية التي وضعها له الإسرائيليون، وأعطاه علبة سجائر وقال له: «كل الفاكهة واستفد من وجودي».

طلب زيمب من الإسرائيليين ألا يوثقوا يدي أنور الذي ينتظر في شاحنة الصليب الأحمر، وألا يلبسوا رأسه الكيس الأسود. هناك دخَّن سيجارته الأولى في الاعتقال، واستطعم كبطل بالفاكهة بعدما عرف ما «ارتكبت» يداه. لقد شكل له ذلك اللقاء «ولادة جديدة»، ويومها قال للمحقق في جلسة التحقيق الأولى التي تلت اللقاء مع زيمب: «ما بقى فارقة معي، أختي وكان بدها تجي معي على العملية وعلى المعتقل».

في المعتقل، يكون للرسالة الأولى طعمها، وقد وردت بعد خمسة أشهر على الاعتقال وكانت بخط يد زوجة شقيقه، ومختصرة، لكنها تطمئن على الأهل والأحوال وفيها من «ريحة الحبايب».

«أولاد المقاومة»

يتذكر بضحكة محببة وقد خبر أسر نبيه عواضه. يومها قال: «شو خلصوا الشيوعيين حتى صاروا يبعتوا أولاد على المقاومة؟». فلنبيه صورة «الشبل» الشقي في ذاكرة أنور: «كان في ذهني ذاك الشبل الذي يركل الحجارة وهو يسير في منطقة الطريق الجديدة نزولاً باتجاه مركز الحزب الشيوعي». ولم يصدق أن نبيه هو نفسه الذي يعرفه إلا عندما لحظ في أسفل البطاقة التي وصلت إلى المعتقل توقيع «نيرودا»، الاسم الذي كان نبيه يشتهر به: «نيرودا عيترون». كان ذلك بعد سنة وثمانية أشهر على بدء مشوار الأسر.

في العام 1991 سمع أنور صوت أمه على إذاعة «صوت الشعب» للمرة الأولى وبكى. وظل يبكي عندما سمع زياد، ابن أخته إيمان، يخاطبه: «خالو أنا حِبّك».

في المعتقل كان للمناضل الكبير عمر القاسم، المعروف بـ «أبي القاسم»، الفضل الكبير في توجيه أنور.عندما وصل أنور إلى عسقلان كان أبو القاسم قد أنهى عامه التاسع عشر في الاعتقال. بعد جمعة الساحة التقليدية، ساحة الشمس، التي يحتفي فيها الأبطال المعتقلون بالبطل الوافد، سأل انور عن أبي القاسم ليبلغه سلاماً من المعتقل عبد الرحمن البغدادي. يومها ضمه أبو القاسم، بعدما كان «صيت» أنور قد سبقه إلى عسقلان، وقال له: «عليك أن تكتسب شيئاً جديداً في كل يوم من اعتقالك، وإلا فإنك ستتأخر كثيراً وسيتراكم عليك التأخير». أخذه من يده إلى القراءة، إلى الفكر والكتب، إلى الرياضة الجسدية من ركض وحركات سويدية وإلى الشطرنج. وكان أنور بدوره يحرص على التفاعل الاجتماعي. يومها قال له «اقرأ ولو لربع ساعة يومياً» وهكذا كان، إلى أن أدمن أنور القراءة، وكانت بوابته إلى المعرفة الفكرية المعمقة وإلى ما كان ينقصه أيام الإلتزام الحزبي . سيستشهد أبو القاسم في السجن بعد معاناة مع مرض سرطان الدم، ولن يودّعه أنور كما يجب. لم يعرف أن نقله إلى المستشفى للعلاج في حينها سيكون بلا عودة.

يروي أنور أنه في العام 1974 نفذ مقاومون من الجبهة الديموقراطية عملية في مدرسة في مستوطنة معلوت، وكان المقاومون يطالبون بتحرير أبي القاسم بالدرجة الأولى. يومها أتى الإسرائيليون بعمر القاسم إلى مكان العملية، وسألوه أن يطلب من المقاومين الاستسلام والإفراج عن الرهائن. أمسك أبو القاسم بمكبر الصوت، وعلى مسمع من الإسرائيليين المنتظرين قال للمقاومين بالحرف: «نفذوا الأمر المطلوب منكم من قيادة الجبهة»، وهذا بعض ما يتذكره أنور من بطولات أبي القاسم.

يكنّ الأسير لحزب الله، الذي حرره وآخرين في العام 2004 ضمن صفقة تبادل، كل الاحترام والتقدير لخطه المقاوم: «اعتقلت بالمقاومة وتحررت بالمقاومة». هي المعادلة التي رست عليها عملية تحريره، «يعني غصباً عن العدو».

يشعر بأنه مدين «فقط للشهداء» الذين دفعوا حياتهم ثمناً لمقاومتهم..»نحن بقينا أحياء، تمكنّا كمعتقلين سابقين من بناء عائلة ونلنا من التقدير ما أشعرنا بقيمة ما فعلناه، لكن الشهداء لم يحظوا بذلك».

وفعلاً، بنى أنور عائلة بعدما تزوج من مايا ياسين، الشابة التي حظيت بالرجل الذي كان رتل كبير من «الصبايا» ينتظره خارج المعتقل كبطل بالدرجة الأولى. وبنى أنور عائلة أخرى، هي العائلة الإعلامية التي انضم إليها منذ أن بدأ العمل في «تلفزيون الجديد».

ومن عائلته الأولى أنجب وليام، وهو اليوم ابن تسعة أشهر، وقد اختار له هذا الاسم تيمناً بالدكتور الفنان وليام نصار الذي رفض جائزة دولية منحت له بالتشارك مع إسرائيلي، وكذلك بسبب وجود إسرائيلي آخر في لجنة التحـكيم الخاصة بالجائزة.

ويليام يحبو على ملصق يحتفي بتحرير والده من الأسر (بلال قبلان)