صناعة المدافئ... والرسم بتلاوين النار

الشيخ صالح القضماني وخبرة 60 عاماً في صناعة المدافىﺀ
الشيخ صالح القضماني وخبرة 60 عاماً في صناعة المدافىﺀ


كم طالت احاديث ليالي البرد والصقيع حول "وجاق النار" في تلك الضياع النائية مع غزل الريح لبساط الثلج واخبار الجدة مع غزل قميص الصوف. وتغير الزمن وصدى الايام الخوالي يرافقنا كلما زرنا تلك القرى وطال بنا السمر. زارت "صدى البلد" راشيا الوادي وهي من اقدم المناطق اللبنانية في صناعة المدافئ وهي مهنة قديمة تجدها في المناطق الجبلية التي تعيش شتاﺀ قارسا في معظم ايام، الشتاﺀ ومارس هذه المهنة كثر وحافظوا على طابعها القديم رغم ما طالها من تطور وتقنية، لكنها ما زالت تحافظ على وجودها رغم الخطر في الزوال الذي يطال كل الحرفيات القديمة.

بدأت صناعة المدافئ مع مطلع القرن الماضي وما زالت مستمرة حتى يومنا هـــذا، وقــد انطلقت المهنة عملا يدويا وكانت الوسائل والادوات المستعملة بدائية جدا فكان يتم الاعتماد على المطرقة والــســنــدان ومــقــدح يــدوي لقص الحديد وعلى المسمار لادخــال بعض الفن والزخرفة على الشكل الــخــارجــي وهـــذا مــا كـــان يجعل الــمــهــنــة عــمــلا صــعــبــا تتكاتف الاســــرة بكاملها فــي الــعــمــل ما جعل اســم المهنة يرتبط باسم العائلة، لكن هم استمرارية هذه المهنة وبقاؤها دفع مؤسسوها الى تعليمها كل من طلبها وها هي الحال مع "مؤسسة القضماني للمدافئ" التي تاسست العام 1937 مع غيرها من المؤسسات التي كان عددها لا يتجاوز الثلاثة في حين زاد عددها اليوم بحسب احـــصـــاﺀات الــبــلــديــة الـــى عشر مؤسسات تمارس هذه المهنة.

وتنتشر هــذه المهنة في لبنان في اماكن قليلة مثل عاليه والتي تتميز بكمية الانــتــاج الكبيرة وكذلك في الشمال ولكن ليست بنفس الحرفية الــمــوجــودة في مثيلاتها كراشيا وعاليه.

انــة هــي قصة انصهار الحديد والنار والحكاية تبدأ مع اشعال الفرن وموقعه في صدارة المصنع، تزوره صفائح الحديد صلبة قاسية لتخرج منه على الشكل الذي رسمته ايدي فنان اختار الزوايا واللون والالتواﺀات والاكسسوار الضروري الذي يتوافق مع الديكور والــذوق الذي يتناسب مع المنزل الذي سيشكل احد اهم مــحــتــويــاتــه وزيــنــتــه طيلة اشهر الشتاﺀ.

ان المواد الاولية التي تدخل في هذه المهنة هي بسيطة تختصر على صفائح الحديد التي تدخل عليها مــهــارة ومــوهــبــة المصنع لتحويلها الـــى مــدفــأة. والادوات المستعملة شبيهة بتلك التي كانت تستعمل قديما لكنها متطورة وفقا لما سمح التطور بادخاله الى مثل هذه المهنة اليدوية، مثل المقدح الآلي والمقصات الكهربائية وطبعا الفرن الحديث وطبعا الجهد الجسدي وهو الذي يشكل مصدر الطاقة الاهم لذلك كان العمل شاقا ولكن دخول الكهرباﺀ شكل التحول الاكبر في المهنة وسمح للموهبة والفن من ان يأخذ مداه الارحب بالاضافة الى انه ساعد على زيــادة الانتاج واختصار الوقت.

لــــم يـــعـــد الانــــتــــاج مـــحـــدودا فمؤسسات راشيا مجتمعة تنتج سنويا بحدود 3000 مدفأة، وفي الــواقــع لا تباع في مكان مخصص ولا يقام لها معرض مخصص، انما يجب زيارة المصنع مباشرة للحصول عليها او يتم الطلب الشخصي وفقا للذوق الخاص والمواصفات المطلوبة.

اما الانتاج فيباع محليا وكذلك في كل المناطق اللبنانية والتي تقصد اصــحــاب الــمــهــنــة لــلــحــصــول على المدافئ "الصوبيات القديمة".

ولكن دخــول الكهرباﺀ لا يعني دخـــول آلات متخصصة فــي هذه المهنة. انما ساعدت على ادخــال معدات حديثة سهلت العمل الذي بقي يدويا بلا فبارك وهذا ما اكده الشيخ صالح القضماني بان الانتاج لا تدخله اي مواد غريبة او الدهانات والــمــواد الكيميائية والــلــون الــذي يأخذه الحديد انما يخلقه العمل على تلاوين النار. وكذلك يتم التوليف حديثا بين القرميد والحديد وهذه طــريــقــة جــديــدة تــعــطــي جمالية للانتاج بحيث تأخذ المدفأة شكل الـ "شيمينه" في مزج جميل بين تراث غربي وشرقي يتوافق مع الديكور الحديث الذي يدخل على فن العمارة وهــذا ما يسمح للمهنة بان ترافق التطور محافظة في نفس الوقت على طابعها الخاص.

هـــذه الــمــهــنــة هــي موسمية يستمر العمل فيها من اواسط آب حتى اواســط كانون الاول. وهي ما زالـــت تشكل مـــورد العيش الاول للعاملين فيها مؤمنة لهم الكفاف.

ولا خــوف على مستقبل هذه المهنة لان الطلب على الانتاج ما زال كبيرا كونها صناعة ضرورية في طبيعة قاسية شتاﺀ مثل الطبيعة اللبنانية، وتصريفه لا يختصر فقط على ســوق المنطقة انــمــا فــي كل المناطق اللبنانية، بالاضافة الى ان التدفئة المركزية مكلفة لذلك تبقى المدفأة القديمة هي الاول والاكثر اعتمادا في فصل الشتاﺀ في المناطق الجبلية اكانت مدفأة تستعمل على الحطب او على المازوت.

مـــرت المهنة بمرحلة صعبة في السنوات الماضية فغلاﺀ سعر الحديد وهو اهم المواد المستعملة فيها والاســاســيــة، رفــع التكاليف واضعف القدرة على الانتاج بكميات كبيرة خوفا من عدم القدرة على بيع الانتاج اذا ما ارتفع سعر المدفأة، وكذلك غلاﺀ سعر المازوت ادى الى تراجع الطلب عليها. وتبقى المشكلة الكبيرة وهي انقطاع الكهرباﺀ بحيث لا يملك القدرة على الاستمرار من لا يملك مولدا كهربائيا خاصا ليستطيع ان يشغل مصنعه في اوقات انقطاع التيار الكهربائي، وهــذا ما يجعل المهنة في خطر اذا ما قدمت لهم الــمــســاعــدة الــضــروريــة مــن جهات مسؤولة عن استمرارية هذه المهن والحرفيات.

اما اسعار المدافئ فتبقى مقبولة مع العلم انه لا يوجد اتفاق على سعر ثابت بين كل من يمارس المهنة تشجيعا على المنافسة والعمل على تقديم الافضل والاجــمــل وهــذا ما يعمد الجميع على تقديمه فبامكانك ان تقتني لمنزلك مدفأة على شكل قصر تحيط به قناطر واعمدة او مدفأة على شكل قطار وغيرها من الافكار التي حولت المهنة من كونها صناعة الى فن وجمال.

وردا على ســؤال: هــل تعتبرون انــكــم فـــنـــانـــون؟ كــــان جــــواب آل القضماني "لن نحكم على انفسنا، فــلــيــحــكــم الـــنـــاس عــلــى انــتــاجــنــا وابداعاتنا".

وفــي الــواقــع لقد دفعهم حب المهنة والشغف لتقديم الافضل والاجمل الى صنع بوابة تبدو وكأنها لوحة يعبرها نهر صغير تحيط به الاشجار من الجانبين، لوحة لا الوان فيها سوى تلك التي رسمتها النار واختارتها ايدي فنان.

- المدفأة صديق قديم للعائلة، ويقول احد الخبراﺀ ان "الحنين هو الـــذي يــدفــع شــعــوب المجتمعات الحديثة للتعلق بالمدفأة" وهذا الحنين انما هو الــى الماضي، الى مراحل سابقة في حياة الشعوب.

ويــضــيــف انــهــا العنصر الوحيد للتدفئة وتحضير الاطعمة، الملاذ الذي تجتمع حوله العائلة بحثا عن الحميمية والشعور بالامان.

- الانماط الحديثة للمدافئ تقدم اضافة مهمة لجماليات المكان، ومنذ السبعينات دخلت مواد جديدة مثل الزجاج وكذلك الفولت التي شكلت تحولا جذريا، جماليا، وظيفيا للمدفأة.

هذه المواد الجديدة اخرجت المدفأة من سياقها التاريخي كعنصر ينتمي الــى الــعــمــارة، وادخلتها فــي عالم الزخرفة الداخلية.

تعليقات: