الشاعر عصام العبدالله في مقابلة تلفزيونية
بيروت ـ
يكتب الشاعر اللبناني (الخيامي) عصام العبدالله قصائده باللهجة المحكية اللبنانية، وهو واحد من الشعراء الذين حققوا حضورا جاذبا في المساحة الشعرية اللبنانية وتحديدا في بناء الصورة الشعرية ـ التي لا يمكن ان تكون الا نابضة ومتحركة وناشطة وترتسم في خيال المتلقي فور انطلاقها من مصدرها في ذات الشاعر أو في القصائد المكتوبة.
لا أغالي اذا قلت ان المحكية اللبنانية هي لغة شعرية كاملة، كل كلمة في هذه 'اللغة' هي فعل شعري ونبض مرهف وحيوية تساهم في انشراح المعنى إلى أبعد حدود الراحة والحرية. وعصام العبدالله، الى جانب كوكبة من الشعراء، عرفوا كيف يقطفون ورود هذه المحكية وكيف ينثرونها في المساحة الواسعة.
شاعر المحكية اللبنانية وصاحب 'قهوة مرة' و'سطر النمل' جلس قبالتي في مساء بيروتي في المقهى الذي لا يكاد يفارقه، وأجاب عن أسئلتي بثقة كبيرة، وكانت المحكية اللبنانية هي الموضوع وهي السؤال وهي الأجوبة.. فهي لغة جاذبة لا يمكن الخروج من دائرتها وأطيافها، حتى الكلام عنها يفتح الشهية على الكلام والاصغاء والبقاء في مساحتها الملونة.
نبدأ من المحكية اللبنانية، كيف ترسم معالم هذه المحكية، أين تصنفها داخل اللغة العربية؟
انها كلام على القصيدة، شعر مادته الصوتية اللهجة المحكية اللبنانية في اللغة العربية. وعندما أقول شعرا يكون نموذجي شعر العالم، القديم والجديد، العربي وغير العربي. فقط لأنزه شعر المحكية عن مسرح القوالين الجميلين لأنهم يستعملون اللغة غير الشعرية، أقصد الزجالين الذين، حسب مواهبهم، يلتقون بالشعر أو لا يلتقون.
ما خصوصية المحكية اللبنانية؟
سأروي لك هذا المشهد: الفصحى هي ابنة الملك، المحكية هي ابنة البواب، خصوصية المحكية هي انها ابنة البواب وسيدة أولى في الحفل الملكي، حيث يصعب أو حتى يستحيل ان ندعو ابنة البواب الى الحفل الملكي، فهي تدخل وهي الأحلى وهي الأجمل، لأن ابنة الملك التي هي الفصحى تكون قد دخلت مع ابيها وفي ظله، بينما الأولى تفتح أبواب الممالك.
ألا ترى ان المحكية اللبنانية مهما كانت فاعلة وجاذبة تبقى محصورة في الاطار المحلي وهذا ما يجعلها غريبة عن محيطها العربي؟
ليس دقيقا هذا الافتراض في السؤال، فالمحكية اللبنانية هي محكية الهلال الخصيب: لبنان وسوريا والاردن وفلسطين، تعاملهم كلهجة 'شامية' واحدة، تبقى الدول العربية الأخرى التي نام مثقفوها في فنادق بيروت، 'وكرعوا' من حرياتها حتى الثمالة وتفاهموا مع الرحابنة وفيروز. ليست بيروت، كلهجة، غريبة عن العرب، لذلك يفهمونها ويحتفلون بنا عندما يسمعوننا، ثم أخيرا، لست مرشحا للانتخابات لذلك لا أريد جمهورا عريضا. اكتفي بالقلة القليلة من ركاب الشعر الذين يأخذونه في كل اللغات وفي كل اللهجات. الركاب الذين لولاهم لا تقلع طائرة الشعر.
ابنة البواب
لماذا تكتب بالمحكية هل لأنها أقدر من سواها على ترجمة الحس الشاعري، فثمة من يقول ان المحكية كلها شعر، كيفما استعملت مفرداتها تحصل على قصيدة؟
لا أوافق على ان المحكية كمادة صوتية هي أقدر أو أقل قدرة من الفصحى على الامساك باللمعة الشعرية وترجمتها، الفصحى استطاعت وتستطيع، مشكلتنا ان نثبت ان المحكية قادرة على حمل اللحظة الشعرية وتقديمها. كنت اقول عنها انها ابنة البواب، وهي كذلك للذين يعتبرونها أقل قيمة من الفصحى، وهؤلاء هم كل العرب مع استثناءات نادرة. اكتب بالمحكية لأعيد القيمة الثمينة للمخاطبة، للأنس الإنساني الذي تنسجه اللغة المحكية. اكتب باللغة التي لم أتعلمها انها مولودة معي كشكلي ولون شعري وقامتي، بينما الفصحى نتعلمها في المدارس. هل المحكية أقرب الى الشعرية؟ لأنها ملتصقة بالنفس الانسانية. حتى لكأنها من البيولوجيا. أظن ان الجواب على مثل هذا السؤال، يجب ان يناط بمجموعة من النقاد والباحثين لتوضيح هذه المسألة. ليس من لغة سهلة ومن لغة صعبة، علاقتك بها هي الأساس.
كيف علاقتك بالفصحى، هل تكتب بالفصحى؟
لدي تجارب قديمة في الفصحى، منذ الستينات، وكانت ديباجتي وقتها مقبولة، ولكنني لسبب أو لآخر سكت عشرين سنة، ثم عاودني الكلام بالمحكية كما ينفر شيء ما فجأة فيمشي نهر وتشتعل ضفاف. كنت أكتب القصيدة الكلاسيكية الموزونة المقفاة ثم خرست، ثم نطقت بالمحكية وفي الشعر، لا استعمل سواها، بينما في النثر انا أكتب بالفصحى ويقال عن نثري إنه يشبه الشعر.
الأغنية
هل الأغنية هي قصيدة بالمحكية، ام انها نمط آخر من الشعر؟
في المكتبة العربية اكثر من عشرة ملايين بيت شعر، ما الذي غني منها؟ ليس القليل انما نادر الندرة، الأغنية تكتب لتغنى بالفصحى أو المحكية لكونها في المحكية لا يعني انها شعر، انها كلام للأغنية، قد يصطدم بالشعر وقد لا يقاربه، وفي الفصحى أيضا، لذلك، أنزه القصيدة بالمحكية عن كلمات الأغاني، وليس صدفة ان السينما المصرية القديمة لا تعرف أغاني الأفلام بأنها من شعر فلان أو شعر فلان، ماذا يقولون؟ يقولون كتابة الأغاني لفلان الفلاني، ولا يقولون شعر فلان الفلاني، أو يقولون كتب الأغاني فلان. وحتى نظل دقيقين وموضوعيين يجب ان أشير الى تجربتي في الأغنية: الرحابنة الذين غنوا شعرا حلالا، ومارسيل خليفة في أغنية الحرب الأهلية اللبنانية عند الرحابنة سنرى كيف يطوع الشاعر الشعر، وكيف يطوع الموسيقي الموسيقى لتصير الأغنية جميلة وخالدة. اما عن مارسيل فكأن تجربة غناء الشعر الحلال لمحمود درويش وحسن عبدالله وشوقي بزيع وعصام العبدالله وآخرين، وقد تشير هذه التجربة الى نفادها.
الريف والمحكية
ثمة من يقول ان الشعر بالمحكية هو ابن الريف.. ما رأيك؟
أولاد الريف ينتجون شعرهم فيكون ريفيا اذا بقوا ريفيين. نحن في بيروت مسألتنا أكثر تعقيدا. طفولتنا في القرى، يفاعنا في المدينة، شبابنا في المدينة. كانت تصنعنا ونصنعها، ليس صحيحا ان المحكية ريفية، المحكية مدنية بامتياز اذا كان شاعرها مدنيا وأنا كذلك. في قصيدة 'بيروت' كان الريفي يبتهج بالمدينة وهو يؤلفها وكانت مدرسة وجامعة ومقهى وكانت مدينة. لا يختص الشعر بموضوعات، ولا تختص لغة ما أو لهجة ما بموضوعات متخصصة. قل لي شعرا أقل لك من أنت. في الفصحى وفي المحكية، الريف ريف والمدينة مدينة، ويختلطان كما هي عليه الحال. المدينيون الذين يذهبون في الفرص والأعياد الى قراهم يحملون معهم المدينة ثم يعودون ومعهم شيئا من الريف.
بين الفصحى والمحكية
هل وجدت نفسك في صراع بين المحكية والفصحى لاستخراج الصورة الشعرية؟
عندما أركب لألاقي قصيدتي أكون في حالة المحكية ولا تقترب مني الفصحى، أحيانا تقترب مني صور فصحاوية، أدرسها وابتعد عنها واستفيد منها 'استفيد من منهجها في الذكاء وفي الطرافة. أضع نفسي في 'مود' المحكية.
شعراء المحكية.. شعراء الفصحى
شعراء المحكية أقلية اذا ما قارناهم بشعراء الفصحى كيف تفسر الأمر؟
اعترف لك بأن شعراء الفصحى هم أكثر من شعراء المحكية وأكثر وجاهة، الا ان المغامرة التي يتكبدها شعراء المحكية كبيرة، ولأنهم كرام فهم قلة أقول لك إن كتابة الشعر بالمحكية أصعب من الفصحى، أنت بكلام قليل يفترض ان تطلق سهمك وتصيب. مفردات المحكية أقل بكثير من مفردات الفصحى. في المحكية الحصان حصان، والسيف سيف، مفردة واحدة، بينما تعرف كيف الحال في الفصحى. في المفردات القليلة ستنشئ مملكة، انها اصعب من ان تنشئ مملكة، بينما الكلمة الفصحى شاسعة ومتعددة وانجزت خلال مسيرتها الكثير من الروائع. أنت محاصر في المحكية ومع ذلك يلمع حصارك.
المدينة
ماذا تعني لك المدينة؟
أمي وعماتي وخالاتي وكل أقاربي ومدرستي وجامعتي، حيث نما عصام العبدالله واكتسى موهبته وخرج الى الناس شاهرا عكازة خضراء اسمها الشعر ينحني عليها حتى ليكاد يقبلها.
المدينة هي البحر والسماء المفتوحة ودبيب البشر، الغرباء الذين يتجاورون ويتفاهمون ولا يتفاهمون، يعيشون في صخب حتى لكأن الحياة مهرجان.
المرأة
المرأة في حياتك كيف تفسر حضورها؟
انها واجبة الوجود، تفتح لك بابا للغريزة حيث يكمن السر الا المبين، تلدك ثم تستولدها، تأخذك في حضنها ثم تأخذك في حضنها. عندما تصبح فحلا تعطيك حقلها، عندما تصير حصانا تعطي الريح، ثم لا تتجرأ عليها، تتركها في المكان السري لتخونها كأجمل ما تكون الخيانات. المرأة من سكان القصائد وهذا صنف من البشر خاص وعذب.
شعر وبيانو وساكسافون
عصام العبدالله يرفض نشر قصائده في كتاب اذا لم يرفق معه 'كاسيت' بصوت الشاعر لأنه يعتبر ان القصيدة بالمحكية اللبنانية لا تصل الى المتلقي بالإملاء انما تصل بالصوت، والصوت يحتاج الى 'بيانو' زياد الرحباني و'ساكسفون' توفيق فروخ.
* عن مجلة النخبة
تعليقات: