الطاحونة... من طحن الحبوب على الحجر الى الاستفادة من قوة المياه والطاقة البشرية

انها حكاية طويلة، يرويها لك ذلك المزارع الشيخ، الذي انتظر كثيرا وعـــود الــعــاصــفــة بذهب الحقول، وهــا هو يوقظ المناجل في صباح العيد، انه عيد الحصاد... وتدور "طاحونة ضيعتنا".

المطاحن من المظاهر القديمة جدا وباتت رموزا للحياة القديمة اذ اعتمدتها واستعملتها شعوب عدة منذ ما قبل الميلاد، ويعود تاريخها الى اليونان القديمة. وهي ترتبط بشكل طبيعي بالثورة الزراعية وهي اول التحولات التي ادت الى استقرار الانسان وبالتالي بدﺀ الحضارة. وهناك انواع عدة من المطاحن القديمة كان ابرزها واكثرها انتشارا المطاحن المائية بحيث بني معظمها على ضفاف الانهر او على جانب الينابيع او العيون. تنتشر هــذه المطاحن فــي كــل العالم تقريبا وخصوصا في منطقة حوض البحر المتوسط حيث يسمح المناخ المعتدل ببعض المزروعات المميزة لا سيما العنب والقمح والزيتون وانما يرتبط تاريخ المطاحن بهذه المحاصيل التي تعالجها.

ارتــبــطــت المطحنة القديمة بالحياة اليومية للناس، فكان القمح والطحين هما القوت اليومي المنزلي وكانت ربــة المنزل تؤمن بنفسها قوت عائلتها من الخبز. وما زال حتى اليوم الهاجس الاساسي عند الاهالي في اوقــات الازمــات ان يؤمنوا ما يكفيهم من مؤونة القمح والطحين.

وفي الواقع لقد انتشرت المطاحن القديمة على طول سلسلتي لبنان الغربية والشرقية منذ القدم وكانت المكان الــذي يلتقي فيه الناس بشكل دائم لذلك تحول الى متنفس لهم يبعث فيهم الشعور الجماعي بالفرح وكانت الطواحين تتحول الى ساحات الرقص والدبكة والغناﺀ الشعبي القديم. وكم غنت فيروز مواعيد الحب والغرام واللقاﺀ الاول "ع. الطاحونة".

كانت المطحنة تتألف دائما من بناﺀ خاص على ضفاف الانهر، وتجر المياه بواسطة قناة من اعلى النهر الــى سطح المطحنة حيث تتجمع المياه في خــزان كبير للتمكن من التحكم بضغط المياه، وفي وصف لاحدى تلك المطاحن، نرى انه وسط المطحنة هناك مسننان كبيران احــدهــمــا افــقــي والآخــــر عــمــودي، تجري المياه الى المسنن العمودي فيتحرك وبالتالي يتحرك المسنن الافقي ويتصل باحجار المطحنة وتعرف باسم "الرحى" وهي عبارة عــن حجرين مستديرين احدهما ثابت والآخــر متحرك بغرض طحن الــحــبــوب. فتعود الــى النهر من فتحات مخصصة لها، اما داخل المطحنة فهنالك في الوسط جرن لوضع القمح الذي يجب فرزه بعد الحصاد من التراب والحجارة والحبوب الفاسدة "الــــزوان"، وفي اسفل الجرن فتحة تؤدي الى مزراب خشبي فوق الرحى وهناك خشبة تربط بحبل الى المسنن الذي يقوم بتحريكها فيضرب على المزراب لكي ينزل منه القمح الى ما بين الحجرين.

ويسمى صوت المطحنة "دمدمة" وقد يعلو او يخف حسب قوة المياه.

ان الآلة التي كانت تطحن القمح هــي نفسها الــتــي كــانــت تعصر الــزيــتــون فــي عهد الــرومــان وذلــك بعد تعديل تقني بسيط. وكانت هذه الآلة تعمل بالجهد الجسدي لــلانــســان والــدفــع العضلي حتى القرن الاول قبل الميلاد مع اكتشاف المطحنة المائية. وكان هذا التحول الاول الذي اصاب المطاحن وباتت تعمل بدون الجهد الذي كان يبذله الانسان لذلك.

الا ان المطحنة الــمــائــيــة قد تقهقرت كثيرا مــع مطلع القرن العشرين مع دخول الكهرباﺀ وبالتالي التقنيات والآلات الحديثة التي حلت مكان قناة المياه وحجر الرحى وتعمل على الطاقة الكهربائية.

وهذا ما ادى في لبنان الى اختفاﺀ 30 مطحنة عن نهر ابو علي وآخر مطحنة مائية كانت على مجرى نبع الطاسة في الجنوب ولكن دمرتها اسرائيل العام 1982.

وما بقي من آثار مطاحن قديمة تــحــول الـــى تــــراث مــحــلــي وتقليد قديم يمثل مرحلة قديمة من حياة الــشــعــوب. ويعتبر الدكتور محب نــادر في كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية ان "الغربيين كان لهم تأثير سلبي كبير في هذه القضية، فالمشروع الاميركي نجح وما عدنا نطحن قمح ارضنا بل اصبحنا نستورد الطحين من الاميركيين اما الاوروبيون فمصلحتهم تقضي ببيعنا الصناعات الحديثة، فرفضوا استيراد زيتنا من المطاحن المائية بحجة انه لا يتناسب مع المعايير العالمية وفرضوا شراﺀ ماكينات حديثة، من ايطاليا وغيرها من الدول الاوروبية، كي يستوردوا الزيت".

وفـــي الـــواقـــع كــانــت المطحنة القديمة وخصوصا المائية صديقة للبيئة اذ لا تنتج اي مــن الادخنة والملوثات. وكذلك صديقة للانسان الــذي وفــرت عليه الجهد الجسدي الذي كان يبذله بالاضافة الى انها اوفر واسلم.

كما انــهــا كــانــت تلعب دوريــن اقتصاديا واجتماعيا لان التقنيات الــقــديــمــة كـــانـــت تــشــكــل قيمة اجتماعية مهمة لانها كانت تقوم بطحن المحاصيل المحلية بغرض بيعها كالقمح والشعير وغيرهما، ما يخلق مردودا لا بأس به على السكان المحليين. ومــا زالـــت بعض الاســر تتشبث بالمطاحن القديمة وهذا يرتبط في العمق باحياﺀ عادات قديمة جدا وتكريم موسم الحصاد.