الاحتباس الحراري - عن الجزيرة
كوبنهاغن والعالم ولبنان...
في انتظار حسم المعركة داخلياً في مجلس الشيوخ..
الهند والصين تتريثان والولايات المتحدة الأميركية لا تجيب..
كوبنهاغن:
"إنه لمن سخرية القدر ان تكون البلدان الاقل تسبّبا بمشكلة الاحتباس الحراري (الاقل نمواَ) اكثرها تضرراً... انّ كل اتفاق في شؤون الحد من هذه الظاهرة المخيفة يجب ان يرتكز على العدالة المناخية...". بهذه العبارات استهلّ كوفي عنان حفل افتتاح المؤتمر الذي استضافته اوبرا كوبنهاغن، الضاربة، وذلك بدعوة من مؤسسة (1) "Project Syndicate"، وأتى تحت عنوان: "من كيوتو الى كوبنهاغن".
المؤتمر شكل حدثا حضره الكثير من الشخصيات السياسية والعلمية العالمية وقادة الرأي في البسيطة، لمناقشة موضوع الحد من الانبعاثات الحرارية، التي هي في اساس الاحتباس الحراري، الذي يعتبر السبب الرئيسي تدهور أحوال اناس في افريقيا ودول العالم النامي (جراء الجفاف والفيضانات وسائر التبدلات المناخية).
ظاهرة سببتها الدول الغنية للدول الفقيرة عموما، وافريقيا السوداء خصوصاً، التي اعلن قادتها أنهم غير معنيّين بحلها، وبكل ما يجري في كوبنهاغن. فكأنّ اولئك القادة قالوا بذلك، انّهم يديرون كوكبهم الخاص الذي لا علاقة له بالارض. نعم، لم يرغب اولئك الزعماء في المساهمة في صنع الحل الذي يعوض على شعوبهم خسائرها (الافادة من موارد سوق الكاربون لتطوير اقتصاداتهم)، بل انكفأوا تمهيدا لقبول المتوافر لاحقا، مطلقين بذلك رصاص الرحمة على اجساد بلدانهم الغارقة في غيبوبة.
سأحاول في هذا التحقيق نقل اجواء ما شاهدت ليستطيع القارئ معرفة ما اذا كانت تلك المعاهدة ستوقع، وتدخل حيّز التنفيذ، كما سأسعى الى الاقناع بالعمل على دفع لبنان الى تفعيل مشاركته في مفاوضاتها، وابدال مناكفات قادتنا بمادة دسمة للمناقشة في هذا الاطار.
افتتاح المؤتمر
لم يكن كوفي عنان المتكلم الوحيد في ذلك الحفل، اذ انّ رئيس الوزراء الدانماركي لارس راموسين استهل المناسبة بكلمة. اما كلمة الختام فكانت لرئيس المفوضية الاوروبية جوزي مانويل باروزو.
رئيس الحكومة الدانماركي اعتبر أنّ موضوع الاحتباس الحراري يتضمن اوجها علمية واقتصادية وسياسية، مشيراً الى انّ الهدف الاساس من معاهدة "كوبنهاغن" هو الابقاء على معدلات ارتفاع الحراراة تحت سقف درجتين مئويتين. كما أكد انّ موضوع الاحتباس الحراري، على الرغم من انتقاله الى صفحات الجرائد الاولى في الآونة الاخيرة، مازال صعب التسويق. فحسبه انّ نقل حقائق المناقشات العلمية الى الناس متعذر في ظل سطوة شبح تأثيرات الازمة المالية العالمية. واعترف بأنّ ثمة صعوبات في اقناع الناس بفرص التحوّل الاقتصادي، على الرغم من انّ اعتماد الاجندة الخضراء هو الحل الامثل لمشكلة العالم المالية المعقدة. ويرى رئيس الوزراء الدانماركي انّ العالم المتطور مدعو اليوم الى خفض انبعاثاته، كما انّ العالم الاقل نموا مطالب ايضا بالابتعاد عن طرائق "الاعمال كالعادة"، وذلك بمساعدة المعسكر الاول. كما اشار الى انّ خلق آلية لتفعيل سوق الكاربون وعمل القطاع الخاص، ضروري لتحفيز الاستثمار الاخضر، ولهذا يتوجب ايجاد نظام اشراف ومراقبة وتتبع يحقق نتائج واقعية. وختم بالقول: "ويبقى السؤال الاساس، هل ستقرّ معاهدة كوبنهاغن؟ وجوابي على ذلك هو أنّ الديبلوماسية تعمل بكل قواها وبأنه لا بدّ من المنطق والحقيقة ان يبانا. اني فخور بأن اقول ان شعبنا في الدانمارك هو شعب اخضر، وقد اتخذنا الاجراءات اللازمة لارساء اقتصاد تنافسي اخضر، وانّ نخبة رجال اعمال الغد ستكون حتما من المستثمرين في التكنولوجيا الخضراء".
اما كوفي عنان فأعرب في كلمته عن ضرورة اقرار اتفاق يتسم بالعدالة تجاه الجميع، ودعى الدول الصناعية الى ضرورة تحمل مسؤوليتها حيال تداعيات مشكلة الاحتباس الحراري. ثم توّجه الى قادة الرأي، قائلا: "انكم، من خلال رسمكم الاولويات، تخلقون المحيط الذي يعمل فيه كل سياسي، وانتم مدعوون اليوم الى الانتقال من مرحلة الطلب الى العمل... الجميع في مركب واحد، فاما ان نغرق معا او ننجو جميعا... سلّطوا اضواءكم على مفاعيل فشل كوبنهاغن... ساعدوا القادة في التركيز على منافع كوبنهاغن وليس اخطار اقرارها ارفعوا اصواتكم. ازعجوا قادتكم بضجيجكم البنّاء... انّ مسؤولية كبيرة تقع على اكتافكم اليوم، الا انّ الجائزة تبقى اكبر".
وكانت كلمة الامين العام السابق للامم المتحدة ورئيس الاتحاد الاوروبي باروزو، الاهم والاكثر وضوحا وعلمية. فلم يخف من القول أنّ المفاوضات دخلت مرحلة المأزق الفعلي، وتحتاج الى دفع جديد، قد يشكل الاعلام احد محركاته.
بوروزو اعتبر أنه لا يحق لاحد ان يورث اولاده اكلاف وتبعات التبدل المناخي. كما افاد انّ توقيع معاهدة "كوبنهاغن" يشكل فرصة اقتصادية كبرى للعالم، ذلك لانها ترسي اسس اقتصادات جديدة ترتكز على المعدلات الدنيا من الكاربون، وهذا سيفضي الى موجة عارمة من الاكتشافات والوظائف في مجالات التكنولوجيا النظيفة. ثمّ قال: "لقد اتخذت اوروبا قرارا بزيادة معدل اعتمادها على مصادر الطاقة المتجددة الى حد العشرين في المئة مع بلوغ العام 2020، ما يعني زيادة في الاستثمارات تقدر بتسعين بليون يورو، وخلق سبع ماية الف وظيفة جديدة وخفض فاتورة استيراد الغاز بخمسة واربعين بليون يورو... انّ ما اقوله لكم اليوم واقعي بدليل ان معدل انبعاث الغازات الدفيئة للشخص الواحد عندنا هو اقل بأكثر من النصف مما هو في الولايات المتحدة الاميركية". وردّ بوروزو على بعض قادة العالم الاقل نمواً، فاعتبر أنه لا يتوجب اتهام الماضي بل مواجهة المستقبل، داعيا الدول الاقل نموا الى لعب ادوارها في خفض انبعاثاتها ايضا. واختتم كلمته بالقول انّ "كوبنهاغن" ما عادت موضوعا بيئيا بل ضرورة انمائية، وانّ السير في المسودة الحالية للمعاهدة، من دون غيرها من بدائل، مطلب اساسي اذ انه ليست للبشر كواكب بديلة عن الارض ايضا.
الا انّ مفاجأة المؤتمر الكبرى كانت خطوة رجل الاعمال جورج سوروس، الذي اعلن خلال عشاء نظمته رئيسة بلدية مدريد Ritt BJERREGAARD على شرفنا في القصر البلدي، أنه قد انشأ (صندوقا) حسابا ماليا اوقفه لأهداف اقامة مشروعات بيئية تنموية لدرء الاحتباس الحراري.
جلسات المؤتمر
لم افوت زيارة المواقع الاخبارية اللبنانية خلال وجودي هناك، فكان ان قرأت انّ "فلاناً تناول طعام الغداء مع فلان... وفلان يرفض توزير صهر ذاك الزعيم ويفضل ابن اخته"، وأنّ مسؤولاً في دولة قريبة او بعيدة بشّر بقرب تشكيل الحكومة... فأحسست بعدم الرغبة في العودة، اذ انّ ديموقراطيتنا هي لعبة "بيت بيوت". ثمّ حزنت، اذ اني لم اجد اي صفحة رئيسية في تلك المواقع تنقل للبناني ما يجري في العالم. لم يكن في صفحاتنا الاولى محل لبوروزو او كوفي عنان او يوشكا فيشر، الا اذا ما تطرقوا الى ازقتنا الصغيرة. من هنا تساءلت: "لماذا يبقى اهتمام الاعلام عندنا منصبّاً في شكل رئيسي على الفتات، ونغفل لحظات كبيرة من تاريخ البشرية؟ ولماذا لا تجتمع حكومة تصريف الاعمال الى حين "اكتمال النقل بالزعرور"؟ وهل تكفي لجنة مشّكلة من وزير البيئة كي يتحضر لبنان لمثل هكذا مؤتمر، وبهذا الحجم من الانعكاسات الوجودية والاقتصادية على العالم ولبنان؟ ثمّ اين وزارات المال والاقتصاد والخارجية والصحة من كل ما يجري في كوبنهاغن؟.
استغرقت جلسات المؤتمر يومين، واستضافت وزير البيئة الهندي Jairam RAMESH، ونظيرته الفنلندية Connie HEDEGAARD ، كما عضوة البرلمان الياباني Yuriko KOIKE، وعميد لجنة الامم المتحدة للحوار في الاحتباس الحراري ما بين الحكومات Rajendra PACHAURI ومساعد وزير الطاقة لشؤون السياسات والتعاون الدولي David SANDALOW في الادارة الامريكية الحالية، ومندوب الصين والرئيس البرازيلي السابق Ernest ZEDILLO وJoseph STIGLITZ وPeter SINGER والاقتصادي Nicolas STERN. محاضرات قادها اكاديميون كبار في الاقتصاد والتنمية المستدامة، واجمعت كل المداخلات على ان كوبنهاغن تشكل فرصة حقيقية لاعادة تنظيم الاقتصاد العالمي وحلّ الازمة المالية العالمية.
أحسست خلال ندوات المؤتمر انّ علاقة الساسة بالاكاديميين هي ضمانة للعالم المعاصر ولبلدانهم، كما تلمّست جودة طينة بعض قادة العالم وقدراتهم التقنية والسياسية، فحزنت لبلدي، قائلا في نفسي: "آه يا لبنان، كم ظلمك اهلك بقادتك! فقادتنا لا ينتقون عادة افضل ما عندهم للمواقع الريادية لشكر البلد ومنتخبيهم، بل يسعون الى مكافأة من والاهم شخصيا، وعندها تحصل الكارثة. فكأنهم بذلك يقولون للناس اننا لا نقيم لكم وزناً، وحاسبونا اذا ما استطعتم الى ذلك سبيلا!".
على الرغم من النجاح الكبير الذي حققه، فقد أغفل المؤتمر تأثير تقلبات اسعار النفط ومخزونه على الاحتباس الحراري. كما لم يُدع اليه ممثلون عن النفط الخليجي والغاز الروسي ومن العالم الثالث الذي ما زال يعتبر نفسه غير معني بالامر. اثير عدد من النقاط في اللقاءات العامة والجانبية، واجمل ما استمعت اليه كان دعوة Yuriko KOIKE (زعيمة من زعماء المعارضة اليابانية)، في جلسة جانبية، من الموفد الصيني الى الكلام مع رئيسه لتوقيع المعاهدة بصيغتها الحالية فينال جائزة نوبل للسلام العام المقبل. فكان ان ردّ عليها المندوب الصيني قائلا: "اقنعوا صديقكم الرئيس الاميركي الذي نالها للتو كي يوقع اولا". اما مساعد وزير الطاقة الاميركي، فقد اعتمد استراتيجية الاكثار من الكلام العام في الجلسة العامة وعدم اعطاء اي موقف. كما ابتعد عن الصحافيين والجلسات الجانبية بذريعة مواعيد استجدت على اجندته في الدانمارك. الا انّ الموقف الاكثر اهمية جاء من الاتحاد الاوروبي، الذي قال بلسان مسؤوليه في المؤتمر، انّ اوروبا ستمضي، وسائر دول العالم، قدما في توقيع كوبنهاغن حتى من دون الولايات المتحدة الامريكية، وانّ الدولة التي لن توقع المعاهدة قد تجد نفسها معزولة عن العالم وستفوت الكثير من الفرص الاقتصادية. موقف يعطي المفاوضات زخما ويعيد خلط الاوراق وتحديد الاولويات.
لقاءات خاصة
وفي لقاء خاص مع وزير البيئة الهندي Jairam RAMESH، ابلغت أنّ الهند تفضل تأجيل موعد توقيع اتفاق كوبنهاغن الى موعد آخر، ريثما يتم الاتفاق بهدؤ على كل مكونات المعاهدة كي لا تضحي بدورها نصا بلا روح. فدولته تعتبر انّ تحديد معدل الانبعاثات في دولة ما، يجب ان يتم قياسا على الفرد (الانبعاثات الاجمالية / عدد السكان)، وليس على الدولة في شكل اجمالي. كما اعرب لي ان بلاده تفضل اعتماد سياسة الخطوة خطوة في الاقرار التدريجي للمعاهدة. فموضوع تمويل اعادة التشجير للتعويض عن الانبعاثات مثلا، هو موضوع اجمع الجميع عليه فلماذ لا يتم اقراره ومن ثمّ المضي الى غيره؟؟
ثمّ اعرب الوزير الهندي عن امتعاض بلاده من جراء خروج اوروبا عن مبادئ كيوتو في جلسة بكين التفاوضية الاخيرة وذلك ارضاء للولايات المتحدة الاميركية واستدراجها الى الاتفاق، طالباً من الاتحاد الاوروبي العودة الى ثوابت كيويتو.
اما Yuriko KOIKE احدى زعيمات المعارضة اليابانية، وقد واكبت كيوتو سابقا، فبدت مهتمة جدا بموضوع انخراط الصين في المعاهدة. وقد اعربت لـ "النهار" في مقابلة خاصة عن انّ الحكومة السابقة في بلدها اتخذت كل التدابير والمبادرات لانجاح كوبنهاغن، واليابان تنتظر من العالم التجاوب كي تقدم المزيد على طاولة المفاوضات.
وجوب تفعيل الدور اللبناني
لست ادري ما اذا كان لبنان يفضل سوق الحصص لاسواق الكربونCap & trade او تحديد ضريبة مباشرة ترتكز على الكلفة؟ ولو انهم سمعوا STIGLITZ فربما كانوا ينتقون حتما النظام الاول، لانه يعزز، وفق الاقتصادي، سوق الفساد في نظام الزبائنية السياسي عبر فتح ابواب توزيع الحصص وبيعها، على عكس النظام الثاني الذي يحدد ضريبة ويفتح السوق امام الجميع في الصناعة.
ثمّ اني لا استطيع التكهن ما اذا كان موضوع الاحتباس الحراري هو موضع اهتمام لدى قادتنا؟ "فكل شيء عند العرب صابون" على حد قول المثل، ولولا همة وزير الداخلية والمحسنين لما كان البلد مني بطائرتي اطفاء للابقاء على بعض اشجاره.
كل ما اعرفه، وهو قليل، هو انّ معاهدة كوبنهاغن تمنح بلد الارز فرصا كبيرة لجهة تزويده الاموال اللازمة لاعادة التحريش مثلاً، والمحافظة على ما تبقى من غابات واحراش عنده، كما لتنظيم مصالحه الصناعية كي تتلاءم مع الشروط البيئية التي ستلتزمها اوروبا وتلزم كل الذين يرغبون في تصدير صناعاتهم اليها وذلك مقابل شراء رخص الكاربون لتشريع الحد الحالي من انبعاثاتهم الحرارية.
حسبي انّه، وفق المثل الشعبي، "انّ من حضر السوق باع واشترى". فالمطلوب ان يكون لبنان حاضرا بكل قوته هناك كي ينقل وجهة نظره الى صانعي القوانين الدولية كي تتلاءم صناعة قوانينهم، بالحد الادنى، مع مصالح البلد الصغير وذلك عبر التعاون مع من هم على صورته ومثاله.
بلد مداخن الذوق
غادرت الطائرة كوبنهاغن. فبانت لي من فوق طواحين هواء توليد الطاقة النظيفة المتجددة، التي وضعت في المياه الاقليمية الدانماركية، والتي تزود تلك البلاد عشرين في المئة من الكهرباء. غادرت متوجها الى بلد دواخين ذوق مكايل ومحاربي طواحين الهواء، ولم اجد لتلك العودة سببا مباشراً، الا اني لم أولد في لبنان بالصدفة بل لكي اصنع شهادتي، فألفت اهلي، في مثل هذه الحال مثلا، الى موضوع وجودي، واعمل واياهم كي يتكرم علينا قادتنا ببعض ما تبقى من وقتهم ومجهودهم لحل مثل هذه المشكلات الوجودية، فتتشكل مثلا لجنة وزارية لتتبع كوبنهاغن (تتألف من وزراء المال والاقتصاد والبيئة في الحكومة الحالية).
ثمّ رحت انظر من الطائرة، وأفكر في عبثية القدر وجهل قادة العالم الثالث. اما العبثية فلأنّ لعنة العالم المتقدم لا تنفك تلاحق الضعيف والمعذب والجائع من بلدان العالم الثالث، فكأنّه اريد لعالمنا النامي ان يكون المكب الدائم لكل تأثيرات ونفايات العالم الاكثر تطورا وذلك برعاية نواطير(زعماء) يغرق معظمهم في الجهل.
(1) مؤسسة متخصصة في تزويد وسائل الاعلام بمقالات كبار الكتّاب وصنعة القرار العالمي والمختصين
تعليقات: