إلـى زينــب


إنه الخريف. فصل النهايات. وأنا لا أعرف أمّك يا زينب. لكنّي كنتُ كلمّا تحدثتِ عنها، أتوق للاستماع إلى المزيد عن تلك المرأة التي تبدو من كلامك كالأسطورة المشتهاة: كنت أتخيّل أنها، على رقّتها، ذات كفّين تتسعان لضمّ وجوه الأبناء كلهم، وأتصوّر أنها، على الرغم من قسوة الحياة عليها، لها حضن وثير يتسع لمئة رأس يصبو إلى متكأ.

هي التي كافحت طويلا بلا سند، كانت تمد من حولها بالقدرة على الاستمرار. صلبة وحنونة، ولها وجه يشبه وجوه الأمهات الجنوبيات كلّهن.

كيف استطاعت، هي وحدها، أن تربيك وإخوتك بعد رحيل أبيك، هناك في القرية، وأن تتحولوا بعد سنوات إلى رجال ونساء ترفعون رأسها، تغرفون من العلم والأدب، تؤمنون بمبادئ العدالة الاجتماعية وبسلطة الكلمة تتفوق على السيف، تدخلون إلى المدينة محصنين بمعارفكم ومبادئكم، وتصبحون من نسيجها ومن المؤثرين في حياتها؟ كل ذلك وليس من بينكم أحد شعر للحظة بأنه ما عاد بحاجة إليها.

كيف استطاعت أن تحمل، كالجــبل، ما حمــلت، والواحدة منّا اليوم لا تنفكّ تشكو من مسؤولية ولد واحد وفي متناولها سبل رفاهية لا تحصى لم تعرف أمك أيا منها يوما؟

أراك كلما ذهبت إلى الجنوب للتحقيق لا تجالسين سوى النسوة اللواتي في مثل سنّها، وتعودين في كل مرة وفي جعبتك قصص عن بطولاتهن الصغيرة وضحكاتهن. كأنما هن أقوى من أن يضعفن. كأنما هن كلهن أمك.

أغيظك في رمضان وأسألك عن صيامك وأنت «ذات ميول يسارية» فتثورين للسؤال، ولا ترين التناقض بين الأمرين. شأنك شأن جيل بكامله نشأ في تلك الرقعة من الوطن وهو لا يرى كيف يمكن للدين أن يتعارض مع مبادئ التحرر والمساواة. تثورين كلما أحسست بأن هناك من يحاول احتكار الدين وتفصيله على مقاسه وتسألين: أين كان هؤلاء من قبل؟

أستغرب سخطك كلما عدت إلى المكتب تشكين من الفوضى، والزحام، وغياب الحس المدني بين الناس. وأسألك: ألم تعتادي بعد يا ابنة زوطر على العيش في هذا البلد؟ فتضحكين. وتبكين كالطفلة كلما وقع اغتيال، أو حرب، وتصرخين بأنك تريدين التوقف عن ممارسة هذه المهنة، ثم تعدلين.

أما إذا كُلّفت بتغطية ندوات تتناول علاقة الحياة بالمدينة، هندسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا، فتعودين كالعاشقة الحالمة التي فارقت للتو حبيبها.

أقول كل هذا لأقول إنه هو تماما ما صنعته أمك: صحافية تؤمن بالحق، والتغيير، تخوض معارك مهنتها من دون أن ينسيها ذلك يوماً أنها قبل كل شيء إنسانة من إحساس وصدق.

تروين يا زينب كيف أنك وأنت طفلة كنت تمسكين بذيل ثوب أمك طوال الوقت، تجولين معها كيفما اتّجهت، خوفا من أن تمضي كما مضى هو. ما زلت أنت حتى اليوم تلك الطفلة. «عشت حياتي كلها وأنا أخشى لحظة فقدانها»، تقولين. تدخلين علينا وتقولين كمن يتحدث عن كوكب آخر «سرطان أمي انتشر في كل جسمها، وستموت.» هكذا، بلا أي تعبير على وجهك، ثم تجلسين إلى مكتبك وتستأنفين العمل على تحقيقك. ثم علت قهقهتك في الصالة كلها لمّا أبلغك الطبيب أن وضع أمك يتحسن.

الموت حق، تعرفين، وأمك مسنّة، ومريضة، تعرفين، لكنك لا تعرفين كيف ستستمرّّين من دونها.

لمّا أبلغوك أنها دخلت في الغيبوبة، مشيت إلى المستشفى وقد انحنت كتفاك، وتقلّص جسدك. ملامحك كلها كانت تشي باليتم. اليتم الذي جنبتك هي اختباره لمّا رحل والدك. يوم أمس، حلّ اليتم.

رحلت أمك يا زينب، سقطت الخيمة التي كانت تقيك القيظ والمطر. رحلت واحدة من أمهات الجنوب اللواتي صنعن جيلا يرفع الرأس. لكنها رحلت فقط بعدما أتمت مهمتها: تركت لنا أبناء يرفعون الرأس.

[ توفيت أمس الأول السيدة فوزية لمع، والدة الزميلة زينب ياغي، ووريت في الثرى في جبانة قريتها زوطر الشرقية.

تعليقات: