دبس الخروب.. على رأس قائمة المؤونة الشتوية
بيروت:
«إجا مين يعرفك يا خرّوب» عبارة تتردد على ألسنة اللبنانيين عندما يكتشفون فائدة أمر ما كان طي الإهمال. والواقع أنهم مثل سائر شعوب الجوار، وبالأخص الأردن وسورية وفلسطين، اكتشفوا فائدة الخروب منذ القدم، زينة وغذاء وتصنيعاً، لذا اتخذوه نموذجاً للدلالة على أهمية اكتشاف الفوائد قبل الحكم على الأمور، وبالتالي عندما يأخذك هوس العودة إلى الغذاء الطبيعي والسليم والخالي من المبيدات والكيماويات، لا بد من أن يتبادر إلى ذهنك دبس الخروب، الذي لا يغيب عن خزائن المؤونة لدى اللبنانيين، ولا عن موائدهم. ويقصد اللبنانيون البلدات الريفية على أبواب فصل الخريف لابتياع الدبس في هذا الموسم، وتحديداً دبس الخروب، الذي يضفي على مؤونة الشتاء نكهة خاصة.
وتكثر البلدات اللبنانية التي تصنع الدبس، وتتوزع بين جبل لبنان، وتحديداً في مناطق القصيبة ونابيه والمسأة، وفي المناطق الشمالية مثل عكار والبترون وأميون، وصولاً إلى الجنوب، خاصة مدينة صور، بالإضافة إلى إقليم الخروب في قضاء الشوف اللبناني. وما أن تعبر المدخل الرئيسي لإحدى هذه البلدات حتى تفوح في الأجواء روائح عطرة وطيّبة، تقودك إلى أحياء وشوارع تضيق على جوانبها بأكياس محمّلة بالخروب الأسود، تكدّس بأعداد كبيرة أمام معاصر الدبس.
وخلال جولة ميدانية لـ«الشرق الأوسط» في بلدة القصيبة اللبنانية في قضاء المتن الأعلى، توقفنا أمام واحدة من المعاصر الخمس الموجودة في البلدة. واطّلعنا من صاحب المعصرة اللبناني الياس نعيمة على معلومات خاصة بصناعة الدبس، بدءاً بقطف الخروب الأسود، مروراً بعدة مراحل تتم على فترات متقطعة، وصولاً إلى طبق الحلوى الشهير «الدبس مع الطحينة».
وبالإضافة إلى «التصنيع البيتي»، هناك معاصر للخروب تترافق مع معاصر الزيتون، وهي تمتد من الشمال حتى «إقليم الخروب» في منطقة الشوف التابعة لمحافظة جبل لبنان، وهذه المعاصر ورثها الأبناء عن الآباء والأجداد. ويشرح مخايل بولس صاحب إحدى تلك المعاصر التي ورثها وشقيقه عن والدهما آلية العصر في بلدة وادي الزينة، فيقول: «تقطف الثمار عندما تسود ثم تطحن وتترك سبعين يوماً، يفصل بعدها الخشن قبل وضعه في أجران النقع، حيث يوضع الخشن في أسفل الأجران، أو الآنية الفخارية بنسبة 25%، فوقه الوسط بالنسبة نفسها، والباقي يخصص للنوع الناعم. ويتم النقع على مراحل ست مدة كل واحدة ساعتان، وبعدها يتكون لدينا عصير الخروب الذي يغلي في الخلقين حتى يصبح لزجاً ومثيراً للشهية. ثم يوضب في آنية بلاستيكية تباع إما داخل المعصرة أو في المحال التجارية أو السوبر ماركت».
أما في بلدة القصيبة فيُقطف الخروب الأسود عادةً خلال شهر أغسطس (آب)، ويجري توضيبه داخل أكياس من الخيش، بانتظار إدخاله إلى المطحنة ليخرج منها بعد ساعات قليلة على شكل شرائح مختلفة الأحجام. وتُترك شرائح الخروب لمدة شهر تقريباً حتى تجف من الداخل. ثم توضع في الغربال الذي يفصل بين الشرائح الخشنة والمتوسطة والناعمة، كذلك يفصل البزر عن الخروب ويوضع جانباً. وفي المرحلة اللاحقة، يتم نقع الخروب لمدة ثلاث ساعات في المياه الحلوة داخل أوعية كبيرة من «الستانليس ستيل»، حيث توضع الأحجام الكبيرة في الأسفل والصغيرة في الأعلى. ثم يُصفى عصير الخروب من كل الرواسب التي ترقد في أسفل الوعاء، لينتقل نظيفاً إلى وعاء كبير من النحاس يتسع لـ 350 لتراً من العصير كحد أدنى. ويوضع العصير فوق نار درجة حرارتها لا تتجاوز C?75 . وقبل إخراج الدبس من الوعاء، تُزال كل الرواسب التي تظهر على سطحه. بعدها يُخزن دبس الخروب داخل براميل كبيرة من البلاستيك المتين وتبلغ سعة البرميل الواحد 300 كيلوغرام تقريباً. أما قشوة الدبس المعروفة بالرغوة البيضاء اللون، فتوضع على حدة داخل برميل من الستانليس. وأخيراً يوضع الدبس في علب بلاستيكية جيدة الصنع، تختلف سعتها بين كيلوغرام واحد وكيلوغرامين، استعداداً لعملية البيع والشراء التي تتم من المعصرة مباشرة أو عبر السوق. أما سعر الكيلو الواحد من دبس الخروب فيتراوح بين أربعة آلاف وخمسة آلاف ليرة لبنانية أي ما يعادل ثلاثة دولارات. ويوضح بولس أن معصرته تستقبل سنوياً نحو 200 طن من الخروب، يستخرج منها نحو 80 طناً من الدبس على أساس كيلوغرام واحد من الدبس من كل 2.5 كيلوغرام من الخروب.
وإذا كانت معاصر الدبس تقوم على السواحل وعددها 15 معصرة، فلأن هذه الشجرة لا تنمو إلا في السواحل والأواسط، وفي التربة الخفيفة والفقيرة. وتبدو الشجرة كبيرة التاج وكثيفة الفروع، ومركبة الأوراق، وصغيرة الأزهار، وعميقة ومنتشرة الجذور، وقابلة لتحمل درجة حرارة تفوق 45 درجة، كما تتحمل التعرض للشمس، والجفاف، ولكنها لا تتحمل الصقيع. ويمكن تركها «على الطبيعة»، أي من دون سماد أو ماء، ويمكن تسميدها بالأسمدة البطيئة الانحلال وسقيها ببعض الماء بين الحين والآخر.
واللافت في غالبية الصناعات التقليدية اللبنانية أنها تنطلق من مناطق معينة وتستمر فيها إلى أجل غير مسمى. وصناعة الدبس بدورها حافظت على إنتاجيتها وجودتها على مدى سنين طويلة. وارتبط اسمها بأسماء المناطق التي اشتهرت بها، فيقال مثلاً هذا «دبس القصيبة» وذاك «دبس عكار» وآخر «دبس الجنوب»، كذلك ارتبطت بأسماء العائلات التي عمّرت طويلاً في هذا المجال. ولا شك أن التنافس موجود اليوم بين مختلف المناطق المصنعة للدبس وحتى بين أهالي البلدة الواحدة. ولكنها تبقى مبارزة شريفة وودية، يسعى فيها كل فريق لأن يكون صاحب أطيب «دبس خروب» في المنطقة، ليحقق بعد ذلك شهرة واسعة على صعيد كل لبنان والوطن العربي. ويتميز دبس العائلة الفلانية عن سواها من العائلات أو دبس منطقة معينة عن غيرها من المناطق، بعدة معايير أساسية في هذه الصناعة. نبدأ بنوعية الخروب المستعمل ويقسم نوعين، هناك خروب الخشاب الطويل، والخروب المقدسي الصندلي بحجمه القصير، الذي يعتبر أفضل من النوع الأول، إذ يعطي كمية أقل من الدبس ولكن بأجود نوعية. ويخبرك كل صاحب معصرة دبس اليوم أنه ورثها عن أبيه الذي ورثها عن جده وهلمّ جرا. لقد ورث عنهم المهنة بأصولها وكل حيثياتها، لكنه سعى بدوره إلى تطويرها وتجهيزها ببعض المعدات الحديثة، التي تسهل عمله وبالتالي ترفع نسبة إنتاجه. ومع ذلك تبدو معاصر اليوم هي نفسها معاصر الأمس بطابعها الحجري القديم وأجوائها العابقة بروح الألفة والمحبة. فهي ما زالت المكان المحبب على قلوب جميع أهالي البلدة، خاصة الأشخاص المعمّرين فيها. وتصادف على مدخل كل معصرة عجوزاً أو أكثر، جالساً على كرسيه ويراقب الناس ذهاباً وإيابا، يسلم على أهالي البلدة ويتأهل بالزوار من أي منطقة أتوا. وإذا سألته عن رأيه بالدبس، أجابك بنبرة عالية: «اسمع يا جدي، الدبس هو أطيب أكلة في العالم، طبيعي 100%، بحلّي وبنشط وبيفيد، وأهم شي ما بيضرّ»، وكان أجدادنا وآباؤنا يعتمدون على الدبس كمصدر غذائي أول لكل ما يحتاجه جسمهم من السكر والطاقة. وهذا في ظل غياب مختلف أنواع الحلويات العربية والأجنبية المتوافرة اليوم وبكميات كبيرة ومغرية. وفيما يلجأ البعض إلى استخدام شجرة الخروب للتظلل في الحدائق والمتنزهات، وحتى على جوانب الطرق، يمكن أن تتعرض هذه الشجرة لما يسمى «داء الفراشة» ولحشرة الخنفساء التي تلجأ إلى ثقب الثمرة أو قرن الخروب، ومن ثم تتلف البذور وتزول إحدى فوائد الشجرة.
ويخشى بعض اللبنانيين من أن تتعرض شجرة الخروب إلى الانقراض، إذا لم يتجدد الاهتمام بها وتعويض ما يقطع منها أو يمتد إليه اليباس، وخير دليل على ذلك تحول شجرة الخروب إلى شجرة نادرة في إقليم اكتسب اسمه منها.
وقد كان الدبس يستعمل في الطب القديم كوصفة لعلاج مشاكل الإمساك ومشاكل نفسية وجسدية مثل الضغط النفسي والكآبة والتعب والكسل وغيرها. وهو مادة طبيعية جداً لها فوائد غذائية عديدة، كما أكّدت اختصاصية التغذية جويا فرحات. فدبس الخروب مصدر أساسي للطاقة التي يحتاجها الإنسان في أي عمل جسدي أو فكري يقوم به. ويحتوي على نسبة 60% من مادة السكر ذات النوعية الجيدة، وهي ذاتها الموجودة في أنواع الفاكهة والعسل. وهذا النوع من السكر خال من الدهون والمواد المصنّعة، يمدّ الجسم بالمذاق الحلو من دون أن يدخل بسرعة إلى الدم. كذلك يحتوي على الفيتامين «ب» الذي يخفف من نسبة الضغط النفسي عند الفرد وينشط عمل الخلايا في الجسم، بالإضافة إلى المغنزيوم والبوتاسيوم. كما يساعد دبس الخروب على حل مشاكل الغازات وعسر الهضم والاكتام. وتزداد قيمة الدبس الغذائية عندما نأكله مع مادة الطحينة، التي تحتوي بدورها على دهون أحادية غير مشبعة، من شأنها أن تخفض نسبة الكولسترول السيئ وترفع الكولسترول الجيد. وتصل فائدة ثمرة الخروب إلى صناعة مساحيق التجميل من بذورها التي تقدر بـ5 آلاف بذرة في الكيلوغرام الواحد. كما تستخرج من هذه البذور مواد غنية تستعمل في تصنيع الورق وغيره من المنتجات الصناعية، أما ما يتبقى من استخراج المواد المفيدة، فيستخدم علفاً للماشية أو لتخصيب الأرض عوضاً عن المخصبات الكيماوية.
تعليقات: