نصب أقامه الحزب الشيوعي في كفررمان (عدنان طباجة)
في «كفر موسكو».. حيث كان الناس يُعتقلون بسبب منشور..
عُرفت وتُعرف باسم كفر موسكو. ليس عن عبث. كفر رمان الواقعة في قضاء النبطية قرية ذات تاريخ يساري وحاضر خليط من اليسار والقوتين الحاضرتين جنوباً، حزب الله وحركة أمل.
التالي استعادة تاريخية لماضي القرية الاحمر، وقد صار بعيداً. ماضي العمال والفلاحين يناضلون ضد «الاقطاع» ويسجنون بسبب بيان يرمى على الطرقات. ماض غابر.. وجميل.
إنه العام 1947. «الرفاق» في منظمة الحزب الشيوعي في النبطية يتهيأون لإحياء الذكرى الثلاثين لانتصار ثورة أكتوبر البلشفية. الدعوات تمت سراً. رميت المناشير على الطرقات وعلق بعضها ليلاً على أبواب المنازل. حصلت التظاهرة واعتقل المشاركون والمحرضون. كان أبو سمير بصار (عمره اليوم 74 عاما) يعمل خياطاً لدى حسن محي الدين، المسؤول الثقافي لمنظمة الحزب الشيوعي في النبطية آنذاك. اعتقل حسن مع سائر الشيوعيين فذهب العامل أبو سمير لتفقد رب عمله في سجنه. كلفه الاخير بمهمة حساسة للغاية، وهي إتلاف جميع البيانات والكتب والمنشورات الموجودة في البيت. اخبر أبو سمير صديقه وابن قريته كفررمان محمود أبو زيد (ابو خلدون) فطلب منه الأخير تنفيذ المهمة بسرعة تحسبا لمداهمة منزل حسن من قبل الدرك. أخذ أبو سمير معه الكتب والأوراق «الشيوعية» وتوجه نحو منزله وخبأها في «الكوارة» وهي فراغ بين جدارين تسحب من أسفلها المونة التي ترمى من فوق لتحفظ فيها.
عند المغيب التقى أبو سمير صديقه وأخبره بما فعل، ومذ ذاك الحين تكثفت لقاءات الشابين. صار «الجل» مقرهما، وشجرة التين قاعة لاجتماعاتهما. كان أبو سمير يسحب الكتب من «الكوارة» لتناقش داخل الاجتماع. وبدآ العمل معاً لتحريض الناس من مزارعين وفلاحين ضد الاقطاع السياسي.
الشيوعيون الاوائل سيستغلون حالة الاذلال التي يعيشها أبناء القرية ويشرعون بتحريض الفلاحين والعمال والمزارعين والأساتذة.
أنشأوا الخلايا الحزبية ورسخوا حضورهم داخل البلدة، في تلك الفترة وقعت الحرب في فلسطين ولحقتها النكبة فقدم الى النبطية شخص فلسطيني يدعى معروف حسون على دراية كافية بالأفكار الشيوعية. افتتح صفاً في منزله بالنبطية لتعليم اللغة الانكليزية وكان يمرر خلاله محاضرات عن الشيوعية. كانت مهمة ابو خلدون رفده بالمزيد من الطلاب، وهذا ما حصل مع احمد محمد قانصو (70 عاما). واجهت عائلة أحمد الإقطاع منذ البداية ودفعت ثمن ذلك تهجيراً من كفر رمان نحو قرية طمرة وهي مزرعة صغيرة تقع عند جسر الخردلي. سعى الإقطاع إلى تأليب العائلات الكبيرة الواحدة ضد الأخرى بهدف الحفاظ على نفوذه واستدامة سيطرته، مما اضطر الفئة المتضررة لطلب العون من إقطاع آخر معارض لإقطاع آل الزين المسيطر، فقد كان آل الأسعد يدعمون في كفر رمان كل من هو معارض لآل الزين ومن هنا نشأت علاقة قوية بين الشيوعيين والاسعديين ستتعزز لاحقاً في ثورة 1958 حين وقف الأسعديون إلى جانب الثوار في مواجهة كميل شمعون وحلفائه. على أن آل الأسعد كانوا يمارسون اقطاعهم «كما يجب»حيث نفوذهم قوي.
في سجلات ذكريات شيوعيي البلدة العتاق نصر يتعلق بعدد ساعات العمل. كان الفلاحون يقومون باكراً إلى حقولهم على شكل مجموعات تسمى ورشاً، فكل ورشة مؤلفة من 10 أشخاص يعملون في الأرض معاً وعلى كل ورشة إن تنجز زراعة دونمين من الدخان في اليوم من السادسة صباحا حتى السادسة مساء. قرأ أحدهم في أحد الكتب عن تخفيض ساعات العمل، فذهب أبو سمير سلامة (81 عاما) إلى أحد أصحاب الورش ممن كانوا على خصومة مع آل الزين عارضاً عليه العمل من السادسة حتى الرابعة مقابل إنجاز ما هو مطلوب، أي زراعة دونمين من الدخان. وهذا ما حصل. فقد عقد العزم ورفاقه على العمل بصورة متواصلة بلا تلكؤ لتحقيق الهدف وعند الساعة الرابعة تركوا الحقل عائدين بشاحنة كبيرة كانت تقلهم ذهابا وإيابا وهم يهتفون. الكل كان مذهولا بعودتهم مبكرين. سرعان ما انتشر الخبر في المناطق المحيطة خاصة في النبطية التي تبنى مزارعوها وعمالها الفكرة وقاموا بفرضها لتصبح بعد عام نوعاً من الحقوق المكتسبة لدى المزارعين.
تبرعات لمدرسة القرية
نحن في العام 1954. الشيوعيون في كفر رمان يحتفلون بفوز الشيوعي خالد بكداش بالنيابة في سوريا، ولهذه المناسبة عقد اجتماع حزبي في القرية وعلى جدول أعماله التبرع بخمسة قروش لشراء سيارة للنائب الفائز. تعاظم نفوذ الشيوعيين بعدما نجحوا في استقطاب مجموعات جديدة من القرية ومنهم من كان مؤيدا لآل الزين. تعددت المهمات فقد انطلق العمل على جمع التبرعات لبناء مدرسة للقرية. كان طموح احمد قانصو ان يجلس في مدرسة كبيرة لا ان يدرس في غرفة محاذية للحسينية او في بيت الشيخ. وبعد سنوات من جمع التبرعات فرض الشيوعيون على وزارة المعارف الشروع بإقامة مدرسة بعدما استحصلوا على ارض ووضعوا الاساسات لتشييدها. إلا أن احمد لم يتمكن من متابعة تعليمه بعدما منعه الأستاذ من الدخول الى المدرسة بسبب ولائه للحزب. ركب احمد دراجته الهوائية المركونة أسفل الدرج وأطلق الشتائم بوجه الأستاذ ومن ثم غادر المدرسة وبعدها استصدر جواز سفر وترك لبنان إلى الكويت.
في تلك الفترة عمل الشيوعيون على إقامة مهرجان لمزراعي التبغ فتم تشكيل لجنة تأسيسية ترأسها محمد نجيب الجمال من قرية عيناثا. قام أبو سمير سلامة برفقة صديقه كامل قانصو بتوزيع المناشير التحريضية على القرى. كان كامل على علاقة وطيدة بمختار قرية برعشيت فقصده لدعوته للمشاركة في المهرجان. لم يكن كامل يعلم بعلاقة المختار بالسلطات فسلمه الدعوة وبادر المختار لاخذ المناشير المتبقية عارضا توزيعها بنفسه. في اليوم الثاني وأثناء عودة أبو سمير سلامة من الحقل ومعه عائلته كانت الشرطة بانتظاره فتم اعتقاله وسوقه الى مخفر النبطية حيث وجد هناك سائر رفاقه وبدت عليهم آثار التعذيب.
كان وقع الاعتقال صاعقا على الاهالي فقصد وفد منهم النائب آنذاك سميح عسيران فتم تكليفه بالترافع عن المعتقلين لكن بعد تدخل من الرئيس فؤاد شهاب تم اخلاء سبيل المعتقلين فعادوا الى كفر رمان.
الدولة والاقطاع الجديد
لم تكن اوضاع القرى الجنوبية الاخرى افضل حالا فمع دخول الجنوب دائرة المواجهة مع العدو الاسرئيلي وتعرض قراه وحقوله للاعتداءات الاسرائيلية، لم تقم الدولة بدعم صمود المزارعين مما دفع العديد منهم للسفر الى خارج الاراضي اللبنانية او الانتقال للاعمال الحرفية. أدارت الدولة ظهرها لقضايا الجنوب مما زاد أعباء الحياة. الاقطاع من جهة وتجاهل الدولة من جهة والعدو الاسرائيلي من جهة اخرى. ولكون كفر رمان ذات صبغة حمراء فقد ازدادت معاناتها فانتقلت من مواجهة الاقطاع السياسي الى مواجهة سياسة الدولة.
جرت مظاهرة امام الريجي في العام 1973 مطالبة برفع سعر كيلو التبغ، وفي العام 1975 ذهب وفد من القرية ضم الشيوعيين والنائب عبد اللطيف الزين لمقابلة رئيس الحكومة وكان يومها رشيد كرامي رئيسا للوزراء ووزيرا للمالية، وعرض الوفد مشاكله مع الريجي وقصة «البريم» فالريجي لا تحتسب حتى يومنا هذا القطفة الاولى وتسمى تكعيبة ضمن زنة المحصول، فتصادرها وتضعها في حسابها. فما كان من دولته الا ان طالب المزارعين بعدم زراعة التكعيبة!
تعرضت كفر رمان إلى نكسة كبيرة فسهل الميذنة الذي يمثل الشريان الحيوي للقرية على حد تعبير حسين المعلم (60 سنة) كان عرضة للقصف في منتصف السبعينيات من القرن الماضي مما جعل التواجد فيه خطراً على حياة الفلاحين. نتيجة ذلك خسر الفلاحون أرضهم لسنوات فحرم من لم يتمكن من زراعة أرضه من رخص الدخان فقامت الريجي بسحب ما يقارب 1500 رخصة.
وبين عامي 1985 و2000 وقع السهل تحت قبضة الاحتلال وتم تهجير نصف القرية وإفراغ احيائها الشرقية من سكانها فهي أصبحت واحدة من قرى المواجهة وقاعدة لانطلاق العمليات العسكرية من داخلها. فكانت عرضة للقصف والتدمير بصورة متواصلة.
بعد التحرير في العام 2000 عاد سهل الميذنة الى كفر رمان لكن لم تعد زراعة التبغ اليه. كان وجه القرية تغير وبرزت قوى سياسية خلال العشرين عاما الماضية فظهرت حركة أمل كمنافس قوي للشيوعيين مدعومة من نفوذ عبد اللطيف الزين النائب عن المنطقة منذ 47 عاما كذلك الامر بالنسبة لحزب الله الذي رسخ حضوره القوي في القرية.
كفر «قم» ام كفر «موسكو»
يوجد في القرية اليوم العديد من الأندية الرياضية فلكل طرف سياسي ناد رياضي ـ اجتماعي ـ ثقافي وكشافه الخاص به. حركة أمل لديها كشاف الرسالة وحزب الله لديه كشاف المهدي، أما الشيوعيون فهم مسيطرون على فوج التربية الوطنية التابع للدولة. تقام الكثير من النشاطات الترفيهية المختلفة في سعي لاستقطاب الأجيال الجديدة.
الشيوعيون ممثلون بالبلدية بعدما فاز تحالفهم وحركة أمل والنائب عبد اللطيف الزين في مواجهة حزب الله في الانتخابات البلدية الاخيرة. الاهالي يعترفون بفضل الشيوعيين على البلدة ودفاعهم عن حقوق الفلاحين والمزارعين ابان الاقطاع السياسي وفي تصديهم للاحتلال حيث تحتضن جبانة القرية تسعة من ابنائها سقطوا شهداء اثناء تنفيذهم لعمليات عسكرية في اطار جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. معهم هناك تسعة شهداء لحزب الله وأربعة لحركة امل ينامون تحت تراب القرية الواحد.
يقدم الشيخ حسين محيدلي (56 عاما) شهادة مؤثرة في حضرة قدامى شيوعيي كفر رمان معترفاً بدورهم التاريخي في تحديد ساعات العمل وتحسين اجور الفقراء ورفض السلطنة والاقطاع والعمل بالمجانية والجبر، اضافة إلى دورهم في مقاومة الاحتلال بدءا من الحرس الشعبي وصولا الى المقاومة الوطنية. ويطالبهم بالعدول عن افكارهم والاقتراب اكثر من القوى الاسلامية خاصة حركة أمل وحزب الله. وحين يقع الخيار على تصنيف القرية بين «كفر قم» او «كفر موسكو»، يضحك الطرفان مضطرين إلى العودة إلى الاسم الاول والاخير: كفر رمان.
يتوحد المواطنون في كفر رمان من سكان كفر قم وكفر موسكو على الهموم اليومية فمياه الشرب لا تصل القرية الا نادرا بعدما جرى استجرار مياههم نحو الغازية مما حرم القرية نعمة المياه اضافة الى ان الكهرباء لا تخضع لاية رقابة وأحيانا تستمر مقطوعة لعدة ايام متواصلة ناهيك عن الوضع السيئ للطرقات. مر الموسم الانتخابي ولم تحظ القرية بنعمة الإسفلت الجديد كسائر المناطق اللبنانية ربما لكون المنطقة لا تجري فيها معارك انتخابية وبالتالي لا وجود لتنافس ينعكس إيجابا على المواطنين اقله في ما يتعلق بالزفت على الطرقات وهذا اضعف الايمان.
تعليقات: